من زوايا الذاكرة (١١)

الدكتور جون نسطة

في نهاية العام 1967، حضر إلى برلين بزيارة رسمية للحزب الاشتراكي الموحد في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، الرفيق خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري. وكان من الطبيعي أن يلتقي بنفس الوقت مع أعضاء المنظمة الحزبية السورية. فطُلب منّا الحضور إلى برلين، من كافة المحافظات في ألمانيا الديموقراطية للقاء مع الأمين العام. ولمّا وصلنا إلى هناك أخبرنا الرفيق فايز الفواز، بأن الرفيق خالد مصاب بوعكة صحية على شكل أنفلونزا، وأن الأطباء طلبوا منه الخلود إلى الراحة، لكنه مصر مع ذلك على لقائه معنا، وبهذا انتصرت ديكتاتورية البروليتاريا على ديكتاتورية الأطباء. وطُلب منّا أن لا نكثر من الأسئلة، حرصاً على صحته. دخلنا إلى القاعة بالصف، وكان أمامي في الصف صديقي عون جبور، وقبل أن ندخل إلى القاعة بمسافة قصيرة جداً سمعنا صوت الرفيق خالد يجلجل في القاعة، فالتفت إليّ عون قائلا، ما شاء الله صوته أعلى من أجراس أورشليم القدس، وهذا وهو مريض، فكيف سيكون صوته وهو معافى؟ المهم جلسنا على مقاعد خشبية تشبه المقاعد المدرسية، وفوجئت بجلوس الرفيق الشيخ محمود الأطرش إلى جانبي. ولمن لا يعرف من هو محمود الأطرش أوضح ما يلي: هو ابن أبوين جزائريين هاجرا إلى فلسطين حيث نشأ وتعلم في مدارسها، وانتسب مبكراً إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني. ومن هنا عمل ضمن صفوف “كومنتيرن”، القيادة الأممية للحركة الشيوعية العالمية التي كلفته مع نجاتي صدقي، الفلسطيني أيضاً، برعاية الحزب الشيوعي السوري اللبناني، وعمل على تعريب الحزب، حتى العام 1936 عند عودة خالد بكداش من موسكو من المدرسة الحزبية. وكان محمود الأطرش يعرف الساحة السياسية السورية اللبنانية بدقة وبالأسماء. كان سبق لي أن تعرفت عليه في فندقٍ “Sporthotel” عند لقائنا مع الرفيق يوسف فيصل. واحتفظت له باحترام خاص.

تكلم الرفيق خالد عن الوضع السياسي السوري وعن دور الحزب الناشط به، وتحدث عن استشهاد أحد الرفاق من الفلاحين في الجزيرة السورية دفاعاً عن حقوق الفلاحين في وجه أصحاب الأراضي الزراعية الكبار “الإقطاعيين، وكيف أن استشهاده كان له صدى كبير بين صفوف فلاحي المنطقة، ما جعل كثيرين منهم ينضمون إلى صفوف الحزب. وقال جملة مريبة أثرت في نفسي كثيرا، قال: “طبعاً نحن لم نكن نرغب بمقتل رفيقنا”! قالها بصيغة من يدافع عن نفسه، وكأنها موضع شك.

لم تطرح عليه أسئلة كثيرة حسب توصية الرفيق “فايز”. وعندما هم بالخروج من القاعة، كان عليه أن يمر بين صفوف مقاعدنا، فقام الرفيق محمود الأطرش يريد أن يصافحه ويتحدث معه ولو قليلاً، فما كان من الرفيق “خالد” إلاّ أن تجاهله وأعطاه يده بسرعة خاطفة وتركها. رأيت في عيني الرفيق “محمود” الحزن والأسى وخيبة الأمل. وهذا ما ترك في نفسي انطباعا مؤثراً للغاية.

خرجنا من القاعة وتجمّعنا في ساحة المكان نتحدث عن انطباعنا عن هذا اللقاء. فجاء إلي أحد الرفاق وسألني بصوت منخفض، ألم تنتبه إلى “الجاكيت” الذي كان يرتديه الرفيق خالد؟ قلت: “لا”. قال: “إنه جاكيت عتيق وكأنه اشتراه من البالة”، سوق الثياب المستعملة، “إنه جاكيت الشحادة”. ثم قدم نحوي الرفيق زياد إدريس، وهو من محبي خالد بكداش المغالين، ويعرف موقفي النقدي اتجاهه، وأراد أن يحرجني أمام بقية الرفاق، فسألني بصوت مرتفع ما رأيك بالرفيق خالد؟ فأجبت بصيغة التورية: “الرفيق خالد في الأسرة، رئيسها، وفي القرية، مختارها، وفي العشيرة، شيخها، وفي الجمع، الآغا، وفي الحزب الشيوعي، الزعيم”. فسكت على مضض، واكتفيت أنا بما قلت.

كنت وما أزال إلى اليوم، اعتبر الحزب الشيوعي داري، وبيتي، وأسرتي، وأهلي ووالديّ أبي وأمي.

ولكن مع الأسف في ذلك الوقت، قيادته أبي وأمي، قدّما لي صورة مغلوطة عن الأب والابن.

