بدأ اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبريالية صاعدة بمنطقة الشرق الأوسط منذ أوائل القرن العشرين وذلك بسبب القيمة الجيوسياسية التي تتمتع بها، ولحاجتها إلى مناطق نفوذ جديدة بعد انحسار النفوذ الأوربي فيها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كما كان للصراع السوفيتي الامريكي دوراً كبيراً في أعطاه المنطقة أهمية استراتيجية خاصة.
لم يكن لمصطلح الشرق الأوسط أية دلالة تاريخية سابقة على القرن التاسع عشر، وقد تزامن ظهوره مع الصعود الرأسمالي لأوروبا بعد الثورة الصناعية ومع بلوغها مستويات عالية من التراكم الرأسمالي بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث سعت تلك الرأسماليات الى التفتيش عن مناطق جديدة للحصول على المواد الخام الضروري لنمو رأسمالها ووظيفته وأهدافه الصناعية ولحاجتها ايضا لدول وكتل بشرية وأسواق لتصريف فائضها الإنتاجي _ السلعي.
اعتبرت الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية بحزبيها الجمهوري والديمقراطي، أن الشرق الأوسط كمفهوم استراتيجية أم كموقع على الحدود الجنوبية للبحر المتوسط وما يرتبط بأمن واستقرار الدول الأوربية وأيضاً كامتداد لدول آسيا، هو مسرح مواجهة بين مختلف الدول والقوى المتصارعة على المصالح أو الأمن الإقليمي أو مع الدول التي تسعى للهيمنة، كما اعتبرت المخزون الهائل للنفط والغاز في المنطقة هو المنقذ لحاجتها المتزايدة الى استهلاك الطاقة الكثيف، حيث تشير أغلب الدراسات إلى وجود عجز مستمر ومتصاعد في استهلاك النفط والغاز في المجتمع الأمريكي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وقد بلغ هذا العجز الى ٦٩/٠ في عام ٢٠١٥، هذا اضافة الى قضايا استراتيجية اخرى، مثل الحفاظ على أمن اسرائيل واستقرار المنطقة سياسيا ومنع انتشار السلاح النووي فيها إضافة لما هو مرتبط بمواجهة الحركات الإسلامية الراديكالية تحت مسمى (مواجهة الارهاب).
ولما تقدم فإن جميع تلك الملفات أدت إلى ازدياد اهتمام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالمنطقة واعتبارها منطقة حيوية للمصالح والأهداف الأمريكية، هذا وتعتبر أغلب الإدارات الأمريكية أن تلك الملفات مرتبط بعضها بالبعض وأن أي خلل أو خطأ يرتكب في أي منها لابد الا ان يؤثر على ملف أخر أو أكثر منه، لذلك فإن صناع القرار السياسي في أي ادارة يضعوا جميع ملفات الشرق الأوسط على طاولة السياسة الخارجية الأمريكية وفق سلم أولويات ووفق منظور فكري – عقائدي آخذين بالاعتبار مبدأ عدم التفريط بالهيمنة على المنطقة كمصلحة إستراتيجية أولاً، ومن ثم ما هو مفيد لتنفيذها ثانياً.
ووفق تلك السياسة، لاحظنا أن إدارة الرئيس بوش الأب ومن بعده بوش الابن المحافظة في الحزب الجمهوري لجأت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى اتباع سياسة القبضة الحديدية والتدخل المباشر في لمنطقة فأقدمت على غزو العراق هدف ملأ الفراغ السياسي والأمني الذي خلفه هذا الانهيار ولتأمين الاستقرار فيها ومنع حدوث أي نزاعات إقليمية قد تؤثر على أمن إسرائيل أو تهدد مصالحها الحيوية الاستراتيجية إضافة الى التحكم المباشر فيما تملكه من الاحتياطي الضخم من البترول والغاز وبالتالي حماية الاقتصاد الامريكي من اي هزة قد يتعرض لها من جراء انقطاعه أو ارتفاع أسعاره بسبب الطلب المتزايد من قبل دول أخرى مثل الصين وأوروبا واليابان او بسبب حروب قد تقع في المنطقة كما حدث في حرب عام ١٩٧٢ من جراء الصراع العربي، الاسرائيلي، إضافة الى تأمين سلامة خطوط وطرق الملاحة الدولية، فأقدمت على هذا الغزو عسكريا تحت حجج وشعارات كاذبة و سوقت فكرة أن المنطقة تشكل مصدر رئيسي للإرهاب الإسلامي الذي يشكل خطراً على المصالح والعقائد الأمريكية وأنه لابد من القضاء على هذا الشر وكل ذلك بهدف تبرير استخدامها للقوة العسكرية الضاربة لأجل التدخل في شؤون الدول واسقاط أنظمة وفرض الهيمنة المباشر عليها.
