الدكتور جون نسطه
كانت غبطتي كبيرة بهذا النجاح، أي: حصولي على شهادة “البكالوريا” السورية، وزوال عقبة كأداء، أمام معادلة شهادتي في الطب. جاءت أعداد كبيرة من الأقارب والأصدقاء والرفاق للتهنئة، وفي مقدمتهم المرحوم المحامي الرفيق برهان دراق، عضو اللجنة المنطقية للحزب في حمص، فمنذ وصولي إلى حمص قادماً من ألمانيا قمت فوراً بالاتصال بمنظمة الحزب التي كنت أعرف أن غالبيتها تقف على مسافة من خط خالد بكداش وجناحه. فكلفت اللجنة المنطقية الرفيق برهان بالتواصل معي، كان يأتي لمنزلنا كل يوم جمعة قبل الظهر، فنقرأ سوية مشروع البرنامج السياسي فقرة فقرة، ويسجل ملاحظاتي عليها، التي كانت بالغالب إيجابية ومؤيدة. كان هذا الرفيق، برهان، من ألطف وأكرم، وأنبه، وأذكى، الرفاق الذين قابلتهم في حياتي الحزبية.
حصلت على وثيقة من إدارة التربية والتعليم تثبت نجاحي في الثانوية العامة، وتوجهت بها إلى وزارة الصحة في دمشق، ودخلت إلى مكتب رئيس الدائرة القانونية أريد تسليمه الوثيقة. وقفت أمام طاولته العريضة لدقائق وهو يقرأ في أوراقه، دون أن يرفع رأسه باتجاهي، وكأني غير موجود على الإطلاق، فقدت صبري، وقذفته بوابل من امتعاضي وتأكيدي أنني أشرف منه وأكثر وطنية وعلماً، وأنه طائفي ورجعي وضيع بالإضافة إلى بعض السباب، وخرجت فوراً.
التقيت صدفة في دمشق برجل كان يعمل معي في “كمب الصحراء” حيث كان بزيارة لعائلته، وسألني عن أحوالي، فحدثته بما جرى بيني وبين مدير الدائرة القانونية. فقال: “لا عليك”، وهدئ من روعك، أخي يعمل ضابطاً في سرايا الدفاع، وسوف يذهب معك غداً إلى وزارة الصحة، لمقابلة هذا الموظف الحقير. وفعلاً قدِم الضابط بلباسه العسكري وبسطاره الغليظ في اليوم التالي للقائي في الوزارة، ودخلنا دون طرق الباب، على ذات الرجل الذي كنت عنده البارحة، ولمّا شاهدنا وقف فوراً من على كرسيه، مرحباً مؤهلاً، مع تعابير الاحترام والتبجيل، وهو يقول: “تفضل دكتور جون بالجلوس.. تفضل سيادة الضابط وتكرم علي بأوامرك”.
تعجبت من سلوك هذا الرجل الوضيع، لم أكن في حياتي كلِّها صادفت هكذا إنسان. المهم أنه تسلم الوثيقة شارحاً أن عملية معادلة شهادتي ستتم بأسرع وقت، بعد تقديم فحص التعادل، “كولوكيوم”، من قبل وزارة التعليم العالي، راجيا منّا شرب القهوة، وكأن شيئاً لم يحدث البارحة ودون خجل.
فحصُ التعادل كان يجري في بهو واسع في مشفى المواساة الجامعي، وفي اليوم المحدد للامتحان ذهبت رفقة الدكتور نايف بلّوز إلى هناك. كان يرأس اللجنة الفاحصة الاستاذ الدكتور مدني الخيمي، عميد كلية الطب. وفي البهو كان يقف عشرات من الأطباء المتقدمين للفحص، إلى جانب العشرات من معيدي الجامعة والأطباء المقيمين وبعض الطلبة، وكان الفحص شفهياً وعملياً.
جاء دوري مع ثلاثة أطباء لا أعرفهم، وبدأ الاستاذ “مدني” طرح أسئلته تباعاً على كل منا، وكانت أجوبتي تنال رضاه من خلال تعابير وجهه، وتوقف عندي مصعّداً بصعوبة الأسئلة، إلى أن توقف وسألني لماذا أنت تعرف كثيراً وبدقة؟
لم أكن أتوقع مثل هذا السؤال، فأجبته أستاذنا أنت تعرف أن لا أسرار في العلم. وأنا اقرأ أخر البحوث الطبية التي تصدر في العالم بعد ثلاثة أيام مترجمةً إلى اللغة الألمانية.
ولكنه تابع يسألني إذن لماذا زملاؤك هؤلاء خريجي بلغاريا وهنغاريا والاتحاد السوفياتي… لا يعلمون ولا يعرفون مثلك؟ قلت: من يريد أن يعرف ويتعلم فالأمر منوط به.
