مجتمع مدني سوري عابر للحدود: إيجابياته وسلبياته

تفاوت حضور المجتمع المدني في سورية قبل وبعد الانفجار السوري في ٢٠١١ و السبب في ذلك مرتبط بالمتغيرات والتطورات السياسية التي حدثت وما رافق ذلك من صراع على السلطة بعد الاستقلال.

فبعد الاستقلال، وبسبب التوجه الديمقراطي، الليبرالي للسلطة فقد أولى القانون السوري آنذاك اهتماما كبيرا وملحوظاً بالجمعيات الأهلية والنوادي الثقافية والفنية والرياضية والمنظمات الخيرية والشبابية والنسائية والمؤسسات الاجتماعية والأحزاب السياسية، بدءاً بالقانون ٤٩ لعام ١٩٤٥ الخاص بالجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية ومرورا بالقانون ٥٢ لعام ١٩٤٩ الخاص بتأسيس الأندية وانتهاء بإقرار دستور ١٩٥٠ الذي تضمن حق المواطنين بتأسيس الجمعيات ومنحها حريتها واستقلالها، ثم القانون (٤٦) لعام ١٩٥٣ الخاص بالجمعيات والأحزاب السياسية الذي اعتبرها جزءاً أساسياً من حياة المجتمع وحق من حقوق المواطنين. 

مع قيام الوحدة السورية المصرية وبسبب السياسة المركزية القوية للسلطة السياسية المطبقة آنذاك، غابت جميع تلك الحقوق الممنوحة سابقا  بفعل تطبيق القانون (٩٣) لعام ١٩٥٨ الذي أسس فهماً جديداً لمصطلح الجمعيات بما يتوافق ويلتزم  بسياسة الوحدة ، كم حدد لها الإطار القانوني لعلاقتها القوية بالحكومة ودورها المحدود في المجتمع ، هذا إضافة إلى حل جميع الكيانات والأحزاب السياسية استنادا إلى ما هو كان قائما في مصر.

مع صدور هذا القانون بدأ دور منظمات المجتمع المدني بالغياب في حياة المجتمع وتطوره واستمر هذا الوضع في سورية ولهذا التاريخ بسبب طبيعة النظام الاستبدادية – الشمولية، من خلال صدور جملة قوانين ومراسيم بين أعوام ١٩٦٣ و ١٩٨١ وكان أخرها حل جميع النقابات العلمية والمهنية التي كانت تتمتع بهامش  من الاستقلالية فأصبحت جزءاً من أجهزة الدولة وسلطة حزب البعث القائد للدولة والمجتمع وفقاً للمادة الثامنة من الدستور السوري لعام ١٩٧٣.

تكمن أهمية حضور منظمات المجتمع المدني من خلال نشاطها الحر الذي يؤمن إقامة التوازن بين سلطة الدولة من جهة والهيئات والتجمعات الخاصة والأفراد من جهة أخرى أو خلق توازن بين ظلم الأنظمة والحكومات واستغلالها المالي والاقتصادي للمجتمع والأفراد مع  المطالب بالحقوق والحريات والعدالة ويتجسد هذا الدور من خلال أنشطتها في الحياة الاقتصادية والمالية  ومدى تأثيرها في توجيه التجمعات الاجتماعية والكيانات السياسية والثقافية في النشاط الاجتماعي الطوعي الحر  او قدرتها على ضبط ايقاع وانفعالات الافراد  من خلال استيعابهم ضمن انشطتها المتعددة الأمر الذي يدفع أنظمة الاستبداد والشمولية الى تقييد نشاط وحركتها في المجتمع عبر القوانين والملاحقة والاعتقال منعا من تعبئة الافراد والمجتمع بقيم التغيير والحقوق والعدالة.  

اقترن فهم السوريين للمجتمع المدني قبل ٢٠١١ باحتكار السلطة له، وبالتالي لم يعد شائعا أو متداولة في المجتمع حتى ٢٠١١ لذلك لا يمكن اعتبار أغلب المنظمات والنقابات والنوادي والجمعيات والاتحادات الا جزاً من النظام الحالي ولا ينطبق عليها صفة المجتمع المدني لأنها فقدت هذه الصفة كونها خضعت منذ تأسيسها لسلط الاستبداد وتأتمر بتوجيهات عبر القوانين والمراسيم واللوائح الناظمة لحركته، باستثناء فترة ما بعد منتصف التسعينات من مرحلة الأسد الأب عند تراخي القبضة الامنية للنظام وبداية الالفية الثانية في مرحلة استلام الأسد الابن حيث انطلقت ولفترة قصيرة ظاهرة ما سمي بلجان إحياء المجتمع المدني  فتشكلت بعض المنظمات والمنتديات الثقافية والحقوقية من شخصيات ذات خلفيات سياسية تطالب بالإصلاح وإصدار قانون للأحزاب والحريات السياسية ووقف العمل بقانون الطوارئ. 

