حرب الخامس من حزيران كما عايشتها

حبيب حداد

دروس الخامس من حزيران هل استوعبت حقا؟

ترى كيف يمكن لنا الآن بوعينا الراهن وبعد انقضاء هذه المدة الزمنية الطويلة أن نعيد تعيين الأسباب الرئيسية التي كانت وراء هزيمة الخامس من حزيران …وكيف لنا أن نحاول من جديد الإجابة على السؤال الذي ما يزال يطرح نفسه علينا حتى اليوم  وهو هل تم استيعاب الدروس التي ترتبت على تلك الهزيمة الكبرى في مسار الأحداث اللاحق؟ 

ذلك يتوقف طبعًا على وجهة النظر التي تتناول هذا التقييم .فمن الناحية العسكرية وكما أوضحنا سابقا كانت حرب الخامس من حزيران حربا استباقية بمعنى أن إسرائيل هي التي بدأتها وهي التي امتلكت زمام المبادرة فيها ،بعد أن كانت قد هيأت لها وحددت توقيتها. هذا جانب في الموضوع لا يجوز إغفاله  لكن السبب الأساس فيما وراء النتائج الكارثية التي أسفرت عنها تلك الحرب إنما يرجع إلى حالة الجيوش العربية الثلاثة عشية الحرب سواء من حيث إعدادها أو من حيث أدائها في غمار المعارك التي خاضتها. 

فبالنسبة للقوات المسلحة المصرية التي كانت تمثل المجهود الحربي الرئيسي في عملية المواجهة، والتي كانت الهدف المباشر للأعمال الحربية الإسرائيلية طوال الأيام الثلاثة الأولى ، فإن المطلعين والمحيطين بواقع الحال (عبد اللطيف بغدادي – دروس الهزيمة – مذكرات مراد غالب و ير الخارجية المصرية السبق) يعزون أسباب هزيمتها والخسائر الجسيمة التي منيت بها إلى ما يلي: 

  • كان ثلث الجيش المصري يقاتل في اليمن منذ خمس سنوات في ظروف قاسية استنزفت طاقاته بدرجة كبيرة. 

  • لم يكن هناك إعداد مهني ومعنوي كاف لأفراد الجيش في مواجهة كل الاحتمالات.

  • لم تكن هناك قيادة عسكرية كفوءة على رأس القوات المسلحة. 

  • لم يكن قد تحقق بعد التنسيق الضروري والمطلوب بين الجيوش الثلاثة في الجبهات الجنوبية والشمالية والشرقية.

  • الازدواجية في هرم السلطة بين الرئاسة من جهة وبين قيادة القوات المسلحة  من جهة ثانية. 

  • وقوف الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب إسرائيل ومشاركتها الفعلية والمباشرة في هذه الحرب. 

أما بالنسبة للجيش السوري على الجبهة الشمالية فإن ما أصبح معروفا للجميع ودون الخوض في التفاصيل هو أن هذا الجيش لم يكن حينها في وضعية تؤهله لمواجهة إسرائيل في حرب شاملة من هذا النوع. وبصدد هذه الوضعية يجدر بنا هنا أن نستعيد أمرين أكد تطور الأحداث المتعاقبة مدى خطورتهما. وأولهما هو أن الجيش السوري كان قد عانى من عمليات تصفية متتالية حرمته من خيرة ضباطه وكوادره، بداية من وقوع الانفصال، واستمرت بعد الثامن من آذار عبر الصراع الذي دار بين الضباط البعثيين والناصريين بهدف الاستحواذ على السلطة مرورا بما تم بعد حركة الثالث والعشرين من شباط من تصفيات داخل الحزب نفسه. فلقد حرمت حملات التصفية المتتالية هذه القوات المسلحة من كفاءات نوعية كانت بأمس ّالحاجة إليها والتي لا يمكن تعويضها إلا بعد انقضاء وقت طويل وبإمكانات كبيرة. أما الأمر الثاني فهو أن ما سمي بتجربة الجيش العقائدي التي كانت آنذاك رائجة في البلدان الاشتراكية من الصين إلى كوبا لم يثبت أنها كانت الصيغة الملائمة والأصلح لبلدان العالم الثالث التي تقودها حركات التحرر الوطني. اذ ما لبثت تلك الجيوش بعد انجاز هدف الاستقلال الوطني من الوجود الاستعماري المباشر أن تطلعت إلى السلطة وأقامت أنظمة ديكتاتورية شمولية أو فردية صادرت إرادة شعوبها وأجهضت عملية استكمال تحررها. 