انتهيت من الامتحان وقلت لصديقي نايف، هيا نذهب إلى المدينة، نشرب نخب النجاح، فما كان منه إلا أن أجابني، “صحيح إنك حمصي”. هذا مدني الخيمي يمدحك أعظم مديح، وهذا لا يجري كثيراً على لسانه. انتظر قليلاً قبل أن نغادر.
وقفنا مع الجمهور إلى أن انتهى الفحص، وإذا بالاستاذ الخيمي يتوجه نحوي مصافحاً وقال لي: “أهنئك وسعدتُ أن أفحص طبيباً قديراً مثلك، وإذا احتجت لأي مساعدة في المستقبل فأنا سأقدم لك الدعم.
طبعاً، زوجتي الألمانية اجتازت فحص التعادل بنجاح والكلام باللغة العربية طبعاً. لكنها لم تطالَب ببكالوريا سورية، وأصبحنا نحن الاثنين طبيبين معترف بهما رسمياً. الآن، بعد مرور سنة وسبعة أشهر على وصولنا من ألمانيا، ما العمل؟ ونحن لا نملك قرشاً سورياً واحداً ، ولسنا على استعداد أن نستدين قرشاً من أحد. وهذا يعني عدم قدرتنا على فتح عيادة طبية تتطلب مالاً كثيراً.
لذلك قررنا العمل كأطباء مقيمين في المشفى الجامعي في مشفى المواساة في دمشق. حيث يقدم لنا سكن وطعام مجاني، ونكون بنفس الوقت متابعين العلوم الطبية بأعلى مستوى في سوريا.
سافرت إلى دمشق بغرض استطلاع إمكانية العمل في مشفى المواساة. وحصلت على موعد مع رئيس قسم التخدير والإنعاش، الاستاذ برهان بك العابد، ولقب “بيك” كان يطلق على أساتذة الطب في جامعة دمشق.
برهان بيك كان رجلاً في منتصف العمر، قصير القامة، مبتسم الوجه، لطيفاً، مؤدباً، ذكياً، صريحاً، صادقاً. بعد حديث مطول عن الماضي والحاضر والسير الذاتية لكلينا، بحت له برغبتي في العمل بقسم التخدير الذي كان يرأسه. فتبسم متعجباً وقال يبدو أنك رجل ذكي، ولذلك أقول لك صراحة، لا تتعب نفسك، ولا تضيع وقتك، فهذا شيء شبه مستحيل بل مستحيل،لأن من يدخل الى مشفى الجامعة، هم أبناء الأساتذة المؤهلين، أو الأطباء الحاصلين على أعلى الشهادات من أميركا أو بريطانيا أو من العائلات المرموقة الدمشقية عادة. فأين أنت من هذا كله؟أنا أصارحك محبة ووداً.
أنت خريج بلد اشتراكي، شيوعي على ما فهمت، مسيحي، حمصي، من عائلة مغمورة، لست أتاسياً ولا دوربياً ولا حتى سباعياً. فإترك هذا الطموح وإبحث عن طريق آخر. في الحقيقة كنت مرتاحاً لصراحته ووضوحه المطلق. ولكنني أجبته طالما الأمر هكذا، فانت شحذت همتي، وأنا رجل أحب مقارعة الصعاب من الأمور وتحدي المستحيلات. وودعته شاكراً.
تقدمت أنا وزوجتي بطلبين خطيين، إلى إدارة مشفى المواساة، وسلمته إلى الذاتية وأخذت رقم الطلب أصولاً، وتوجهت إلى مكتب الاستاذ مدني الخيمي، الذي أصبح وزيراً للصحة، وعرضت عليه الأمر، فوعدني بدعمي حيث يستطيع.
في زياراتي لدمشق كنت أحرص على لقائي بالسيدة المحترمة أم زياد إسرب، زوجة الصديق محمد إسرب، الذي تعرفت عليه وزوجته، في برلين. وكانت تصر كل يوم على قدومي لمنزلهما.
في منزل هذه العائلة الكريمة، كنت ألتقي بالنخبة السورية في تلك الفترة من وزراء ومديري دوائر وزوجاتهم، وزوجات كبار الضباط أيضاً يأتين للسهرات بمفردهم. وكنا نحي سهرات غناء وطرب.
هناك تعرفت على سيدة جميلة، صاحبة صوت غناءي متقن وجميل، ودودة، حميمية، وكانت بنفس الوقت منزعجة ومضطربة لأخبار تصلها عن زوجها، وهو من كبار وقادة الجيش السوري، بانه على علاقة عاطفية مع احدى الصبايا الجميلات، طالبة طب في الجامعه السورية، ويفكر بالزواج منها، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد. وقد تقربت مني وأعجبت بي، وأصبحت تحرص على مجالستي كلما التقينا في السهرات، وهي تغني للسيدة ام كلثوم، وكانت تخصني بأغنية “أغداً القاك؟”، وتشير بعينيها الي عندما تصل الى مقاطع،…هذا الدنيا سماء أنت فيها القمر، هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر الخ.