الا ان تلك الظاهرة لم تعمر طويلا بسبب إغلاق أغلبها واعتقال وملاحقة الناشطين ضمنها، هذا بالرغم من أنه لا يمكن اعتبار تلك الأنشطة متوافقة مع مفهوم المجتمع المدني ولا معبراً عنه بسبب غلبة الطابع السياسي أو الحقوقي إضافة إلى أنها لم تترك أي اثراً اجتماعياً أو أهلياً يمكن أن يبنى عليه مستقبلاً في إيجاد حالة  من التوازن بين مؤسسات النظام وبين المجتمع، ومع ذلك أقدم النظام على قمع تلك الأنشطة واعتبرها تشكل تهديداً للسياسة الداخلية أو تشكل  قوة ضغط امام السلطة الفتية أو أن تكون عائقاً امامه من توسيع قاعدته الاجتماعية، وقد صرح حينها عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية آنذاك وبعد حملة الاعتقالات على الناشطين فيها (لن نسمح بتحويل سورية إلى جزائر أخرى).

في بداية ٢٠١١ وبعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سورية ومع فقدان السلطة المركزية قدرتها على تشديد الرقابة والملاحقة، برزت طفرة جديدة وغير مسبوقة تحت اسم (التنسيقيات) البعض منها داخلية وأخرى خارجية وغير موحدة، وطال نشاطها بعض  جوانب الحياة، كتنظيم الاحتجاجات والتظاهرات وتأمين مراكز صحية لمعالجة المصابين  والجرحى من جراء العمليات العسكرية الجارية إضافة إلى تأمين بعض الخدمات الاجتماعية كتأمين المواد الإغاثة بعد تفاقم  الأوضاع الانسانية، وقد تركز هذا النشاط في المناطق التي انحسر عنها سلطة النظام.

مع ازدياد الأعمال العسكرية وملاحقة واعتقال الناشطين في المجال الإنساني والاغاثي والسياسي سواءً في مناطق سلطة النظام، أو لسبب صعوبة العيش  في المناطق التي انحسر عنها النظام، دفع الكثير من الشباب والنشطاء البحث عن ملاذات أمنة خارج سورية أو في مناطق سلطة الأمر الواقع في الشمال أو الجنوب أو في المناطق الشرقية لممارسة أنشطتها  مما ساهم في ارتفاع نسبة المنظمات خارج سورية أو خارج سلطة النظام مما أدى بتلك المنظمات إلى فقدان وانتهاء دورها المباشر في تلبية الاحتياجات المحلية، الاهلية من جهة، والى فقدان استقلاليتها في العمل المجتمعي أو الاغاثي أو الإنساني بسبب التأثير المباشر وغير المباشر من قبل الدول أو سلطات الأمر الواقع في عملها أو في تغييره  وفق أجندات سياسة تلك الدول أو التضييق عليها والحد من أنشطتها. 

كان لبيان جنيف واحد لعام ٢٠١٢ والقرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ لمؤتمر بروكسل عام ٢٠١٧ ولتوجهات الدول المانحة والداعمة للحل السياسي في سورية دورا كبيرا في إعطاء بعداً جديدا سياسيا ودوليا لما سمي بمنظمات المجتمع المدني السوري وفي تمييع دورها المستقل، فقد اعتبرت تلك القرارات الخاصة بالأزمة السورية أن المجتمع المدني جزءاً من حل الأزمة وطرف ثالث إلى جانب  كل من النظام و المعارضة، الأمر الذي أعطى الحق لتلك الدول الفاعلة والمانحة والمؤثرة في الحل السياسي للتدخل المباشر في عمل مجموعات ونشاط المجتمع المدني كما أعطى ذلك الحق للمنسق الدولي الخاص بسورية السيد دي مستورا حينها من انشاء غرف خاصة بالمجتمع المدني وغرفة بالمرأة السورية وجعل منها كوتا مستقلة عن بيئتها ومجتمعها وممثلة فوق العادة في كافة المؤتمرات وجولات التفاوض وأصبحت تلك الغرف خاضعة للدول المانحة أو لوصاية المنسق الأممي الخاص  وتوجهاته الفكرية والسياسية، كم تمثلت تلك المجموعة في تشكيل اللجنة الدستورية وبنفس النسب التي تمثلت فيها المجموعات الأخرى بالرغم من غياب رؤيتها الواضحة أو المشتركة  فيما بينهم وقد اتضح دورهم الثانوي وغير الفاعل من خلال اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف. 