وفي السياق ذاته، وفيما يتعلق بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، لا يختلف التوجه لدى منظري وساسة الحزب الديمقراطي الا بالأسلوب، فبدل استخدام أسلوب وطريقة استخدام القوة الضاربة في فرض الهيمنة على المنطقة التي استخدمها قادة وأصحاب القرار في الحزب الجمهوري، نرى القادة في الحزب الديمقراطي الامريكي مغرمين باستخدام اسلوب الدبلوماسية الناعمة وصولا إلى الهدف الاستراتيجي للولايات الأمريكية في فرض الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وكان الرئيس أوباما سابقا وطاقمه من قادة الحزب الديمقراطي أفضل من استخدم هذا الاسلوب، وأيضاً ما تنتهجه الادارة الحالية للرئيس بايدن من استخدام نفس الأسلوب في التعامل دبلوماسيا مع أزمات المنطقة أو في مناطق أخرى من العالم، حيث أستخدم تلك السياسة منذ فترة قريبة من نهاية الشهر الماضي عندما قرر سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد عشرون عاما من الغزو مكرراً سياسة الرئيس أوباما عندما انسحب من العراق.
كان من نتائج كل من إدارتي الرئيسين بوش وبوش دابليو الابن من جراء أتباعهما شن الحروب الاستباقية واستخدام القوة المفرطة في الشرق الأوسط في معالجة أزماتها، إضعاف الدور القيادي الأمريكي للعالم، تلك السياسة التي أدت إلى تحول الانتباه عن قضايا عالمية وخطيرة مثل عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل وحروب الإبادة العرقية والدينية والتهجير القسري لمجموعات بشرية والاحتباس الحراري ومعالجة الأزمات الاقتصادية وقضايا الفقر والمجاعة وتضيق الهوة بين الشمال والجنوب، كما تزايد الإحساس بالخطر عند الكثير من دول العالم وخاصة الدول العربية والإسلامية بعد ربط الإرهاب بالإسلام، الأمر الذي هدد أمن واستقرار العالم وخاصة دول الشرق الأوسط مما دفع ادارة الرئيس أوباما الى إعادة النظر في سلوك سياسة القوة في معالجة الأزمات واتباع سياسة دبلوماسية مرنة في العالم وفي الشرق الأوسط ذات توجهات أخلاقية، قيمية، ليبرالية تناشد الحقوق والإنسان والديمقراطية، ومن أجل امتصاص غضب ومخاوف الدول العربية والإسلامية وأصدر وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام ٢٠١٠ بخصوص التعامل مع الإرهاب، باعتبارها ظاهرة عالمية ولا تتعلق بديانة دون سواها، كما سحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق وحاول التكيف مع متطلبات التغيير العالمي والإقليمي عبر تعامل دبلوماسي في معالجة الأزمات الدولية مترافقاً بترتيبات أمنية وسياسية من خلال عقد اتفاقات سياسية واقتصادية مع الشركاء في الدول الأوربية أو الحلفاء في دول الشرق الأوسط.
يؤكد العديد من الباحثين السياسيين على أن الولايات المتحدة الأمريكية هي حاليا الأول والأقوى دوليا ولن يهدد طموحها في الهيمنة على العالم وفي المدى المنظور سوى النمو المتسارع للصين، وهذا يرجع لما تملكه أمريكا من إمكانات اقتصادية هائلة وقوة عسكرية ضاربة ومن قدرات علمية وتكنولوجيا غير مسبوقة، ومع كل ذلك وبالرغم من كل ما تملكه من قوة، فان تلك القوة لن تمنحها الشرعية من بقية شعوب العالم، وهذا ما كان يردده مستشارهم القومي السابق هنري كيسنجر، كما ان دروس التاريخ تؤكد ان تلك القوة لابد الا وأن تتضاءل طالما تجعل من نفسها شرطياً عالمياً وتفرض هيمنتها على الشعوب وتستحوذ على مقدراتها وخيراتها، وطالما لم تؤمن أن زمن التمدد الإمبريالي المفرط قد أنتهى وأنه لا يمكن أن يستمر وسيكون الزمن الذي احتلت فيه المرتبة الأولى في العالم جزءاً من الماضي، وستنهار كما انهارت العديد من الإمبراطوريات عبر التاريخ.