ستيفن هايدمان وجهاد يازجي
“المرصد السوري” الجمعة ٢٦ آذار(مارس) ٢٠٢١
ترجمة رامز مكرم باكير
شهد العقد الأول من حكم بشار الأسد بعض التطورات الاقتصادية الإيجابية, ومستوى من الفساد كان عالياً ولكن ليس بالضرورة أسوأ مما هو عليه في العديد من البلدان النامية الأخرى. فهل من الظلم وصف سياسات بشار الأسد خلال تلك الفترة بأنها سيئة من الناحية الاقتصادية؟
في العديد من النواحي، كانت سوريا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تحوي قصة اقتصادين. في إحداها، وإذا ما نظرنا إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي الـ(macroeconomy)، نجد أن أداء البلاد كان جيدا على الرغم من السنوات التي شهد فيها المشهد السياسي بعض الصدمات الشديدة. ويلاحظ ان نمو الناتج المحلي الإجمالي كان مرتفعًا بشكل معقول، وكانت معدلات التضخم معتدلة، وكانت احتياطيات النقد الأجنبي جيدة عند حوالي ١٨ مليار دولار، وشهدت معدلات الدين الحكومي انخفاضا كبيرا في عام ٢٠٠٣ بعد أن تنازلت روسيا عن بعض القروض المستحقة غير المسددة.
بينما في الاقتصاد الآخر ، كانت الصورة أكثر إثارة للقلق. فقد حجبت هذه المؤشرات الإيجابية حقيقة أن اوضاع العديد من السوريين كانت في تراجع . ففي عام ٢٠٠٧ ، على سبيل المثال ، نشر برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) دراسة عن عدم المساواة في سوريا، وخلصت الدراسة الى أن “النمو على المستوى الوطني لم يكن لصالح الطبقة الفقيرة”. تؤكد البيانات المحدودة التي لدينا أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان عقداً من التفاوت الطبقي المتزايد. وكان للنمو غير المتكافئ الكثير من الآثار السلبية والتي تجاوزت حتى هذا التفاوت، مما دفع إلى حدوث طفرة عقارية جعلت تكاليف الإسكان بعيدة عن متناول العديد من الناس. وعلى الرغم من النمو الإيجابي للناتج المحلي الإجمالي، ظلت البطالة مرتفعة، لا سيما بين الشباب، عند نحو حوالي ٢٠٪ أو أكثر لمعظم العقد.
ويجب أن نتذكر أيضاً أن بداية الجفاف في عام ٢٠٠٦، والذي جلب زيادة حادة في الفقر الريفي في شرق سوريا، وأدى إلى خروج مئات آلاف الناس من أراضيهم، والانتقال الى مساكن غير رسمية وسيئة الخدمات، والتي تركزت حول المدن الكبيرة، بما في ذلك دمشق. أما بالنسبة للفساد ، فإن تقارير الفساد العالمية التي أصدرتها منظمة الشفافية الدولية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تضع سوريا في مرتبة أعلى بقليل من القاع. حيث كان أداء عدد قليل من البلدان فقط هو الأسوأ.
حكاية الاقتصاديين هذه هي السبب وراء نظرة البنك الدولي لأسباب الانتفاضات العربية، حيث خلص إلى أنه ما كان ينبغي أن تحدث الاحتجاجات على الإطلاق. ولكن عندما ننظر إلى ما يسميه البنك “تصورات الرضا عن الحياة” ، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي شهدت انخفاضًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكان الانخفاض أكبر في البلدان المتضررة من الانتفاضات، بما في ذلك سوريا. بغض النظر عن مدى جودة أداء الاقتصاد بالنسبة لأقلية صغيرة، فقد شعرت الأغلبية بأنهم قد تخلفوا عن ركب تلك الاقلية، مما ساهم في زيادة التظلمات والتي انعكست على شكل انفجار في الرأي العام في عام ٢٠١١.