وأود أن أشير هنا مرة أخرى إلى أنني إذا كنت لم اتطرق في الحديث كفاية عن وضع الجيش الأردني الذي انضم إلى اتفاقية الدفاع المشترك قبل أيام من حرب حزيران وخاضها مع الجيشين المصري والسوري وأبلى بلاء حسنا في الدفاع عن القدس كما يشهد بذلك جميع المراقبين، فليس ذلك إغفالًا لدوره او انتقاصًا من شأنه وإنما يرجع أساسًا لعدم معرفتي الكافية بأوضاع هذا الجيش الأمر الذي لا أسمح لنفسي الخوض في موضوع لا يتوفر لدي الحد الأدنى من المعرفة عنه. 

هكذا كان إذًا حال القوات العربية بصورة عامة عشية حرب حزيران،وهذه الصورة العامة لا يمكن لها ان تتجاهل وتطمس تلك التضحيات الجسام التي قدمتها الجيوش الثلاثة دفاعًا عن وطنها أو أن نغفل تلك البطولات الجماعية والفردية التي شهدتها جبهات القتال. غير أن تقدير بل تمجيد تلك التضحيات وهو أمر واجب شيء، وغياب الاستراتيجية الدفاعية الفعالة التي تتوفر على مقومات الصمود والانتصار لكل من هذه الجيوش الثلاثة او لجهدها المشترك شيء آخر. 

أما من الناحية السياسية فقد أكد تطور الأحداث على مدار نصف القرن الماضي بأن إسرائيل قد عملت على الدوام على استثمار نتائج الحرب العسكرية وما تزال من خلال فرض سياسة الأمر  الواقع على الانظمة العربية وربما على جامعتها أيضا حتى يأتي ذلك اليوم الذي تتمكن فيه من تصفية جوهر القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني لشعب يكافح من أجل استعادة وطنه وإنشاء دولته المستقلة.

على مدار ثلاث سنوات أعقبت حرب حزيران عاش النظامان المصري والسوري حالة صراع داخلي يتمحور حول التوجهات السياسية التي ينبغي انتهاجها على مختلف الصعد لمواجهة  التحديات المطروحة والاستعداد المطلوب لتحرير الأرض المحتلة. ونظرا لمركزية القيادة في مصر التي تتلخص بشخص الرئيس عبد الناصر فقد ظل هذا الأمر  مغيبًا حتى رحيله. أما في سورية فقد ظهر هذا الصراع بصورة مكشوفة وتمحور حول خطين: خط تتبناه المؤسسات الحزبية وكان يرى ضرورة إجراء مراجعة شاملة لأوضاع البلاد وإدخال إصلاحات جدية في مختلف الميادين، وذلك على الرغم من أن أبعاد هذا الإصلاح لم تكن تصل إلى حد إرساء الحياة الديمقراطية بصيغتها الدستورية الكاملة. وخط آخر تمثله القيادة العسكرية وكان يرى أن النهج الذي يمكن من تحرير الأرض المحتلة ينبغي أن يعطي الأولوية للتضامن والعمل العربي المشترك وللحلول السياسية والدولية لمشاكل المنطقة.

لقد انتهت حالة الصراع الداخلي تلك التي عاشها النظامان المصري والسوري بإجهاض هاتين التجربتين المتميزتين في حركة التحرر العربية وذلك على يد تيارات اليمين والارتداد التي خرجت من رحم كل منهما، بحيث يمكن القول إن المشروع النهضوي العربي الذي مثل هذان النظامان طليعته قد دخل في أ ازمة ذاتية نتيجة عوامل داخلية تتعلق بطبيعة القوى التي كانت تقودهما من جهة ونتيجة السياسات العدائية التي وجهت لهما من قبل إسرائيل والدول الإمبريالية الغربية وقبل ذلك من قبل الأنظمة العربية الرجعية من جهة ثانية.

هكذا ومع نهاية عام 1970 وقيام ما سمي بحركة تشرين التصحيحية في سورية كان هناك نظام آخر سرعان ما استكمل هويته كنظام شمولي فردي أقرب ما يكون إلى الأنظمة السلطانية التي عرفتها القرون الوسطى. ومع قيام ما سمي بحركة مايو التصحيحية عام 1971 في مصر وتصفية رموز النظام الناصري واستفراد السادات بالسلطة دخلت حركة التحرر العربية في منعطف تراجعي خطير نظرا للدور المركزي لهذين البلدين في الوضع العربي عامة. 