عندما سمعت بقصتي مع إدارة مشفى المواساة ووزارة التعليم العالي، وتعنتهم بعدم قبولي طبيبا عاملا هناك، تكلمت بالموضوع مع زوجها، الضابط الكبير وكان يشغل منصباً من أعلى المناصب في إدارة شؤون الضباط، وطلبت منه بالحاح أن يتدخل بالموضوع، فقام باليوم التالي بالإتصال هاتفياً مع المدير الاداري لمشفى المواساة، وقال له: عليك أنت وبقية أساتذة الطب تنفيذ أمري فوراً بتعيين الدكتور جون نسطة وزوجته الألمانية في نصاب طاقم أطباء المشفى وأغلق الهاتف.
بعد يومين ذهبت الى المشفى لمراجعة موضوع طلبي الخطي،فعلم مدير المشفى بوجودي هناك فأوعز لأحد معاونيه أن يقوم فوراً بإعلامي أن المدير يرغب بالحديث معي. ذهبت إلى مكتبه وأنا متوجس من هذه المقابلة، فاذا به يرحب بي ،على غير العادة، قائلا أنا طلبت من الدكتور برهان ومن الدكتور الأستاذ لطفي اللبابيدي أن يجروا معك محادثة، ما يشبه الامتحان، يكتشفوا فيها مقدراتك العلمية.وأنا بدوري سأعد طلباً الى رئاسة الجمهورية بإصدار مرسوم جمهوري بالتعاقد معك لمدة عام كامل، يمكن تمديده كل سنة. وسألني بفضول لماذا كل هذه الوساطات تدعمك، من وزير الصحة إلى كبار الضباط، قلت لا أعرف اسألهم أنت.
أجريت المقابلة مع الأستاذين برهان العابد ولطفي اللبابيدي، حيث وجها لي أسئلة فنية في علوم التخدير والانعاش، وكانا مرتاحين لأجوبتي.
توجهتُ إلى نقابة أطباء دمشق وسجلت نفسي وزوجتي أيضا في عداد أعضاء النقابة.
وزارة الداخلية طلبت من زوجتي أن تتقدم بامتحان باللغة العربية أمام فاحصين إثنين، كانا في غاية اللطف واللباقة والإنسانية، ونجحت طبعاً،لأنّ لغتَها كانت قد تحسنت كثيراً خلال وجودها بحمص.
لم يبقَ وقت طويل حتى بدأنا أنا وزوجتي بالعمل في مشفى المواساة، هي في قسم الأمراض الباطنية، وأنا في قسم التخدير الإنعاش.
كنت أول طبيب شيوعي يسمح له العمل في مشفى المواساة الجامعي، وكنت أول. خريج من دولةٍ اشتراكية أيضاً، باستثناء الدكتور نشأت الحمارنة الأردني الجنسية، الذي كان عضو احتياط في القيادة القومية، والذي تخصص في طب العيون وجراحتها في جمهورية ألمانيا الديموقراطية أيضا، وكانت تربطني به علاقة صداقة منذ ذلك الوقت. وكان رحمه الله كلما سمع مديحاً لي وعن قدراتي العلمية خلال عملي في مشفى المواساة، من بعض الزملاء، يرتاح ويعبر عن سروره، ليثبت للآخرين بان دراسة الطب في ألمانيا على مستوى عال، وفي هذا نوع من الدفاع عن النفس. وكانت زوجتي أيضا أول طبيبة أجنبية تعمل في هذا المشفى. كان راتبي 500 ليرة بالشهر وكذلك راتبها.
ومن المفيد أن أذكر أيضاً أن الدكتور سامي القباني ،جراح القلب، دخل معنا في نفس اليوم وكان راتبه أيضا 500 ليرة لاغير. كان شقيقي لبيب، بعد أن بدأنا العمل مباشرة، استحصل من البنك العقاري في حمص، على قرض بمبلغ عشرة آلاف ليرة سورية، على اسمي، كان بحاجة اليها. وكان علينا أن نسدد شهريأ مبلغ 500 ل.س.
وبهذا يبقى لنا 500 ل.س فقط.
استلمنا في المشفى غرفة واسعة نسبياً، فيها سريرين، وطاولة وعدد من الكراسي، وغرفة حمام واسعة أيضاً. كنت وزوجتي في غاية السعادة والرضى لوصولنا إلى ما وصلنا إليه بعد سنة وسبعة أشهر من المعاناة، والجهود المضنية والتعب.