هناك جدال حول ما سبب الانتفاضة في سوريا.
ففي تونس ومصر ، كانت العوامل الاجتماعية-الاقتصادية واضحة وانعكست في شعارات المحتجين. بينما كان ذلك أقل في سوريا بالمقارنة.
ما مدى أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية في دفع الناس إلى الشوارع ؟
لن نتسرع في تجاهل دور العوامل الاقتصادية في الانتفاضة السورية، وذلك للأسباب التي ذكرتها للتو.
ولكن يتعين علينا أن نفهم أيضاً أن المظلوميات الاقتصادية لم تكن بأي حال من الأحوال العامل الوحيد الذي دفع السوريين للانضمام إلى الاحتجاجات قبل عشر سنوات. كانت الكثير من العوامل الأخرى جزءًا من المعادلة، بما في ذلك المطالب الواسع (للكرامة)، وهو مصطلح جاء لتعريف الانتفاضة للعديد من السوريين. فقد كان الناس ببساطة سائمين ومتعبين من العيش في خوف، و التعرض للإهانات اليومية المتمثلة في الاضطرار إلى رشوة المسؤولين للقيام بعملهم، أو الحصول على عمل – من القلق بشأن ما إذا كانت لديهم الواسطة الصحيحة، للحصول على الرعاية الصحية لأطفالهم، والحصول على التعليم المناسب في الجامعة، الحصول على جواز سفر، وهكذا. وهو ما جعلهم غاضبين، عندما رأوا رجالات النظام يفلتوا من العقاب بسلوكهم و ممارساتهم المنحطة، والتي كثيراً ما تكون ذات طابع إجرامي. الإفلات التام من العقاب.
عندما تحدثت مع الأصدقاء السوريين في عام ٢٠١١، كانوا يستخدمون عبارات كتلك التي سمعناها في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد في الصيف الماضي: “شعرنا وكأننا نختنق“.
هذه المشاعر العامة والتجارب لم تكن عوامل أقل أهمية في تفسير بداية الاحتجاجات في سوريا من المظالم الاقتصادية . أعتقد أننا نستطيع أن نقول بإنصاف إن الاحتجاجات التي اندلعت في آذار(مارس) ٢٠١١ كانت عبارة عن تراكم هائل من المطالبة بالعدالة والإنصاف (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) من أجل إنهاء الممارسات المهينة اليومية التي فرضها النظام السوري على المجتمع السوري بالكامل باستثناء قلة من ذوي الامتيازات.
من بين التغيرات العديدة التي أثرت على الاقتصاد أثناء فترة الصراع تكوين نخبة جديدة في طبقة رجال الأعمال السوريين ، بما في ذلك زوال رامي مخلوف، وصعود سامر فوز، من بين العديد من المغتنيين الجدد من الصراع. ما هي العوامل التي تفسر التغيرات في تكوين هذه الطبقة؟
لا شك في أن الصراع أدى إلى زعزعة استقرار شبكات رجال الأعمال والتجار التي كانت قائمة قبل الحرب، مما أسفر عن فرز جديد في صفوف هذه الطبقة ”رابحين“ و ”خاسرين“. وكان أحد أهم التحولات التي أعقبت صعود بشار الأسد إلى السلطة تضييق نطاق ما يمكن أن نسميه “الشبكات ذات الامتيازات” داخل مجتمع الأعمال السوري. ففي عهد حافظ الأسد، كانت شبكات النظام و رجال الأعمال أكثر شمولا. مما كان بتيح فرصًا لإثراء الجماعات التي يشعر النظام بأنه بحاجة إليها، بما في ذلك مجتمعات رجال الأعمال السنة. فمن ناحية الاقتصاد السياسي، يمكننا القول أن حافظ كان نظامه فاسدًا وافتراسياً، ولكنه في الوقت نفسه، كان مدركاً أن موقفه سيكون أقوى إذا أتاح للآخرين مجالاً في توسيع حجم الاقتصاد بشكل عام.
