من زوايا الذاكرة (١٣)

الدكتور جون نسطه

تابعت عملي في المشفى البرليني الضخم، المؤلف من قسمين، الأول نظري، وهو مختصر، والثاني عملي، وهو الأساس نمضيه في غرف العمليات الجراحية بتخدير المرضى ، من الثامنة صباحا حتى الخامسة بعد الظهر، مع فرص للفطور والغداء. بدأت أكتشف اهمية هذا الفرع في عالم الطب وما يتطلبه من معارف نظرية وتركيز للحواس، ورشاقة في اليدين ومهارة في الاصابع، ونشأت علاقة إعجاب وحب لهذا الإختصاص، الذي كان في بدايات الإعتراف به وتقدير محورية دوره في الطب الحديث. كان علينا نحن طلاب الإختصاص من الأطباء، أن نعمل في قسم العناية المركزة، لفترات محددة، هناك تجري معالجة الحالات الحادة من إصابات حوادث السير إلى حالات التسمم، الى متابعة علاج المرضى بعد العمليات الجراحية المعقدة والطويلة بالتنفس الاصطناعي، وتغذية المريض عن طريق الوريد تغذية كاملة تحتوي السكر والبروتينات والدهن والفيتامينات.

كنت في نهاية الاسبوع ألْتقي مع رفاقي وأصحابي في بهو ومطعم أفضل الفنادق، وكان أفضلها فندق البورولينا.

وطبعا كانت أسعار الطعام والشراب بأنواعه المختلفة رخيصة جداً، ولا تقارن بأسعار اليوم المرتفعة على الإطلاق.

في هذا الفندق تعرفت على تاجر سوري من اللاذقية، حائز على أغلب وكالات المنتجات الألمانية الشرقية الصناعية، يدعى محمد إسرب وزوجته السيدة عفاف، أم زياد المرافقة له دوما أثناء إقاماته الطويلة في برلين. أبو زياد كان رجلاً هادئاً متزناً، طيب القلب ودوداً، وأم زياد سيدة جميلة، ذكية، سريعة البديهة، قوية الشخصية قل مثيلها، محدثة طليقةُ اللسان، كريمة اليد، محبة، وفية، أنيقة. مع الوقت توطدت بيننا علاقة صداقة متينة دامت عشرات السنين حتى وفاتهما. ومن أسباب هذا، أن أبا زياد أخبرني يوماً بان نزيفاً أصاب أم زياد وهما قلقان بشأنه ما عساه يكون السبب.

قلت له: غداً صباحاً، عليكما القدوم الى المشفى الذي اعمل فيه، لإجراء تجريف رحم، وكانت نتيجة الفحص المجهري ورم خبيث في عنق الرحم…،  وكنا محظوظين أننا استطعنا تدارك الامر وإنقاذ حياتها التي كانت في خطر حقيقي.

تعافت من مرضها سريعاً وبقيت  تعتبر أنني من أنقذها إلى أخر يوم في حياتها الطويلة، ولما عدت إلى سوريا كانت حريصة على تكريمي ومساعدتي بكل الطرق والإمكانات .

 الخامس عشر من شهر آذار 1969 توجهت بالقطار الى مدينة كارل ماركس، الان بعد وحدة ألمانيا،عادت المدينة الى اسمها القديم، “كمنيتز”، وكان الجو بارداً جداً والثلوج تهطل بكثافة، مما جعل القطار يتاخر عن موعد وصوله مقدار ساعة من الزمن، وكان علي أن أركب الباص المتجه إلى مدينة أنابيرغ، حيث تسكن صديقي هانيلوري، ولكن الباص الأخير كان انطلق قبل وصولي قطاري الذي تأخر. في هذه الحالة كنت مضطراً أن أركب تاكسي حتى أصل إلى هدفي مهما كلف الأمر، حيث انها تنتظرني، وخصوصاً لان اليوم التالي موعدُنا في دار البلدية في مكتب الزواج المدني لعقد زواجنا، بعد علاقة صداقة دامت سبع سنين، وأنا اقوم بفحصها أصعب الفحوصات وأجربها أشد التجارب وكانت تجتازها بكامل النجاح. وعندها قررت الزواج معها.