والآن أسمح لنفسي بالتحدث عن الجانب العاطفي في حياتي. ففي الشهر التاسع من العام ال1962، أي: في الصف الثاني طب، تطوعت مع رفاقي “الشيوعيين السوريين بكلية الطب، للذهاب مع الطلبة الألمان إلى مساعدة الفلاحين في قطاف البطاطا. وفي إحدى الأمسيات، فيما كنت في المركز الثقافي للقرية ألعب “البلياردو”، لاحظت فتاة جميلة ذات عينين زرقاوين تميلان للخضرة، واسعتين بشكل ملفت، تحدقان بي طويلاً وبإعجاب واضح، فتبسمت وتبسمت واقتربت مني واقتربت منها، وسلمت فسلمت، فاذا بها فتاة خجولة بريئة مرتبكة وكأنها تتحدث لأول مرة مع شاب لا يعرفها ولا تعرفه. تركت لعبة “البلياردو”، وبدأت بمحادثتها، فعرفت منها أنها تدرس الطب معي في ذات الصف، وأنها من مدينة تقع في منطقة جبلية على مقربة من حدود “تشيكوسلافيا”، وتسكن عند سيدة ألمانية في مدينة “لايبزغ” في غرفة استأجرتها في شارع ليس بعيداً عن سكني في بيت الطلبة. سألتها عن اسمها، فقالت: “هانيلوري شرايتر”.

تناقشنا في تلك الأمسية طويلاً حول أمور شتى، بينها قضية الإيمان بالله من عدمه، قالت: :إنها لا تؤمن بالله الذي تقدمه الكنيسة، ولكنها تؤمن بقوة واعية تقود العالم وتنظمه على طريقة الفيلسوف الألماني “هيغل”.

في واقع الحال كانت “هانيلوري”، التي ستصبح زوجتي بعد سبعة أعوام، إنسانة مثقفة تتقن عدة لغات: “روسية وانكليزية وتتكلم الفرنسية”. تتابعت حواراتنا كلّ مساء بعد انتهاء عملنا في الحقل.

وعندما انتهت فترة عملنا هناك، عدنا كلينا إلى مقاعد الدراسة في لايبزيغ. وكنا نتواعد على اللقاء مرة أو مرتين في الاسبوع. لم يكن في ذهني بذلك الوقت، إقامة علاقة دائمة، ولم أكن أفكر ابدأ بموضوع زواج مستقبلي، لسببين: الأول وهو الأهم، أن قيادة الحزب أبلغتنا بقرار يُمنع فيه عضو الحزب بألمانيا الديمقراطية من الزواج بأجنبية، ألمانية كانت أو غير ألمانية، (بلغارية أو هنغارية مثلاً) تدرس أو تقيم في ألمانيا. 

والسبب الثاني، شخصيٌ يعتمد على واقع أنني لا أفضل الزواج من أجنبية بدوافع وطنية بحتة، وأخرى سياسية، لأنه من المعلوم في ذلك الزمان، أن نظرة المجتمع للمتزوج من اجنبية، فيها ملامح الشكوك بانتسابه للوطن، ومن جهة أخرى، من يريد من الشيوعيين أن يتطور في مدارج العمل الحزبي، عليه أن لا يكون متزوجاً من أجنبية خاصة أوروبية.

كان رفاقي من الأصدقاء المخلصين، قد تعرفوا عليها، وكنّا في الغالب نجلس ونتحدث سوية.

وكانت لغتها العربية ونطقها بتحسن وتطور من يوم لآخر، ذلك لأنها انكبت على دراسة العربية، وكانت تمضي ساعات طويلة في المساء والليل وهي تستمع إلى إذاعة القاهرة على الموجة القصيرة، وكانت الإذاعة العربية الوحيدة التي تصل إلى ألمانيا في تلك الأزمان.

حين تعرفت عليها كانت إضافة إلى اللغات التي تتقنها، ومنها اللاتينية أيضاً، تعزف بإتقان البيانو بإتقان، عن طريق معلم خاص يحضر إلى بيتها، وتجيد السباحة، بل تحمل وسام بطولة فيها، وتجيد لغة “الاختزال”، حاصلة على شهادة قيادة سيارة، تجيد الكتابة على الآلة الكاتبة، وتجيد التزلج على الثلج، وتمارس رياضات مختلفة. كانت إلى ذلك كله جميلة الوجه، رشيقة القوام، تتمتع بخلق سام وتواضع جم، ولهفة فوّارة.

دفع هذا كله أصدقائي كي يقولوا لي: “إنك محظوظ فوق العادة بتعرفك على هذه المرأة الملاك، ولن تلقى بحياتك امرأة مثلها، وإنها ظاهرة لن تتكرر، فاغتنم الفرصة وتزوجها، بل عليك أن تتزوجها”.

من جهتها كانت مرتبطة بي بحب غير معقول يفوق الوصف. وكنت أقول لها: “لأنني أحبك لا أرغب أن أتزوجك، فطريقي صعب جداً مليء بالأشواك في وطني، وأمامي خدمة العلم العسكرية لمدة سنتين ونصف، دون دخل مادي يذكر، ثم أمامي خدمة الريف كطبيب، والريف يا عزيزتي في بلادي، ليس كريف ألمانيا، ففي أغلب القرى لا يوجد كهرباء، وأحيانا لا يوجد شبكة مياه”. فكانت تقول لي: “أنا مستعدة للعيش معك في أصعب الظروف وأشدها هولاً”.

من العدد ٥٣ من جريدة المسار