بينما بدا بشار وجيله من عشيرة الأسد وكأنهم لم يفهموا هذا قط. هذه العقلية والسلوك المفترس من قبل رامي مخلوف وغيره من كان لهم تأثير مدمر على أوساط رجال الأعمال الذين وجدوا أنفسهم مشلولين تماماً، وأجبروا على أن يتخذوا مخلوف شريكاً، أو أن يبيعوا له أعمالهم التجارية. فما كان من رجال الأعمال المتضررين من هذا النوع من السلوك والممارسات إلّا تأييد المعارضة. وبالإضافة إلى ذلك، غادر أصحاب أعمال آخرون البلد مع تصاعد العنف، ليس لأسباب سياسية بل لإنقاذ أعمالهم التجارية.
وعلى الجانب الآخر، هناك من رأى في الصراع فرصة وتحرك لسد الثغرات التي تركها أصحاب الأعمال الذين فروا أو انضموا إلى المعارضة. الحرب هي مشروع اقتصادي يتطلب الكثير، وتلبية احتياجاتها خلقت جميع أنواع الإمكانيات للمجهولين النسبيين لجني المال. والمهم أيضا، إن كان أقل وضوحاً، هو دور الصراع في إيجاد مجموعة كبيرة جديدة من المستفيدين في زمن الحرب على الصعيدين الإقليمي والمحلي، من خلال المشاركة في الأنشطة الإجرامية. كما أُتيح لأي شخص لديه الموارد لتمويل ميليشيا من أن يصبح ثريًا نتيجة لذلك، وقام العديد من أمراء الحرب المحليين بذلك. كان أي شخص لديه الموارد اللازمة لتمويل الميليشيا قادرًا على أن يصبح ثريًا نتيجة لذلك. أما الآن، فيتطلع هؤلاء المستفيدون في زمن الحرب إلى غسيل أموال هذه المكاسب الغير مشروعة، وشراء زخارف الشرعية والمكانة الاجتماعية والاحترام التي ستقوي مواقفهم وثبتها- بما في ذلك من خلال دخول الانتخابات البرلمانية.
هل ستكون المؤسسة التجارية قبل الحرب قادرة على استعادة وضعها السابق؟ نحن نشك بذلك. كل المؤشرات تظهر أن هذه المتغيرات ستصبح دائمة.
يبدو أن روسيا تستفيد وتُرسمِل بشكل جيد نسبيًا على نفوذها السياسي والعسكري. ولكن الأمر لا يبدوا كذلك بالنسبة لإيران. كيف تفسر ذلك؟
سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، يبدو أن إيران وروسيا أسستا صيغة عمل تقاسمية في سوريا، ولكن يبقى هناك وجود تنافس بين الطرفين لتوطيد نفوذهما من خلال توجهات تبدوا متباينة إلى حد كبير. وفي بعض الأحيان، تجلبهم طموحاتهم إلى الصراع، ولن أستغرب عندما أرى التوترات تزداد في السنوات المقبلة.
لا تهتم روسيا كثيرًا بنوعية الحكم بقدر اهتمامها باتساع نطاق الحكم. فبالنسبة لموسكو، توسيع وتقوية المؤسسات الرسمية ليس فقط وسيلة لتوطيد نفوذها وتوسيع علاقاتها التجارية في البلاد، ولكن أيضًا تحقق لها أفضلية استراتيجية للحد من المخاطر المستقبلية في حال وجدت نفسها في مستنقع ودوامة انحدار، و مضطرة للحفاظ على نظام معطل.
