الدكتور عارف دليلة
من صفحته على الفيسبوك
في حديث مهم للمحامية بشرى الخليل حول التهريب بين سوريا ولبنان، وانا اسميه “التهريب الرسمي جدا المعترف به على اعلى المستويات في البلدين” باعتبارنا طوال عمرنا “عايشين سوا!”، طبعا بالضراء دون السراء!
سأقتطف كلمات ووقائع قليلة من حديث المحامية بشرى خليل، وان كانت لا تغني عن سماع كامل حديثها الثمين، سواء من موقع التوافق، أو حتى من موقع الاختلاف بالرأي، بالنسبة للمختلفين. تقول (وإضافة بعض الكلمات من عندي لا تغير شيئاً في المعنى):
التهريب من سورية إلى لبنان أكبر بكثير من التهريب من لبنان إلى سورية، وبالأخص في ظروف الحرب التي تعيشها سورية منذ أكثر من عشر سنوات. ففي العام الماضي، حسب كلمات صراف بيروتي واحد هو (فلان) المعروف جيدا، انه قام، لوحده، بشراء أكثر من ١٠ طن من الذهب “السبائك” من مهربين سوريين!
(وأضيف: وبالحساب التقريبي إذا كان الكيلو من الذهب يساوي اكثر من ٣٢ أونصة بقليل، واذا علمنا أن سعر أونصة الذهب الأن تتراوح حول ١٨٠٠ دولارا أمريكيا، فتكون قيمة الكيلو من الذهب بالدولار:
٥٧٦٠٠= ٣٢×١٨٠٠ سبعا وخمسين ألف وستمائة دولار، وتعادل بالليرات السورية حسب سعر الصرف الجاري في السوق الأن وهو حوالي ٣٢٠٠ ليرة للدولار:
٥٧٦٠٠ ×٣٢٠٠= ١٨٤٣٢٠٠٠٠ مئة وأربعة وثمانين مليونا وثلاثمئة وعشرين ألف ليرة سورية للكيلو غرام الواحد من الذهب.
وتكون قيمة أل ١٠ طن من الذهب (وسأتغاضى، تسهيلا للحساب، عن الزيادة عن ال ١٠ طن) التي اشتراها صراف لبناني واحد فقط من المهربين السوريين من الثروة السورية المخزونة بالذهب على مدى السنين والعقود والقرون والعصور الممتدة، وخلال عام واحد فقط: ١٨٤، ٣٢٠.٠٠٠ × ١٠،٠٠٠ كيلو ذهب = ١٨٤٣،٢٠٠،٠٠٠٠٠٠ ألف وثمانمائة وثلاث وأربعين مليارا ومئتي مليون ليرة سورية، وبالدولار الأمريكي ÷ ٣٢٠٠ ليرة للدولار= ٥،٦٣٥،٠٠٠٠٠٠ خمسة مليارات وستمئة وخمسة وثلاثين مليون دولار أميركي! وهذا في عام واحد فقط!
اذاً، بالأسماء والأرقام المجردة وعلى الهواء مباشرة وبكلام دقيق للصراف المعروف بالاسم، وليس هو متهم قانونيا بشيء، وبكلمات موثوقة منقولة عنه، ليست من شخص أو من موقف معاد لاحد، بل بالحسابات الباردة المجردة:
إن قيمة ما اشتراه صراف بيروتي واحد من الذهب السوري المهرب (في العام الماضي فقط!) تزيد عن خمسة ونصف مليار دولار أمريكي!
لم نتحدث، بعد، عن الثروات المهربة من سورية عبر القنوات الرسمية من قيم الصادرات الرسمية التي يتشهى الشعب السوري المحروم اليوم ليتذوقها أو ليشم رائحتها أو يكحل عينيه بمنظرها على مائدته وفي براداته التي أصبحت كلها خارج العمل، هذه المنتجات التي تغتصب، اقتصاديا، من بين يديه وتستنزف وتصدر من أرضه ومن نتاج كدح عماله وشعبه الذي عاش سنين طويلة كانت فيها حتى موائد فقرائه عامرة بأطايب بلدهم وثمرات كدحهم، هذا ولم نأت، بعد، على ذكر التهريبات إلى المصارف اللبنانية التي تتبخر هذه الأيام، مع مئات مليارات دولارات الشعب اللبناني، والمعترف بها رسميا (٣٠_٤٠ مليار دولار) لتحميلها المسؤولية عن إفلاس الدولة ومجاعة السوريين وإخراج بلدهم، دولة وشعبا، من التاريخ والجغرافيا، عن سابق وعي وتصميم، ولم اتحدث عن ما اشتراه جميع الصرافين من مكنوزات الشعب السوري، ولم اتحدث عن قيمة الثروات الآثاري من مكتنزات الحضارات التي قامت على الأرض السورية وصنعتها عقول وأنامل الشعوب السورية، والتي كانت محمية تحت أطباق الأرض الحنون وبقيت متخفية عن أعين وحوش وجراد الأرض البشريين الهمج الحاليين، وهي اليوم تنتقل بين الأيادي السوداء في مختلف أنحاء العالم وتباع بأثمان باهظة، وغير ذلك الكثير والهائل من ثروات الشعب السوري، التي تزيد قيمة الذهب منها فقط، الذي اشتراه صراف بيروتي واحد، فقط، في عام واحد فقط، مجموع الدخل القومي التصرفي السنوي لأكثر من ثلث الشعب السوري، في سورية بأربعة أطرافها، طبعا بعد استثناء النهابين والمهربين وسارقي الدولة والشعب من “طبقة أسياد العبيد”!
