عودة روسيا إلى الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والمتوسط وآثارها على العلاقات بين الغرب وروسيا

ماركو سيدي

(ترجمة هيئة التحرير)

مقدّمة

قامت روسيا في أيلول/سبتمبر 2015، بعودة عسكرية كبيرة إلى الشرق الأوسط من خلال تدخّلها المباشر في الحرب الأهلية السورية. قُدِّمَ التدخُّل رسميّاً على أنه عملية لمكافحة الإرهاب، واتّخذ شكل حملة قصف لدعم الجيش السوري وحلفائه، بما في ذلك القوات الإيرانية وحزب الله. كانت القوات الجويّة الروسية المنتشِرة في سوريا مدعومة بقاذفات استراتيجية تحلّق من قواعد في روسيا، وكذلك بسفن بحرية وغواصات أطلقت صواريخ كروز من البحر الأبيض المتوسّط ​​وبحر قزوين. تمكّنت روسيا بفضل هذا الانتشار، من التأثير بشكلٍ حاسم على مسار الأزمة السورية وتعزيز وجودها العسكري في البلاد. كان التدخُّل بمثابة استعراضاً للقوّة العسكرية (المستعَادَة) المكتسَبة مؤخّراً. بالإضافة إلى ذلك، فقد أظهرَ للقادة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) أن روسيا مستعدّة للوفاء بالتزاماتها كحليفٍ والاضطلاع بدورٍ دبلوماسيٍّ رائد في المفاوضات الّلاحقة.

كان التدخّل العسكري لموسكو في سوريا أوضح مظهَر لنشاطها المتجَدّد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حدّد المحلّلون عدّة دوافع لسياسة روسيا، بما في ذلك السّعي للحصول على مكانة قوّة عظمى، والاستعداد للتغلُّب على الجمود السلبي في العلاقات مع الغرب بعد أزمة أوكرانيا، والمخاوف الحقيقية بشأن انتشار الإرهاب من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي. يستعرِض هذا الفصل التفسيرات العلمية الرئيسية لتحوُّل روسيا مؤخّراً إلى الشرق الأوسط ثم يحدِّد جوانب سياستها الرئيسية. ثم يستكشف  في الخطوة الثانية، نتائج النشاط الروسي المتجدِّد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على العلاقات مع الغرب، ولا سيّما الاتحاد الأوروبي (EU)، بما في ذلك سبل التعاون المحتمَلة.

يسلّط الفصل الضوء على أن المشاركة الروسية المتزايدة في الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد أضافت بُعداً جغرافياً جديداً للعلاقة الأمنية بين الغرب وروسيا. وفي حين أن أوروبا وفضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي لا يزالان السياقين الرئيسيين حيث يتم تنفيذ العلاقة، فقد حدثَ تفاعل كبير مؤخّراً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضاً. أصبحت قضايا مثل التنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا لتجنُّب الاشتباكات العسكرية في سوريا، على سبيل المثال، محورية في الأجندة الأمنية بين الغرب وروسيا. أنتج التفاعل كما ورد في الجزء الأخير من هذا الفصل، في الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مصادر توتر إضافية وفرصاً جديدة للتعاون في العلاقات الأمنية بين الغرب وروسيا.

تحول روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: العوامل الجيوسياسية والمحركات المحلية والعوامل الفكرية

