الدكتور جون نسطه
ذهبت لوزارة الصحة في دمشق،وطالبت بمعادلة شهادتي في الطب. أحالوني إلى المديرية القانونية التي يرأسها رجل تبين لي فيما بعد بأنه طائفي ومعاد للشيوعية. فطالبني بالشهادة مترجمة الى العربية، وبشهادة الثانوية -بكالوريا- فقدمت له شهادة بكالوريا ألمانية، وفيها علامات جيدة، حصلت عليها قبل بدء دراستي في جامعة كارل ماركس في مدينة لايبزغ.فجاوبني هذهِ الشهادة لا قيمة لها، ولا تعادل قيمتها قيمة الحبر الذي كتبت به. عليك أن تكون حائزا على الشهادة الثانوية السورية والا لا نعترف بشهادتك هذه.
طلبت مقابلة وزير الصحة، ودخلت الى مكتبه، بعد موعد استغرق وقتا طويلا. وهو طبيب من مدينة دير الزور، رجل طيب ومنفتح، فعرضت الموقف الذي انا فيه، وقرأ شهادتي الثانوية الألمانية، واعجب بنتائجي في الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والبيولوجيا، وغيرها من المواد، فاستدعى رئيس الدائرة القانونية، وقال له هذه شهادة ممتازة في العلوم، فلماذا لا تعترف بها.
فأجاب لأنها لا تحتوي على مادة الأدب العربي، ولا مادة التربية القومية والدينية، ولا على مادة التاريخ العربي. فسأله الوزير هل هناك نص قانوني واضح، يتطلب حصول طبيب سوري درس في الخارج، على شهادة الثانوية السورية، فأجاب لا يوجد نص صريح بذلك، لكن هناك عرف وتقليد، ولا يوجد في سوريا طبيب واحد غير حائز على شهادة البكالوريا السورية. فأجاب الوزير، اذا لا يوجد نص قانوني بذلك، فلماذا تكون ملكيا أكثر من الملك، ولكنه بقي على موقفه.
كان هذا الكلام في الشهر الأول من العام 1970.
كان لي صديق من آل فلوح الحورانية، تكلم معي وقال دعنا نذهب لوزارة الصحة، فنائب وزير الصحة الدكتور نظمي فلوح وشقيقه الدكتور ناظم موظف ذو نفوذ واسع، هم ابناء عمي، لعلهم يجدوا لك مخرجا مناسبا.
دخلنا على الدكتور نظمي، رجلا رقيقا وناعما ومهذبا جدا، وعرضت عليه المسألة، فقال لي ان كل الدلائل تشير الى كونهم لا يريدونك،فلماذا عدت أنت الى سوريا؟ قلت لخدمة شعبي وقضية الحرية والاشتراكية، تبسم وقال اذهب أنت وزوجتك الطبيبة الى ألمانيا الغربية، التي ستأخذكم بالأحضان، وبرواتب نحلم بها.
عدت إلى حمص وانا بحالة خيبة امل كبيرة.
لم يكن لدينا أي دخل مادي، ولهذا عكفنا على البقاء دوما في البيت،لم نذهب الى دار سينما أو مقهى، حتى أنني لم أتصل برفاقي وأصدقائي القدامى، لأنني عاجز عن عزيمتهم أو قبول عزائمهم.
كانت زوجتي تهتم بوالدي المريض والمقعد فيما بعد من جميع النواحي تنظيفا وتغسيلا، ومعالجة الم بحقن إبر في الظهر، إلى إعداد الفطور والغداء والعشاء، الى التحدث معه بشكل مستمر حتى لا يشعر بالوحدة،وكانت تستقبل زواره من العائلة والأقارب، وتقوم بواجبات الضيافة بكل كرم وأريحية.
لم يكن أحدا ينتظر من هذه الاجنبية كل هذا،ومع الوقت صاروا يسمونها بالقديسة هاني،اختصارا لهانيلوري.
سمع ابن عمتي المهندس مدحت أبو خاطر،وهو مساهم كبير ومدير شركة تعهدات للبناء والتعمير، بوضعي وإني عاطل عن العمل بسبب عدم معادلة شهادتي بالطب.فجاءني إلى البيت، وقال لي هل انت مستعد للعمل عندنا بالشركة كممرض؟
قلت طبعا العمل شرف والبطالة ترف. فقال احييك. كان يعمل عندنا في كمب يقع بالقرب من قرية الباردة في صحراء تدمر ممرض يسعف بعض إصابات العمل البسيطة، ويعالج المرضى من إصابات لسعات العقارب والحيايا الخ، وكان راتبه الشهري مع المنامة والطعام، يبلغ 260 ليرة سورية، وبما انك دكتوراً فنعطيك مبلغ 360 ليرة. فوافقت على الفور. في اليوم الثاني صباحا حضرت سيارة وتوجهت بي إلى مكان الكمب، وكان في استقبالي هناك ابن عمتي الأخر، شقيق مدحت الاكبر سننا، حكمت ابو خاطر.