لقد سادت في هذه الفترة التي أعقبت حرب حزيران وحتى منتصف السبعينيات حالة من البلبلة وعدم وضوح الرؤية وتميزت مواقف العديد من النخب العربية الفكرية والسياسية بردود الفعل تجاه التطورات التي تلاحقت في المنطقة. حتى أن قوى اليسار كادت تجمع أن السبب الرئيس في هذه الهزيمة يعود إلى الدور الذي اضطلعت به البورجوازية الصغيرة في قيادتها لحركة التحرر العربية وأن الخلاص من هذا المأزق يتحقق الآن وليس غدًا في قيادة الطبقة العاملة وأحزابها الثورية لهذه الحركة. 

وبالتالي فإنه على الطبقة العاملة أن تتقدم الصفوف وتضطلع بهذه المسؤولية ! كما نتذكر اليوم تلك المواقف الخاطئة التي اتخذها العديد من الشخصيات والاحزاب في تلك المرحلة، والا كيف نفسر مثلًا أن كاتبا أو  صحفيًا مرموقًا مثل السيد محمد حسنين هيكل الذي يضع نفسه دوما في موضع المؤتمن والمدافع عن تراث عبدالناصر يبايع حركة السادات التصحيحية منذ أول يوم لقيامها وينّصب نفسه منظرًا وشارحا لسياساته طوال أربع سنوات أي حتى إبرام اتفاقية فصل القوات التي أشرف على تنفيذها هنري كيسنجر؟ وكيف نفسر أن أحزابا وحركات سياسية سورية ناصرية ويسارية وماركسية لا يشك في إخلاصها ووطنيتها شاركت في نظام الأسد طوال السنوات الخمس الأولى من قيامه مبررة موقفها هذا باختبار صدق النظام في الوعود التي قطعها والشعارات التي رفعها. فغادرت بعد أن تأكد لها أن لا نوايا النظام الحقيقية كانت كذلك ولا طبيعته أو هويته التي تبلورت تسمحان له بتنفيذ أي من تلك الوعود والشعارات التي طرحها أو نادى بها.

أحداث خطيرة عاشتها الامة منذ حرب حزيران وحتى اليوم، ومياه كثيرة مرت تحت جسر المشروع النهضوي العربي فأثرت في هذا المشروع سلبًا أو إيجابا ، وما زالت تلك التاثيراتً تستهدف جوهر هذا المشروع فتدفع بعضهم إلى ضرورة إجراء مراجعة جذرية له من حيث الأهداف والمهمات والمرحلية وأساليب العمل والإنجاز ، وتدفع بعضهم الآخر إلى الشك في صحة أو صوابية هذا المشروع من أساسه وبالتالي في إمكانية نجاحه فتدعو إلى الإقلاع عنه وإعلان وفاته مركزة على ان هذا المشروع يلغي او يتناقض مع المشروع الوطني في نطاق كل قطر.

شعارات ومفاهيم جديدة طرحت في ساحة الفكر السياسي العربي منذ حرب حزيران وحتى اليوم الذي شهد فيه العديد من البلدان العربية تلك الانتفاضات الشعبية التي جاءت في سياق ما سمي بالربيع العربي، ونتيجة قصور الوعي وغياب الحياة الديمقراطية ظلت تلك الشعارات والمفاهيم سواء في ماهيتها ودلالتها أم في علاقاتها مع بعضها في حالة من الاختلاط والإرباك وأحيانا في حالة من التضاد والتناقض وأبرز مثال على ذلك جدل أو صراع الثنائيات في الفكر العربي المعاصر مثل الصراع بين القطري والقومي وبين الأصالة والمعاصرة وبين التحرير والتنمية وبين الحرية والعدالة الاجتماعية وبين العلم والإيمان.