إذن، عندما يعيش أكثر من ٩٠% من الشعب السوري تحت خط الفقر المدقع بعد نهب واغتصاب حقوقهم، وعندما لا يزيد متوسط الرواتب والأجور ومداخيل ذوي الدخل المحدود الحقيقية الرسمية عن تكاليف ضرورات البقاء على الحياة ليومين أو لأربعة أيام في الشهر فقط ، وعندما يكتشفون طفلتين مرميتين على حافة الموت جوعا، مع رسالة مبكية من أبيهما يقول فيها انه يعجز عن إبقائهن على قيد الحياة بسبب عجزه عن إطعامهن، ولأنه يرجو أن يستطيع احد غيره فعل ذلك وإنقاذهن من الموت (وهناك على أرض سورية الآن مئات الآلاف يشاركهن نفس المصير، ولكنهن، وأهاليهن، ينتظرن ملاك الموت بصبر أيوب) على مدخل احد المستشفيات في اقدم مدينة في التاريخ، كانت تلقب بـ “جنة الله على الأرض”، ولم يدخلها النبي بقافلته التجارية خوفا من غرق قدمه في نعيمها وعدم العودة إلى مهبط الوحي في مكة، وهو ما حصل لمغتصب خلافته، بعد وفاته بأربعين عاما، حتى سميت الأرض التي وضع فيها أخر قدم خطاها عند طرفها قبل أن يعود أدراجه عنها ب “القدم” وهو حاليا حي ضخم من أحياء دمشق، لكنه منكوب حتي العظم هذه الأيام، عند ذلك كله، كيف يمكن لأنسان يحمل ذرة عقل وضمير أن يتعامل مع “النكبة السورية العظمى” بالأرقام الجافة وبدم بارد؟
والشيء بالشيء يذكر!
إن ما ذكرته المحامية بشرى الخليل يعيدني إلى ندوة عقدناها، في الثمانينات في إطار ندوة الثلاثاء الاقتصادي السنوية في المركز الثقافي بدمشق، قلت فيها ما يلي:
تكثر الأحاديث هذه الأيام عن سرقة النفط السوري وتهريبه إلى الدول المجاورة، وعندما كانت الجرائد السورية تنشر لمسؤولين نفطيين لدينا بأن هناك مبالغات مفتعلة في الأرقام المتداولة عن تهريب النفط السوري، إذ لا تزيد الكميات المهربة سنويا عن أربعة ملايين ليتر!
قلت:
لدى السلطة عدد هائل من المشتغلين في الجمارك والأمن، لكنها جميعها عميت عن رؤية ما رأيته، بالصدفة، وانا مسافر، لأول مرة، إلى اسكندرون وأضنة عبر معبر (باب الهوى) إلى تركيا وعند عودتي عصرا وقبل المغرب وصلت إلى كراج الحافلات في أنطاكية، فلم أر غير باص واحد طويل وفارغ، فسألوني: إلى اجن؟ قلت: إلى حلب. قالوا: تفضل واصعد إلى الباص. نظرت فلم أر فيه أي راكب. قلت: ادن متى سيمتلئ وينطلق؟ قالوا: ألا تريد الانطلاق فورا؟ قلت: نعم! قالوا اصعد وسنتحرك فورا! صعدت وتحرك الباص بي وحدي نحو حلب!
وما إن دخلنا الأراضي السورية حتى وقف الباص ل “يتزود بالوقود” عند محطة الوقود الوحيدة عند المعبر في الجانب السوري. وقد طالت مدة التزود بالمازوت ساعة كاملة، بحيث ملأ الباص حوض معلق في اسفله يتسع لخمسة آلاف ليتر ليعود بها بعد إيصال سيادتي إلى حلب، إلى تركيا، فورا، ويحصل من أموال الشعب السوري ومن خزينة الدولة السورية على الفارق بين سعر ٥٠٠٠ ليتر مازوت مدعوم في سورية، تحت غطاء انخفاض الرواتب والأجور في سورية إلى دون ثلث قيمتها في الدول المجاورة (تركيا، وحتى لبنان والأردن!) وبين سعره في السوق العالمية، والمجاورة التي يباع فيها غير مدعوم، والذي يبلغ ثلاثة أضعاف سعره في سورية، وبالفعل، صدقوا وأوصلوني لوحدي إلى حلب، ليعود الباص بسائقه ومعاونه إلى الحدود حيث يتقاسم حصيلة السرقة من رحلة واحدة مسؤولو الجمارك وأصحاب باصات التهريب، وصاحب المحطة وشركاه من أصحاب المناصب المسؤولة. ما لا يقل عن عشرة آلاف دولار!