كانت شركتهم التي تسمى أبو خاطر. واخرس. وعطية. تبني طريقا اسفلتيا يصل حمص مع منابع الفوسفات في خنيفيس.
وفي الكمب المذكور بنيت غرف من البلوكات العارية، مع أسطح من الاترنيت السامة، وهناك مرآب او كراج كبير لتصليح الآليات الكبيرة مثل التركس والبغر والشاحنات الخاصة بعمليات البناء. وكان هناك ايضا مطبخا كبيرا جدا مع صالة طعام واسعة.كان الطعام جيدا ومتنوعا، ورئيس الطباخين من حمص من ال عبارة، كان صاحب مطعم ديك الجن على العاصي.يصل عدد سكان الكمب إلى 280 شخصا من مهندسين مدنيين، وسائقي آليات ضخمة وعمال اسمنت الخ.
تعرفت بسرعة على كل العاملين هناك بسرعة مذهلة، كل باسمه، وحضوري كل الأمسيات الموسيقيّة والغنائية المتقنة. وتوطدت بيني وبين العديد من العاملين هناك من عمال وفنيين ومهندسين، أواصر صداقة استمرت لسنين طويلة، اذ كان ايضا عاملا مساعدا في ذلك كونهم على الأغلب من مدينة حمص ومن أوساط يسارية.
نهار كل يوم خميس، كانت سيارات تنقلنا الى مدينة حمص في عطلة نهاية الأسبوع وتعود بنا صباح الجمعة إلى العمل. كنت أطمئن على أوضاع البيت وأسمع أخباره، وكانت زوجتي رغم هذه الظروف الصعبة، تبدي ارتياحها وسعادتها بخدمة الوالد وجو العائلة. شقيقي لبيب من سكان البيت أيضا، وعليه تقع مسؤوليات شراء الأطعمة والدواء وبقية الاحتياجية المنزلية، وكان يتقن الطبخ والتذوق بدرجة عالية.
وكانت زوجتي تساعده، وتتعلم منه، وبقيت طوال حياتها تطبخ لنا، أولادي وأنا، ولضيفونا الكثر أطيب الصحون من الأكل العربي، وكانت لا تتقن سواه.
في العودة الى كامب الباردة،عملي لم يكن مرهقا على الاطلاق، ويسمح وقتي بالتعرف على حياة الناس والعمال منهم على وجه الخصوص.كنت مندهشا من نفسي كيف استطعت أن أتخطى صعوبات الانتقال من أجواء برلين الحضارية وشروط الحياة المريحة، الى العيش في الصحراء القاحلة وظروف حياتها البدائية الخشنة.
الباردة قرية صغيرة جدا، وعدد سكانها ضئيل ومتنوع، تنوعا غريب جدا ملفت للنظر.
كان هناك قصرا صغيرا ودار ضيافة، يسكن فيه احيانا الأمير نايف الشعلان، وبالقرب جدآ من القصر، يقع ضريح والده الامير نواف الشعلان، ابن الأمير نوري الشعلان، الذي شارك بالثورة العربية الكبرى الذي أعلنها الشريف حسين بن علي، شريف مكة المكرمة، ورافق مقاتلا على رأس فرسان عشيرة الرولة، الأمير فيصل والأمير علي والأمير عبدالله في شهر حزيران من العام 1916، وصل الجيش العربي المنطلق من مكة،بقيادة الأمير فيصل ولورنس، ضابط المخابرات البريطانية الى دمشق بشهر تشرين الثاني من نفس العام.
اشترى الأمير نوري الشعلان دارا واسعة لا تزال موجودة الى الآن في حي الشعلان الدمشقي ،الذي أخذ اسمه من دار الشعلان، التي لا تزال الى الآن أبوابها مفتوحة أمام كل الضيوف.
الباردة تقع بالقرب من سد مائي، روماني ضخم جدا، ولكنه مهدما ومهملا منذ مئات السنين، هذا السد كان يجمع مياه السيول من أماكن بعيدة،
أخذت تتشكل منذ مئات السنين طبقة من الطمي على سطح السد.استدعى الامير نايف، بستانيا من غوطة دمشق ليعمل عنده في زراعة الأشجار المثمرة،التي أتت أوكلها في وسط البادية. وكان هناك موتور يعمل على بئر من الماء يشرف عليه ويصونه ميكانيكي، وهناك حانوتا أو دكان لرجل مسيحي يبيع فيه حاجيات أهل القرية البسيطة وعلى رأسها الدخان والنبيذ. ويسكن في نفس القرية لاجئ او دخيل على الأمير نايف من اغوات المنطقة، قتل عائلة بكاملها، من باب الثائر، وهرب مستجيرا بالأمير، وهو يقيم في دار مع زوجته وابنه بدون أي عمل، ضيفا على الأمير، الذي يقدم له كل حاجياته من طعام وشراب ونبيذ وقهوة وسائل ودخان.