وقفت على موقف التكسي أنتظر دوري، والبرد ينخر عظامي، وعندما ياتي دوري يسألني السائق إلى أين؟ أقول: لأنابيرغ، فيرد: أنا متأسف. والسائق التالي والذي بعده نفس الجواب.

وأخيرا تكلمت مع سائق ووعدته بدفع أي مبلغ يريده، دون التقيد بالعداد. فوافق.

ركبت بعد كانت أصابعي أصبحت زرقاء من شدة الصقيع. وسألته: لماذا لا يرغب أحد من السائقين السفر الى أنابيرغ؟ قال لأن الطريق لا زال محفراً بعد مرور دبابات الجيش المتجهة إلى براغ لسحق الانتفاضة الشعبية قبل عام، أي في العام 1968.وأنابيرغ تقع على الحدود التشيكية.

المهم وصلت وأنا أحمل هدية العرس، وما هي إلاّ سطل من مسحوق الغسيل Persil.

كنت أريد من هذهِ الهدية أن أقول لها بان أيام الزواج ليست عسلاً وسعادة كلها، بل غسيلا وكويا ومسحا وتنظيفا وطبخا وتعباً.

قامت هانيلوري بإعداد الماء الساخن مع الملح ووضعت يداي المتجمدتين فيه، وبعدها قدماي أيضا.

في الصباح توجهنا، نحن الإثنين فقط، الى مكتب الزواج ووقعنا عقد زواجنا، الذي استمر لسبعة وأربعين عاماً، حتى يوم وفاتها الحزين في يوم 4.10,2016.

في المساء توجهنا إلى بيت أخيها الأكبر للاحتفال بزواجنا. كنا سبعة أشخاص فقط.

لم نتوجه إلى الكنيسة أبداً، لأن أعصابنا لا تتحمل المسرحية الهزلية لعقد الزواج الكنسي.

في يوم الاثنين داومت على عملي في المستشفى الذي أعمل فيه في برلين.

في شهر أيلول، على ما أتذكر انعقد في برلين مؤتمر لمجلس السلام العالمي بحضور وفود من بلدان متعددة، ومنها وفود عربية رسمية وشعبية، أتذكر منها وفداً مصر ومن أهم وجوهه الكاتب والمفكر البارز لطفي الخولي، ومن لبنان وفد أهم وجوهه المناضلان الشيوعيان كريم مروة، وجورج البطل رحمه الله، ومن اليمن أيضا اتذكر عبد الله باذيب، ومن سوريا وفد حكومي برئاسة الدكتور حبيب حداد، ووفد شعبي برئاسة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، ابراهيم بكري، ضم أيضا الدكتور مصطفى أمين وفايز جلاحج وآخرون لم أعد اتذكرهم. قمت بزيارتهم في الفندق الذي انعقد فيه المؤتمر، وكان الرفيق إبراهيم بكري، يعرفني من خلال زيارة سابقة له إلى برلين. وطلب مني أن انضم الى الوفد فوراً، ونادى على رفيقنا فاروج سلاطيان وطلب منه أن يصدر لي بطاقة عضوية بالمؤتمر. والرفيق فاروج سلاطيان كان يعمل في قيادة مجلس السلم العالمي، وهو إنسان نشيط جدا ، وحيوي، ويشكل لولب المجلس.

كنت والرفيق الشاب فايز جلاحج الملقب حزبياً بابو جورج، نتصل بكل الوفود ونشرح لهم موقف الحزب السياسي ونعلمهم بنتائج المؤتمر الثالث للحزب المنعقد في صيف 1969، كان ابراهيم بكري يعرب عن رأيه النقدي بوضوح تجاه خالد بكداش، وكذلك مصطفى أمين وفايز جلاحج وأنا مع نفس الموقف.

بعد انتهاء المؤتمر، بدأت بعملية التحضير للسفر إلى الوطن، قاطعا أنا وزوجتي متابعة الحصول على شهادات الإختصاص، بعد أن علمت بمرض والدي الذي كان يسكن مع شقيقي لبيب وحدهما بعد وفاة والدتي، وكان شقيقي يعمل متعهداً صغيراً، ووالدي المريض يبقى أغلب الوقت لوحده وبحاجة إلى عناية ماسة.