وبصرف النظر عن الاستفادة من  الخبرات المتعددة التي حصلت عليها مجموعات المجتمع المدني التي تأسست خارج الحدود السورية، وهي عديدة، فأن هذا التحول بفعل القرارات الدولية قد شكل عند الكثير من نشطاء المجتمع المدني بوابة للوصول الى دول ومراكز ومواقع وشبكات دولية كبيرة وهامة وساعدهم على تلقي  الدعم وتدفق الأموال الهائلة  الامر الذي ساهم في إفساد العديد منهم وتغيير اهتماماتهم نحو  نحو النشاط السياسي أو التركيز على مصالحهم  الشخصية والخاصة، كما أدى هذ أيضا عند الكثير من أعضاءها الى ضعف استقلاليتهم اتجاه سياسة المانحين فأصبح دورها في مجتمع النزوح أو في اللجوء محدودا وغير مؤثر ً وذلك لأن مجتمع النزوح في أغلب تلك الدول وخاصة في  الدول الأوربية لم يكن بحاجة إلى الحماية أو الرعاية في وقت يكون المجتمع السوري في الداخل في حاجة لكافة أنواع المساعدة وهي عاجزة عن تقديمها لهم بسبب البعد أو تقييد النشاط باستثناء البعض منها أو بفضل جهود بعض الأفراد عندما أخذوا على عاتقهم مهمة توثيق الأحداث مثل (اعتقال، تعذيب، قصف، قتل، نزوح، تهجير) وتقديمها لدول أو منظمات حقوقية أو للإعلام ساهمت في بعض الأحيان  في صياغة  قوانين أو مواقف سياسية ، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية عند إصدار قانون قيصر. 

لا يزال أمام تشكيلات المجتمع المدني الكثير من التحديات سواء ً في الداخل أو في مناطق سلطات الأمر الواقع أو في دول المهجر، ففي الداخل، تعتبر منظمات المجتمع المدني، في حال وجودها وأخذ دورها رغم المنع المفروض عليها، منافسا للسلطة ومصدر تهديد حقيقي لها ومدخل لحضور المعارضة في الحياة  السياسية، لذلك على الناشطين في هذا المجال أن تستعيد حضورها عند قاعدتها الاجتماعية  بعيدا عن مفهوم النخبة او العصبة او الانتماء الديني او القومي وان تنهي النزاعات والانقسامات فيما ببنها وأن تعالج أمراض الفساد المنتشر بين أعضاءها وان تعبر عن نفسها عبر دورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والخدمي والاغاثي في حال طال النزاع في سورية. 

اما في دول اللجوء و في مناطق سلطات الأمر الواقع فالأمر يختلف كثيرا عن الداخل السوري، فعلى أكثرية المنظمات المتواجدة فيها أن تحل  مشكلة ضعف الاستقلالية أمام سلطة المانحين وهذا مدخل لها لحل مشكلة الفساد فيها، وان يكون لها رؤية وبرامج وأولويات واضحة تهم الشعب السوري وتساعدهم في مواجهة أزماتهم العديدة، أي تبيئة مشاريعها وفق حاجات المجتمع السوري بمعزل عن رغبات ومشاريع افتراضية لا تخدم الشعب السورية تفرضها الدول  المانحة والفاعلة بالازمة السورية كما عليها أن تبلور في نشاطها دوراً ضاغطاً على حكومات دول اللجوء مستفيدة في ذلك من حضورها المفروض دوليا في مفاوضات الحل السياسي، لإنجاح العملية السياسية  السياسي وفقاً لبيان جنيف والقرارات الدولية ذات الشأن باعتبارها طرفاً وجزءً من الحل  الذي تيسره الامم المتحدة، وأيضاً باعتبار أن نجاح الحل السياسي المنشود هو الذي يؤمن لها البيئة المجتمعية المستقرة و المستدامة والآمنة في الداخل السوري ليكون  من خلاله تحقيق نجاحها.

من العدد ٥٣ من جريدة المسار