ومن هذه التشكيلة الانسانية الغريبة لا أنسى العدد الأكبر من السكان،من طبقة العبيد السود، ورثهم من ابيه وجده .هم لا يجيدون أي عمل إطلاقا، رجالهم يجيدون استعمال الأسلحة والقتال.
نشأت بيني وبين الأمير صداقة وارفة وظليلة، كان الأمير يجيد الانكليزية وقليل من الإسبانية، نظرا لامتلاكه في مربيا قصرا كبيرا،يزوره في اوقات متباعدة.كان يعمل بالسعودية مديرا لإحدى المؤسسات الهامة. الأمير يحب الشعر والأدب، قارئا نهما، مطلعا على دهاليز السياسة.
في مجلسه المسائي تدور فناجين القهوة المرة على مجالسيه وضيوفه، ويركع على الأرض في صالونه أعداد من العبيد رهن اشارته، يخاطبوه يا طويل العمر أو يا عمي.
في إحدى الأمسيات سألته عن سبب وجود عبيده، في عصر جديد، يرفض العبودية ويمقتها، فأجابني أنا الآن عبدهم، على إطعامهم مع عائلاتهم والباسهم ومصروف طبابتهم، وفي كل فترة اقول لهم على الملأ، أنتم أحرار وطلقاء والله معكم فاذهبوا ان شئتم. ولكن لا يفعلون ويبقون غصباً عني.
استمرت صداقتي مع أبو ممدوح الأمير نايف، وكان كثيرا ما يدعوني مع زوجتي حين كنا نعمل في مشفى المواساة في دمشق لزيارته في بيته الرحب في دمشق لتقديم هديته، المفضلة عندي،جلباب أبيض خيط في السعوديه،ألبسها دائما في صيف دمشق الحار.
كان ابن عمتي حكمت ابو خاطر يقيم معنا في الكمب بشكل دائم ليشرف على سير الأعمال على الأرض، وهو أيضا عضو مساهم ومؤسس للشركة،رجل صارم بالعمل، ذات هيبة مدهشة، رغم طيبة قلبه ومحبته للناس، وشهامته، وتواضعه، كان ايضا يحبني لأنني لم أترفع عن العمل في ظروف قاسية، رغم إقامتي عشرة سنوات طويلة في ألمانيا. وكان كثيرا ما يطلب من ابو سهيل عبارة شيف الطباخين في الكمب، ان يعد لنا طاولة مميزة، نجلس حولها في المساء نرتع كؤوس المدام، ونسمع لبعض الأصوات الجميلة.
كنت انتظر قدوم شهر حزيران بفارغ الصبر حتى أستطيع تقديم فحص البكالوريا السورية، التي تقدمت له بشكل خاص، اي ليس عن طريق مدرسة معينة، وطلبت ان تكون اللغة الألمانية هي اللغة الاجنبية مادة الفحص.
قبل موعد الفحص باسبوعين توقفت عن العمل ونزلت إلى البيت واشتريت كتب منهج البكالوريا، وعكفت على دراستها، وطلبت مساعدة صديقي ورفيقي الأستاذ حنا عبود، الذي أعطاني دروس يومية في قواعد اللغة العربية،وطريقة الكتابة بها، بعد انقطاع عشر سنوات، قضيتها في ألمانيا.
تقدمت على الفحص في مدرسة رزق سلوم في مدينة حمص،وكنت أدرس الليل بكامله منصبا على كتاب كل مادة اتقدم بها بدون نوم،وبعد الفحص،انام لثلاث ساعات، من ثم اسهر الليل بكامله منصبا على كتاب المادة التالية وهكذا دواليك.
انهيت تقديم الفحوص وعدت إلى عملي في الكمب الصحراوي، وكنت وجلا وخائفا، من ان لا أنجح في الفحص، فأنال سخرية الناس، من ان طبيباً لم ينجح في فحص البكالوريا.
قبل يوم من إعلان نتائج الفحص على الجرائد،تصل النتائج الى مديرية التربية، وتذهب الناس إلى هناك للتعرف على نتائجها، من خلال آذن المديرية لقاء مبلغ بسيط من المال. ذهب اخي لبيب الى هناك، وأعطى اسمي للاذن، الذي عاد بيقول له إيدك على خمسين ليرة، قال أخي له لماذا تطلب هذا الرقم الضخم، -في تلك الأيام- فقال له أخوك ناجح وبدرجة تسمح له بدخول كلية الطب.