استعصاء الأزمة السورية

تحركت الأزمة السورية نحو حل تسووي لمرتين في سنواتها العشرة:المرة الأولى بعد اتفاق 14 أيلول 2013 بين واشنطن وموسكو لنزع السلاح الكيماوي السوري، وما تبع ذلك بعد أسبوعين من صدور القرار 2118 الذي تبنى بيان جنيف1 بنصه الكامل في ثنايا القرار، وما تضمنه القرار بالدعوة إلى انعقاد (مؤتمر جنيف2). انكسر الاتفاق الأميركي الروسي في شباط 2014نتيجة اندلاع الأزمة الأوكرانية التي اتهمت موسكو الأميركان بإشعالها.المرة الثانية التي تحركت فيه الأزمة السورية كانت أيضاً حصيلة لتوافق أميركي- روسي حول التدخل العسكري الروسي في سوريا بداية من يوم 30 أيلول.

كان التوافق حول ذلك قد أنتج في شهرين ونصف لاحقين وثيقتي فيينا وانعقاد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية الذي أنتج وفداً للمعارضة السورية من أجل التفاوض مع الحكومة السورية،ومن بعده صدور القرار 2254 الذي دعا لانعقاد (جنيف3) الذي بدأ في 29 كانون ثاني 2016. أفشلت تركية مسار (جنيف3) من خلال دفع رياض حجاب إلى تعليق مشاركة وفد المعارضة في (جنيف3).

خلال السنوات العشر الماضية من عمر الأزمة السورية لم تكن هناك سوى هاتين المحاولتين لحل الأزمة. يوحي ذلك بأن مفتاح حل الأزمة السورية موجود في البيت الأبيض وفي الكرملين، وبأن كلاهما معاً يستطيعان وضع الأزمة السورية على سكة الحل، وبأن محاولة منفردة لحل جزئي يتبناه أحدهما لا يستطيع تحريك عملية تسوية الأزمة حتى ولو وقفت معه أطراف اقليمية، كما حاول الروس في النصف الأول من عام 2021.

في هذا المجال يلفت النظر بأن انفراط (جنيف 3) في عام 2016 قد أعقبه، في ظل توتر أميركي- روسي،التواجد العسكري الأميركي في شرق الفرات في موازاة التواجد العسكري الروسي في غرب الفرات. كما أن تقاربات موسكو وأنقرة منذ صيف 2016 قد ولدت بغطاء الكرملين خلال سنوات 2016-2019 مناطق للتواجد العسكري التركي في خط ادلب – عفرين – اعزاز- الباب – جرابلس وفي خط تل أبيض- رأس العين، وهو ما أتاح للأتراك لأن يصبحوا اللاعب الثالث في الأزمة السورية، فيما هناك لاعب رابع أقل قوة من الأتراك هو اللاعب الايراني.

اللاعب الإقليمي يستطيع عرقلة حلول الأزمة، وهو ما رأيناه من الأتراك عبر تابعهم رياض حجاب في نيسان 2016 عندما كانت أنقرة في حالة تجابه مع كل واشنطن وموسكو، ولكنه لا يستطيع إنتاج حل للأزمة حتى ولو تحالف وتعاون مع أحد اللاعبين الكبار، أي الأميركان والروس.

استعصاء الأزمة السورية ينتج الآن من التوتر غير المسبوق في العلاقات الأميركية-الروسية منذ نهاية الحرب الباردة، وبالذات في عهد جو بايدن، وهو توتر لايتعلق بسورية بل له علاقات بملفات عديدة تمتد للضغط الأميركي على الروس لابعادهم عن نسج حلف مع الصين التي يراها الأميركان المنافس الأكبر أمام القطب الأميركي الأوحد للعالم، وتمتد للملف الأوكراني الذي يريد الأميركان عبر إدخال أوكرانيا في حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي جعل أوكرانيا الجدار الشرقي للناتو من أجل عزل روسيا عن أوروبا، وهي التي يراها الكثير من الغربيين أنها كانت تشكل تهديداً للقارة العجوز 

ليس مظهره الأخير تداعيات ثورة أكتوبر 1917 التي هزت العالم واعتبرها اليمين الأوروبي تهديداً خطيراً له، فيما كانت روسيا عند يساريي القرن التاسع عشر زعيمة للقوى المحافظة الرجعية القديمة عبر مثالي مشاركة القيصر الروسي في هزيمة نابليون بونابرت والثورة الفرنسية عام 1815 في واترلو وإعادة آل بوربون للحكم في باريس ومشاركة القوات الروسية لآل هابسبورغ الحاكمين في الامبراطورية النمساوية في قمع الثورة المجرية عام 1849.

تستخدم سورية الآن، عبر الضغط الاقتصادي، من أجل إجبار الروس على تقديم تنازلات في أوكرانيا ومن أجل إجبارهم للابتعاد عن الصينيين، ويبدو أن سيناريو أفغانستان في الثمانينيات عندما تم تحويل أفغانستان لمستنقع غرق فيه السوفيات يريد الأميركان تكراره في سوريا ضد الروس، إلا إذا استجاب الكرملين لمطالب الأميركان في أوكرانيا وفيما يخص العلاقة الروسية-الصينية.

افتتاحية العدد ٥٣ من جريدة المسار