وطيلة الطريق، وبضغط من الغواية الاقتصادية الأكاديمية، وانا اجمع واضرب واحسب، حتى خمنت، ومن مشاهدة واحدة وبالصدفة ومن معبر واحد في سورية، ومن باص تهريب واحد لسفرة واحدة، إن التهريب من هذا المعبر، وحده، للنفط، وحده، من سورية إلى تركيا، لا يقل عن مليون إلى مليوني ليتر شهريا، أي نفس الرقم الذي ذكره المسؤول النفطي في جرائدنا، مع فارق “بسيط !”، وهو انه يتحقق في شهر واحد ومن معبر واحد فقط ، أما في سنة، وعبر جميع المعابر ومع جميع الدول المجاورة ، فالرقم يرتفع إلى مئات الملايين، وربما مليارات الليترات من الوقود السوري المدعوم “حبا بالفقراء السوريين؟” وترجمت هذا “الحنان!” الذي تكنه السلطة وأجهزتها الوصاية التي يتقاسم أربابها، محاصصة، محطات الوقود، والأنابيب الممدودة عبر الحدود في منطقة الزبداني وحمص وغيرها، العابرة للحدود السورية وللدولة والشعب في سورية!
أما حصيلة النهب، من هذا المزراب فقط، وهو نهب “رسمي” من قبل المسؤولين “ذوي الأيادي الأمينة” على ثروة الدولة والشعب في سورية ، “أيام كنا عايشين!”، فيمكن التوصل إليه من خلال ضرب مليارات الليترات من النفط المنهوب عبر جميع أنشطتنا النفطية والرشاوى من تعاقدات واقتسام عوائد واستخراج ونقل وخزن وتصفية والبيع بأسعار مخفضة، هذا بينما لا يتقاضى مواطنونا، وكذلك موظفونا وعمالنا الشرفاء إلا القوت الضروري للعيش الآدمي، ولا تتقاضى خزينتنا من هذه الثروة إلا “ما تيسر، فسنصل إلى رقم مواز لكل هذه المشفوطات يذهب لتغذية حسابات تماسيح الفساد والتهريب خارج الحدود!
وبعد أيام من حديثي هذا في تلك الندوة، يخبرني أحد الزملاء الذين كانوا يشتركون في هذه الندوات، وكان يشغل منصب معاون وزير الصناعة، إن رئيس الوزراء، آنذاك، وكان واحدا من أساطين الفساد في سورية، ولأنه كذلك، كان أطول رؤساء الوزراء عمرا في هذا المنصب، ولا يغير شيئا من ذلك كونه بعد ذلك عزل من منصبه وبتهمة الفساد!
ثم، وقبل أن يمثل أمام القاضي “انتحر” وطوي أمره، ربما لأنه، وفي غمرة التناطحات التي تحصل، في لحظات مفصلية، بين أركان الفساد، قام بإصدار تعميم وزع على جميع المستويات الحكومية السياسية والإدارية يسرد فيه القصة التي قمت بسردها في إحدى ندواتنا في المركز الثقافي، وقد أعطاني الزميل، معاون الوزير، نسخة عن تعميم رئيس مجلس الوزراء الذي وصله، والذي يبدأ بعبارة ” قال الدكتور عارف دليلة …. حتى نهاية القصة التي رويتها… وبالطبع فان ذلك لم يستوقف أو يثر اهتمام احد، بل استمر النهب والتهريب في تصاعد وتضخم، واستمرت الضائقة تحيق بالشعب من تدهور إلى أخر حتى أصبحنا ، دولة وشعبا، نحتل أحد الأمكنة الثلاث الأخيرة في قائمة الأمم التي تشغلها، إلى جانب سورية الشماء، سودان النميري والبشير (الصديقين!)، بلد احتياطي غذاء العالم، كما يتفاخر إعلامنا العربي، والصومال المتصومل، الذي اتهمنا بدفع سورية إلى “الصوملة والجزئرة” نائب الرئيس، (والمتهم بالخيانة والفساد، لاحقا بعد انشقاقه)، عندما طالبنا بالإصلاح السياسي والاقتصادي الوطني الديمقراطي أبان ربيع دمشق الواعد والمغدور عامي ٢٠٠٠_٢٠٠١، الذي ظنوا أنهم باعتقالنا واتهامنا سيفوزون، ولم يتحسبوا أنهم سيواجهون بهبة شعبية لا حدود لها تطالب بالإصلاح، بعد أن تنمروا لمدة عشر سنوات ضد أعداء الفساد المطالبين بالإصلاح، حتى جروا سورية إلى وضع يجعل البلدين المتهمين. (الصومال والجزائر، وغيرهما) يحذرون شعوبهم من “السورنة” غير المسبوقة في التاريخ!
أن هذه الخسائر المادية والإنسانية والمعنوية غير قابلة للإحصاء، وهذا ما أرد به على من يسألني عن خسائر سورية وعن تكاليف إعمارها!
ما أكبر حظوظ أعداء أمتنا بمن يتنطعون لقيادتها، دون خجل أو وجل، إلى الانقراض!