من ناحية الاخرى، تعمل إيران على توسيع نطاق نفوذها وتوطيده من خلال قنوات مختلفة تماما، من خلال تنمية وتعزيز وجودها داخل القطاعات غير الحكومية، ولا سيما الجماعات المسلحة الاجنبية، وبين القبائل وغيرها من الجماعات المحلية. كما تعمل بهدوء أكبر لإنشاء موطئ قدم ثقافي وديني، وبناء شبكاته الخاصة بالمحسوبية ، وتعزيز سيطرتها على حزب الله للمساعدة في هذه الجهود، وبوجه عام، تسعى إيران إلى وضع الأسس التي تراها حاسمة لطموحها الطويل الأمد في حبس سوريا في إطار استراتيجيتها في المنطقة من جهة، وفي المحور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي كعضو حاسم في جبهة المقاومة.
وقد أدى هذان النهجان المختلفان إلى تخفيف حدة التوتر بين روسيا وإيران إلى حد ما. ولكن حيثما يكون الصراع بين الطرفين – وخاصة بشأن المسائل المتعلقة بالجماعات المسلحة غير التابعة للدولة – فإن احتمال تصاعد التوترات دائم الوجود بالتأكيد.
إضافةً إلى ذلك، من الواضح أن روسيا لا تشارك إيران الجهود المستمرة لجعل سوريا جبهة إضافية في صراعها مع إسرائيل. اختلافاتهم على هذا سبّبَ احتكاكات في العلاقة، ولكن ليس بشكلٍ صريح. ومع ذلك، فإن احتمال تعرض روسيا وإيران للوقوع في صراع أكثر حدة أمر وارد و حقيقي، وخاصة إذا بدا أن وجود إيران يقوض اهتمام روسيا بتطبيع نظام الأسد وإضفاء الشرعية عليه في نهاية المطاف واستعادة دولة مستقرة (حتى و إن كانت دولة قمعية و متسلطة).
كان الاقتصاد السوري في عام ٢٠٢١ في حالة سيئة، وبدى حلفاء النظام عاجزين عن دعمه اقتصادياً. هل تعتقدون أن هذه الصعوبات الاقتصادية يمكن أن تؤثر على استراتيجية موسكو وطهران ؟
حتى الآن ، تبدو روسيا وإيران على استعداد لتحمل التكاليف الاقتصادية المترتبة على دورهما باعتبارهما الراعيان الرئيسيان لنظام الأسد. ففي شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على سبيل المثال، قدمت إيران خطاً ائتمانياً آخر قدره «بليون دولار» إلى النظام. وعلى هذا فإن أيا من البلدين لم يصل على ما يبدو إلى حدود استعداده للحفاظ على النظام على قدم وساق ، ولو بالكاد. وقد تمكنوا من الحفاظ على تكاليف مشاركتهم في سوريا منخفضة نسبياً ”بدافع الضرورة“. ولا تستطيع إيران ولا روسيا تقديم الكثير لسوريا في سبيل دعم إعادة الإعمار. ولا يقدم أي منهما مساعدة إنسانية كبيرة تذكر. ولم يكن أي منهما على استعداد لأن يتحمل عبء منع انهيار سوريا الاقتصادي أو أن يتولى زمام المبادرة في نوع من مشاريع “بناء الدولة”. ولقد أدى هذا النهج إلى الحد من تعرض إيران وروسيا للمال في سوريا وساعدتهما على تجنب الخيارات الصعبة بشأن تكاليف دعمهما لنظام الأسد.
والآن، و بعد أن بدأت أسعار النفط في التعافي من الانحدار الوبائي، فإن ضغوطهما الاقتصادية المحلية قد تتساهل أيضاً. إن ما إذا كان هذا التسامح والصبر سوف يستمر إلى ما لا نهاية يشكل سؤالاً مفتوحاً، ولكن في واقع الأمر، لا نستطيع أن نقول ما هو نوع الظروف الاقتصادية التي قد تؤدي إلى تحول في السياسة في طهران أو موسكو. حتى الآن، عانى كل منهما من ضغوط اقتصادية كبيرة داخلياً ودولياً دون تغيير في المسار.