يفسِّر المنطق الجيوسياسي الواسع الذي يهدف إلى استعادة مكانة القوّة العظمى وفقاً للعديد من الباحثين، وخاصّة الروس، السياسات الروسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. يحاول الكرملين وفقاً لديمتري ترينين، تغيير النظام العالمي، من نظام يتميّز بالهيمنة الأمريكية إلى نظام متعدّد الأقطاب حيث تُعَدْ روسيا أحد الأقطاب. يُعتبر نشاط روسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسيلة لتحقيق هذه الغاية، في حين أن عكس ديناميكيات الربيع العربي أو محاربة الإرهاب هي أهداف ثانوية. تجادِل إيكاترينا ستيبانوفا على نفس المنوال، وتدّعي أن التدخّل الروسي في سوريا جزء من استراتيجية جيوسياسية أوسع تدور حول الغرب. القوّة الروسية في سوريا، أو نفوذها في الحرب الأهلية الليبية، أوراق رابحة في العلاقة الأوسع مع الغرب. أظهرَت روسيا للغرب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفقاً لوجْهة النظر هذه، أنها لا تزال جهة فاعلة رئيسية خارج منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي. علاوة على ذلك، فقد حاولتْ الضغط على الغرب للتعاون بشأن أجندة مكافحة الإرهاب، بينما دفعَت في الوقت نفسه موضوع النزاع في أوكرانيا إلى الخلفية. وقد أيَّد العديد من العلماء الروس وكذلك بعض الخبراء الأوروبيين وخبراء عبر المحيط الأطلسي هذا المنظور. لا تسعى روسيا وفقاً لترينين وستيبانوفا، للهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط، ولا تحاول إضعاف دور واشنطن التفاوض بشأن سوريا. تجادل ستيبانوفا إن العملية العسكرية في سوريا كانت “إجراء أحادي الجانب لفرض التعدُّدية”، مشيرةً إلى أن إشراك الجهات الفاعلة الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي ودول الخليج أمر لا مفرّ منه لتمويل إعادة إعمار ما بعد الصراع. يحافِظ ترينين على أن روسيا بحاجة إلى واشنطن إلى جانبها من أجل إبراز عودتها إلى مكانة القوّة العظمى. ومع ذلك، فإن حقيقة أن الولايات المتحدة مُنِحَتْ فقط وضع المراقب في عملية السلام في أستانا بشأن سوريا (التي تقودها روسيا وتشمل تركيا وإيران) يدعو إلى التشكيك جزئياً في حجّة كل من ترينين وستيبانوفا.

تختلف وجهات النظر الجيوسياسية الأخرى، عن تلك المذكورة أعلاه فيما يتعلّق بالدور المنوط بالغرب والجهات الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الحسابات الجيوسياسية لروسيا. وفقاً لنيكولاي كوزانوف، فإن نشاط روسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو وسيلة لتجنُّب العزلة ليس فقط من خلال إجبار الغرب على المفاوضات أو التعاون، ولكن أيضاً من خلال توسيع الروابط مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. وبالتالي فإن الأمر يتعلّق أيضاً بإعادة التوازن في العلاقات الخارجية لروسيا بعيداً عن الغرب من خلال الشراكات مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تُعتبر سُوقاً لصادرات الأسلحة الروسية والطاقة النووية، واستيراد التكنولوجيا، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والصفقات الحاسمة لتحقيق استقرار أسعار النفط. أخذْ هذا المنطق خطوة إلى الأمام، يزعم يوري بارمين أن روسيا في الواقع تتحدّى الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حتى في أماكن مثل مصر، حيث لا تنوي واشنطن التراجع. يمكن لروسيا من وجهة نظره، أن تلعب دوراً وسيطاً في العديد من النزاعات الإقليمية (ليبيا، والصراعات الإسرائيلية الفلسطينية والصراعات السعودية القطرية) حيث انحازت الولايات المتحدة إلى أحد الجانبين ولم تعد تتمتّع بمصداقية كوسيط. يمكن لروسيا بعد حجج كوزانوف وبارمين، أن تحصل على مكانة القوّة العظمى أيضاً من خلال التعامُل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والصراعات، وليس فقط نتيجة للاعتراف الغربي.

يشير العديد من العلماء إلى المخاوف الداخلية من بين أسباب سياسات روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل وجود مقاتلين يتحدَّثون الروسية في صفوف داعش وخطر عودتهم إلى روسيا (أو إلى دول أخرى كانت في السابق ضمن الاتحاد السوفييتي) وأن يصبحوا نشطين هناك. غالباً ما يُشار إلى حقيقة أن الاحتجاجات الجماهيرية حدثت في المدن الروسية في عامي 2011 و 2012، بعد احتجاجات الربيع العربي مباشرة، على أنها محرِّك محلّي مهم للإجراءات الروسية اللاحقة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يجادل سوى عدد قليل من العلماء بأن العوامل المحلّية كانت أكثر أهمية من الاعتبارات الجيوسياسية أو غيرها. يدّعي ليونيد إساييف وأليسا شيشكينا أن الكرملين أطلق حملة القصف في سوريا في المقام الأول من أجل تعبئة الرأي العام المحلّي، باستخدام التهديد الإرهابي لخلق “تأييد عام”.

