موسكو وواشنطن في سورية

جرى الاستيقاظ الروسي أثناء الحرب الروسية – الجورجية في آب 2008 بعد سبعة عشر عاماً من السقوط السوفياتي. بعد ثلاثة أشهر من هذا التاريخ جرى انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهو كان يحمل برنامجاً معاكساً لاتجاه التدخلية العسكرية الأميركية بفترة ما بعد الحرب الباردة الذي بانت ملامحه في حرب كوسوفو- 1999 وفي غزو أفغانستان-2001 وفي غزو العراق-2003.كان الاستيقاظ الروسي عام 2008 في نطاق “الحديقة السوفياتية السابقة”، فيما كان الاستيقاظ الروسي عالمياً من خلال الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي بيوم 4 تشرين أول 2011 ضد مشروع قرار يتعلق بالأزمة السورية مدعوم من واشنطن، وهو أول فيتو روسي مضاد للأميركان في فترة ما بعد الحرب الباردة.

هنا، كان أوباما مع اتجاه الانزياح نحو الشرق الأقصى للتركيز على الخطر الصيني، ومع اتجاه أميركي جديد للانكفاء عن الشرق الأوسط، أولاً بسبب تزايد قلة الاعتماد الأميركي على نفط الشرق الأوسط وثانياً بسبب الفشل الأميركي في أفغانستان والعراق. كان انفجار المنطقة مع ما سمي ب “الربيع العربي” عام2011مفاجئاً لواشنطن وعندما كان هناك تدخلاً عسكرياً غربياً فإن الأمريكان قد امتنعوا عن تكرار تجربتي أفغانستان والعراق مكتفين ب “القيادة من الخلف “وفق تعبير أوباما في العملية الأطلسية بليبيا التي قادها الفرنسيون ضد نظام معمر القذافي ولم يقوموا بمساندة ودفع تركية إلى التدخل العسكري في سورية ب خريف 2011 رغم تحمس الأتراك الذين شجعوا على إنشاء “المجلس الوطني السوري” الذي كان نسخة سورية من المجلس الليبي الذي كان ستارة محلية لاستجلاب تدخل الناتو.

على الأرجح فكر أوباما في استغلال النار السورية من أجل الضغط على طهران التي كانت منذ عام 2009 في مفاوضات سرية بمسقط مع واشنطن حول البرنامج النووي الإيراني، فيما قال سيرغي لافروف لوفد “هيئة التنسيق”، السورية المعارضة أثناء زيارة لموسكو في نيسان 2012، بأن روسيا “تدافع عن موسكو في دمشق “في شرح للموقف الروسي الداعم للسلطة السورية في تعبير صريح عن  تخوف روسي من أن تكون دمشق خامسة العواصم التي تسقط بيد (الإخوان المسلمين)، المتحالفين مجدداً مع واشنطن بعد تونس وطرابلس الغرب وصنعاء والقاهرة التي كانت يومذاك ملامح فوز محمد مرسي بالرئاسة المصرية بعد شهرين بادية للعيان، ومايعنيه هذا من سقوط منطقة الشرق الأوسط بيد اتجاه الأصولية الإسلامية المجدد تحالفه مع الأمريكان كما كان الحال أيام الحرب الباردة، وبكل ما يمكن لهذا أن يترجم عند مسلمي الاتحاد الروسي و مسلمي الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة.

لم تلتق واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية إلا منذ يوم 7 أيار 2013 عندما عقد اتفاق كيري-لافروف في موسكو من أجل تفعيل “بيان جنيف “الداعي لحل الأزمة السورية عبر حل توافقي بين السلطة والمعارضة وذلك من خلال الدعوة إلى عقد “مؤتمر جنيف2”. 

كان التغير الأميركي من موقف داعم للمعارضة السورية بما فيها المسلحة إلى موقف يحوي توكيلاً أميركياً للروس في الملف السوري مع نزع الأخير من يدي أنقرة ناتجا عن تغير في الموقف الأميركي من الأصولية الإسلامية في فترة ما بعد مقتل السفير الأميركي بليبيا في مدينة بنغازي على يدي إسلاميين بيوم 11 أيلول 2012، وهو ما ظهر بعد شهرين من (اتفاق موسكو) في دعم الأمريكان لانقلاب السيسي على مرسي. 

تعزز الاتفاق الأميركي-الروسي حول سورية من خلال اتفاق 14 أيلول 2013 حول نزع السلاح الكيماوي السوري الذي ترجم بعد أسبوعين في قرار مجلس الأمن 2118 الذي تضمن في ملحقه النص الكامل لبيان جنيف مع دعوة القرار لتنفيذه من خلال ممر مؤتمر”جنيف2″الذي فشل بعد شهر من انعقاده بسبب أحداث أوكرانية في شباط 2014 وما قادت إليه من إطاحة المظاهرات برئيس أوكراني موال لموسكو ومن رد روسي بضم شبه جزيرة القرم ودعم موسكو لتمرد الشرق الأوكراني.

مرة ثانية، كما قاد الموقف من الإسلاميين إلى تلاقي أميركي- روسي في 7 أيار 2013 فإن تقدم الفصائل المسلحة الإسلامية السورية المعارضة في محافظة إدلب بين شهري آذار ونيسان 2015 ثم امتدادها لسهل الغاب، ومن بعد ذلك قطع الطريق الدولي بين دمشق وحمص من قبل فصيل “جيش الإسلامي منتصف أيلول 2015، قد دفع أوباما وبوتين للتلاقي سورياً بعد جفائهما أوكرانيا وإلى تغطية واشنطن للدخول العسكري الروسي إلى سورية في 30 أيلول 2015 وإلى تدريعه بتوافق دولي ظهر في لقائي فيينا ثم في القرار الدولي 2254 الصادر في 18 كانون اول 2015 الذي شكل بعد أربعين يوماً جدول أعمال مؤتمر “جنيف 3” لحل الأزمة السورية ،مع هدنة في الأعمال القتالية رعتها بمجلس الأمن واشنطن وموسكو. 