كانت زوجتي قد ورثت من والديها المغفور لهما جهاز بيت كامل وترغب بنقل أغلبه إلى سوريا، ولذا كان علينا نقل الخفيف منه من بورسلان وطناجر وصحون ونسيج منزلي من مناشف وملاحف وأغطية إلخ وكتب وجهاز تخطيط قلب وميكروسكوب، وعدة جراحة صغرى وأدوات فحص الأذن والحلق وغيرهم، عن طريق النقل البحري قبل سفرنا.

وقبل أن نترك برلين أود أن أذكر الحادثة التالي:

في العام 1968 انعقد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني، على ما أذكر وكان من مخرجاته الهامة التقرير السياسي والبرنامج الجديد، كان معنا في الدراسة رفاق من لبنان أعطوني هذا الكراس، قرأته بعناية وما فيه من نقد لسياسة خالد بكداش، والموقف الإيجابي اتجاه الثورة الفلسطينية، وتاييد حركة التحرر الوطني العربية، وضرورة رسم سياسة الحزب حسب الوضع الواقعي، وبشكل مستقل، بكلمات أخرى رفع وصاية القيادة السوفياتية. كل هذا أثلج صدري ودعم قناعتي، فقمت بطبع حوالي ثلاثين نسخة عنه وزعت عشرة منها على بعض الرفاق في لابزيغ، وأعطيت ما يقارب العشرين منها إلى الرفيق توفيق رضا في برلين.

في زيارة ليوسف فيصل في هذا الوقت لبرلين أخبره الرفيق توفيق البريء سياسياً، وطيب القلب، بانني أعطيته نسخ عن برنامج الحزب الشيوعي اللبناني، فطلب يوسف أن يحضرهم له، ففعل الرفيق توفيق، وقام يوسف فيصل باتلافهم فوراً.

في العاشر من شهر كانون أول عام 1969 توجهت طائرتنا الى دمشق، بعد ليلة الوداع الطويلة التي نظمها رفاقنا واصدقائي في برلين، وصلنا الى دمشق منتصف النهار، وكان في استقبالنا في المطار، عدا صديقي العزيز نايف بلوز، جمع من الأهل والاقارب، وكان من جملتهم ابنة خالة لي تحدثت مرحبة بزوجتي آلتي تتمتع بجمال فيه مسحة شرقية واضحة، فاسرعت إلي لتقول كيف خدعتنا بأن زوجتك ألمانية، هذه عربية بكل تأكيد؟ وبالفعل زوجتي خلال سنوات معرفتنا السبع أصبحت تتكلم العربية بشكل جيد جداً.

نمنا هذه الليلة في دمشق في فندق علام الذي يقع في حي القصاع، يقابله تماماً محل واسع يبيع الفلافل، في الليل نزلت إلى هذا المحل واشتريت “ساندويشين”، وكنت مشتاقاً للفلافل بعد انقطاع ما يقرب عشر سنين، أكلت هانيلوري الفلافل لأول مرة في حياتها، فاعجبت بها كثيراً. في اليوم التالي دعانا أخي فيليب “أبو نزار”، لتناول الغداء، وسألها ماذا تحبين أن تأكلي؟ منتظراً منها ان تقول أحب السمك، أو افخاذ الضفادع أو الدجاج المشوي مثلا، واذا بها تقول … الفلافل. فضحك كثيراً ، وتوجهنا الى مطعم علي بابا، وقدموا لنا أكلا متنوعاً كالعادة طيب المذاق جيد النوعية. بعده توجهنا إلى حمص في حي المحطة، حيث بيتنا القديم، الذي خرجت منه قبل عشر سنوات.

في اليوم التالي تماما توجهت الى شعبة التجنيد، طالباً سوقي الى “””حلب”””، مدرسة المشاة في المسلمية، لأداء خدمة العلم الاجبارية، في الدورة آلتي تبدأ في السادس عشر من شهر كانون الاول.

تفاجأت بقولهم بأن علي أولا ان أعادل شهادتي في الطب.

وهنا بدات معركة من أصعب المعارك الإدارية آلتي خضتها في حياتي.

من العدد ٥٥ من جريدة المسار