تستمدّ هذه الحِجّة منطقيتها من حقيقة أن الهجمات الإرهابية تشكّل تهديداً متكرِّراً وحقيقياً في روسيا، وأن الإجراءات الحاسِمة ضد الإرهابيين (أو الجماعات الموصوفة على هذا النحو) عزَّزت شعبية الحكومة في الماضي (وعلى الأخصّ، في بداية حياة الزعيم الوطني بوتين المهنية، عندما شنّ حرب الشيشان الثانية).

يشير كل من إيساييف وشيشكينا من أجل تعزيز أطروحتهم، إلى توقيت التدخُّل في سوريا، الذي انطلق في أيلول/سبتمبر 2015. وهم يجادلون بأن ذلك بدأ بينما كان التأثير التعبوي لضم شبه جزيرة القرم يتضاءل والوضع الاقتصادي الداخلي كان يزداد سوءاً، ومن هنا تأتي الحاجة إلى مغامرة جديدة في السياسة الخارجية. غذّى استعراض القوّة العسكرية في سوريا رواية عن القوة العظمى استهدفت الرأي العام المحلي. كما تمَّ حشد الجهات الفاعلة المحلّية الروسية المؤثرة. وأيَّدتْ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على وجه الخصوص، الحملة السورية باعتبارها معركة مقدَّسة لحماية الأقلّيات المسيحية في الشرق الأوسط.

جادل رونالد دانروثر من بين العلماء الغربيين، على غرار ما قاله إيساييف وشيشكينا. حتى قبل أن تبدأ روسيا حملة القصف في سوريا، وقال إن الوضع السياسي المتوتر في روسيا كان حاسماً في فهم سبب اعتقاد بوتين أن الموقف الحازم في الأزمة السورية ضروري لتعزيز دعمه الداخلي.

ومن ثم، حسب قوله، فإن “العوامل المحلّية والفكرية لها قوة تفسيرية “أقوى” من العوامل الجيوسياسية. يُعتبَر التدخّل الروسي في سوريا على وجه الخصوص “دعم بشكل مباشر لجهود بوتين لتقوية قاعدة دعمه المحلّية”

تسلّط حِجج دانروثر الضوء أيضاً على مقاربة ثالثة لفهم أسباب سياسات روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي يتبنّاها بجانب التركيز على الدوافع المحلّية: دور العوامل الفكرية. وفقاً لدانروثر، هناك “فكرة روسية” يروِّج لها بوتين بشكلٍ خاص وتشكّل السياسة الروسية. إنه يدور حول مفاهيم الاستقرار الاستبدادي والتدخّل المناهِض للغرب ومكافحة الإرهاب وشكل من أشكال التقاليد المتسامحة مع الأديان والمجتمعات المختلفة (على عكس ما يُنظر إليه على أنه “الإفراط في العلمانية” الغربية المشروطة وتعزيز الديمقراطية). إن هذه المفاهيم، كما أوضح مارك كاتز، جذّابة للعديد من القادة السياسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحتى لأجزاء من المجتمع. علاوة على ذلك، فإن هذا الموقف الفكري يجعل روسيا أكثر ميلاً من الغرب للتعامل مع الدول والحركات الإسلامية المؤثرة مثل إيران وحزب الله وحماس.