خلاصة القول وبنظرة موضوعية إلى أوضاع المجتمعات العربية اليوم، ونحن نعيش في عصر العولمة بكل ما تحمله من مخاطر وتحديات وبكل ما تتيحه من فرص وامكانيات، فإن الاستجابة لتلك التحديات ,التي خلفتها حرب حزيران وما أعقبها من تطورات بما في ذلك حرب عام 1973 التي بددت نتائجها الإيجابية , ظلت حتى الآن قاصرة ومحدودة ودون المستوى المطلوب. فالمجتمعات العربية ما يزال كل منها يعيش أزمة بنيوية شاملة، أزمة نظام ومجتمع، واستمرار هذا الواقع تتحمل مسؤوليته أساسا السلطات الحاكمة من جهة والنخب الفكرية والسياسية من جهة أخرى. 

فعلى صعيد الأنظمة الحاكمة ومع وجود بعض التفاوت بين نظام وآخر ظلت الحلول حتى الآن قاصرة وجزئية لا تتناول جذور عملية التنمية والإصلاح الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بل إن بعض تلك الإصلاحات الجزئية التي تمت في بعض البلدان العربية، وخاصة في مجال الحريات العامة، كثيرا ما تم التراجع عنها والارتداد عليها. أما على مستوى المجتمع المدني وبخاصة التيار العام الذي يشمل النخب الفكرية والسياسية فلا بد من الاعتراف بالحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن التعامل مع التحديات المطروحة ما يزال يتسم بردود الفعل الحماسية تارة او بالانغلاق والعزلة والعودة إلى الماضي بدافع الحفاظ على الخصوصية والدفاع عن الهوية المهددتين تارة أخرى! وما نشهده اليوم هو طغيان موجة الأصولية والشعبوية بمختلف ألوانها التي تشل قدرة العقل العربي على التطور وتحول دون امتلاكه للوعي النقدي العلمي المطلوب.

وهذا الواقع يجعل من عملية التنوير اليوم المهمة المركزية الملحة التي تتقدم على غيرها من المهمات في مجتمعاتنا وذلك من أجل بناء ثقافة عقلانية عصرية، ثقافة تكرس قيم العدالة والديمقراطية والعلمانية وتكفل لهذه المجتمعات تجاوز حالة التخلف التي تعيشها ومواكبة مسار العصر.

شهدت مرحلة ما بعد حرب حزيران تطورات هامة على الصعيدين العربي والعالمي وكان لهذه التطورات انعكاساتها المباشرة على الأقطار العربية الثلاثة التي احتلت أراضيها. فعلى الصعيد الدولي ازدادت حدة الحرب الباردة بين المعسكرين: الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي مع اتساع شقة الخلاف الصيني السوفييتي داخل هذا المعسكر الأخير وتمثلت بؤر الصراع بين هذين المعسكرين في مختلف الساحات وفي مقدمتها الحرب الفيتنامية والصراع العربي الصهيوني وكذلك الحروب في العديد من الساحات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ولو بالوكالة أو بطريقة غير مباشرة. أما أبرز تلك التطورات على الصعيد العربي فقد تمثلت بتعاظم دور الشعب الفلسطيني من أجل ممارسة حقه في تقرير مصيره ونيل حقوقه الوطنية المشروعة في الحرية والاستقلال، وترافق ذلك بصورة رسمية في انتقال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى فصائل المقاومة بعد استقالة السيد أحمد الشقيري ليخلفه بصورة مؤقتة السيد يحيى حمودة وانتقالها بعد ذلك إلى السيد ياسر عرفات رئيس حركة فتح .وفي العراق قامت حركة 17-30 تموز التي أنهت نظام عبد الرحمن عارف وجاءت بحزب البعث إلى السلطة، وفي السودان حدث انقلاب الخامس والعشرين من مايو عام 1969 الذي جاء بجعفر النميري ومجموعة من الضباط الناصريين والشيوعيين إلى السلطة وذلك قبل أن يرتد عليهم ويصفي معظمهم وينفرد بالسلطة. وفي ليبيا قامت ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 بقيادة العقيد معمر القذافي ومجموعة من الضباط الشباب ذوي الميول الناصرية.

ولعل العامل الأهم الذي ميز تلك المرحلة هو موقف الشعوب العربية في مختلف أقطارها الذي اتسم بالحماس والتضحية والاستعداد للمساهمة في تحرير الأرض المحتلة ومحو آثار  العدوان . وقد كان نزول الملايين من الجماهيرالمصرية إلى شوارع القاهرة وغيرها من العواصم العربية كما ذكرنا رفضا لاستقالة عبد الناصر ومطالبتها له بالاستمرار في تحمل المسؤولية أسطع برهان على ذلك.

من العدد ٥٣ من جريدة المسار