في آذار خرقت “جبهة النصرة “، التي كانت مسيطرة على “جيش الفتح “الذي تشكل عام2015مع فصائل مسلحة أخرى الهدنة في منطقة جبل عزان جنوب حلب ثم أتبع ذلك في 18 نيسان 2016 رياض حجاب  بتعليق المفاوضات في “جنيف3” من جانب وفد المعارضة السورية. على الأرجح كان هناك دعم إقليمي من أنقرة، المتخاصمة مع موسكو وواشنطن يومذاك، وربما من الرياض التي عارضت اتفاق 14 تموز 2015 لأوباما مع طهران حول البرنامج النووي الإيراني، لخطوة حجاب التي خربطت مخططاً أميركياً- روسياً كان يقال آنذاك بأنه كان جاهزاً لحل الأزمة السورية، كما يقال بأن هجوم “جبهة فتح الشام” في 30 تموز 2016 على منطقة الراموسة بجنوب حلب، بعد يومين من تغيير اسم “جبهة النصرة” وهو ما تلقت عليه بياناً تأييدياً من رياض حجاب، كان هدفه قلب الطاولة على خطة أميركية – روسية لاستئناف “جنيف3” في شهر آب 2016 وفرض حل أميركي- روسي للأزمة السورية على طراز “اتفاق دايتون”عام 1995 حرب البوسنة الذي فرضته واشنطن على كل أطراف تلك الحرب.

كان مؤكداً الدعم التركي للجولاني، وعلى الأرجح كان أردوغان، المتأكد من الدعم الأميركي لمحاولة الانقلاب العسكرية في أنقرة بليلة 15 تموز 2016 وقبلها منذ أيلول 2014 الدعم الأميركي للفرع السوري لحزب عبدالله أوجلان، يفكر في تحسين أوراقه قبل لقائه مع بوتين بموسكو يوم 9 آب 2016 الذي أرسى تحالفاً تركياً- روسياً في سورية تجسد في تخلي أردوغان عن دعم المعارضة السورية المسلحة في حلب- كانون أول 2016 وفي الغوطة- نيسان 2018 وفي حوران- تموز 2018 مقابل غض نظر الروس عن سيطرة الأتراك على خط جرابلس – إعزاز (آب 2016) وعفرين (كانون ثاني 2018) وخط تل أبيض- رأس العين (تشرين أول 2019).

هنا،ساهم التلاقي بين بوتين وأردوغان في أرجحية روسية سورياً أمام الأميركان،وجعل موسكو أقوى من واشنطن، بل أقوى لاعب في الأزمة السورية.حاول أوباما خربطة اتفاق 9 آب من خلال اتفاق 9 أيلول بين كيري ولافروف للتعاون العسكري- الأمني ،وهو اتفاق لم يرضى عنه البنتاغون الذي اغتال ذلك الاتفاق بالأسبوع التالي من خلال “الغارة الأميركية الخطأ”على مواقع الجيش السوري بالقرب من ديرالزور.

هذه الأرجحية الروسية في سورية هي التي دفعت إدارة دونالد ترامب في عامي 2017 و 2018 إلى بناء قواعد عسكرية في شرق الفرات السوري وإلى السيطرة على تلك المنطقة التي تضم غالبية النفط والغاز والقمح والقطن في سورية وإلى دعم مكثف لفصيل عسكري هو “قوات سوريا الديمقراطية- قسد”، وعندما حاول ترامب مرتين سحب القوات العسكرية الأميركية من سورية، في كانون أول 2018 وفي تشرين أول 2019، فإن البنتاغون منعه. 

يلفت النظر هنا “قانون سيزر” الذي طرح كمشروع أمام الكونغرس في الشهر الأول من عام 2019 قبل أن يصادق عليه مجلسي الكونغرس ثم الرئيس الأميركي بشهر كانون أول ثم ليبدأ تنفيذه في 17 حزيران 2020، والذي يضيف لواشنطن ورقة كبرى للضغط في الأزمة السورية، تضاف للوجود العسكري الأميركي الذي يشمل شرق الفرات ومنطقة التنف عند الحدود الثلاثية مع الأردن والعراق، هي الورقة الاقتصادية، والتي هي على الأرجح ليس ورقة فقط للضغط على السلطة السورية، بل هي أساساً ورقة ضغط من واشنطن على موسكو في سورية للتأكيد بأن مفتاح  حل الأزمة السورية في البيت الأبيض وليس في الكرملين، وأن ذلك الحل لا يستطيعه الروس قبل تنفيذ المطالب الأميركية من الروس والتي تمتد من طهران (الضغط الروسي على إيران في ملف المحادثات النووية) إلى كييف (حل الأزمة الأوكرانية بمايرضي واشنطن، إما بانضمام أوكرانيا لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي أو تحييد أوكرانية بين موسكو وواشنطن) وصولاً إلى العلاقات الروسية- الصينية التي يريد الأمريكان أن لا ترتقي إلى مستوى التحالف.

على الأرجح أن وضع الأزمة السورية في الفريزر ناتج عن عدم التوافق الأميركي – الروسي بسبب عدم تلبية الروس هذه المطالب الأميركية الثلاث.

من افتتاحية العدد ٥٦ من جريدة المسار