يشير علماء آخرون إلى بعض عناصر هذا الموقف الفكري. يتحدّث بارمين عن تعزيز روسيا للاستقرار الاستبدادي الذي يمكن أن يحدّ من الفوضى المجتمعية والإرهاب. وتردِّد إيرينا زفياغلسكايا صدى دانروثر، قائلة، إن روسيا والدول العربية تظهر أوجه تشابُه مرتبطة بالهوية تنبع من موقعها الفريد بين الشرق والغرب. يجادل فيليب كاسولا ومارك كاتز أيضاً بأن الهوية (جنباً إلى جنب مع القوّة) محرِّك رئيسي لسياسة روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع ذلك، سيكون من الضروري إجراء المزيد من التحليلات المتعمَّقة من أجل فهم جوانب الهوية الروسية (على سبيل المثال، القوّة العظمى، أو الإدراك الذاتي لكونك وسيطاً بين الثقافات الشرقية والغربية) التي تلعب دوراً أكثر أهمية وكيف أنها بالضبط موضوع في صياغة السياسات.

السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الاقتصاد والأمن والدبلوماسية

في حين أن للعلماء وجهات نظر مختلفة حول الدوافع الأكثر أهمية بالنسبة لمحور روسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فمن الأسهل تحديد المصالح والسياسات الملموسة التي تشكّل المحور. بادئ ذي بدء، تأثرت صياغة المصالح والسياسات الروسية بالقدرة الصرفة على فهم القيادة للربيع العربي والتدخّل الغربي في المنطقة. مثّل الربيع العربي من وجهة نظر القادة الروس، عودة إلى القيم التقليدية لمجتمعات الشرق الأوسط، وبالتالي شجّع الأسلمة بدلاً من التحوُّل الديمقراطي. بدا القادة الروس حريصين على احتواء هذه العملية والتدخّل الغربي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي كان يُنظر إليه على أنه محفِّز للأسلمة. انتقد الرئيس فلاديمير بوتين بشدّة الحملة الجوية لحلف شمال الأطلسي في ليبيا في عام 2011 وقرّر أن روسيا ستمنع تكرار سيناريو مماثل في أماكن أخرى، وعلى الأخصّ في سوريا. أصبحت القيادة الروسية مقتنعة بأن “طريقة حل الأزمة السورية ستحدِّد إلى حدٍ كبير نموذج استجابة المجتمع الدولي للنزاع الداخلي في المستقبل”.

كما أن المشاركة الروسية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستجيب أيضاً لمخاوف أكثر إلحاحاً، لا سيّما الحاجة إلى تنويع العلاقات بعيداً عن الغرب وبالتالي تعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الغربية. يمكن أن يؤدّي التعاون مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى استقرار أو ارتفاع أسعار الطاقة العالمي، وهو أمر بالغ الأهمية للأداء الاقتصادي لروسيا. تطوَّرت سياسة روسيا تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تماشياً مع هذه المصالح المتعدّدة، عبر عدّة نواقل، مع التركيز على الأمن والاقتصاد والدبلوماسية.

وتدور السياسة الأمنية لروسيا حول وجودها العسكري في سوريا الذي يضم قاعدة حميميم الجويّة وقاعدة طرطوس البحرية. أعطى نشر نظام الصواريخ S-400 للجيش الروسي قدرات كبيرة على منع الوصول إلى المنطقة ومنع الوصول إلى منطقة أوسع. علاوة على ذلك، أدّت الحملة الجوية في سوريا إلى تعاون روسيا بشكل وثيق مع إيران والعراق، وتمّ إنشاء مركز تنسيق في بغداد لهذا الغرض. وعلى الرغم من القراءات المختلفة للأزمة، فقد تم التنسيق أيضاً مع القوات الأمريكية (منذ عام 2017 على وجه الخصوص) ومع القوات التركية. عزّزت موسكو التعاون العسكري مع مصر خارج السياق السوري، من خلال التدريبات البحريّة والجويّة المشتركة ومكافحة الإرهاب.

كما أن الوجود العسكري الروسي المتزايد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مدفوع أيضاً بالأهداف الاقتصادية، ولا سيّما تعزيز صادراتها من الأسلحة. أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في 2015-2017، ثاني أكبر سوق لصادرات الأسلحة الروسية بعد منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقّعت موسكو بالإضافة إلى صفقات الأسلحة طويلة الأمد مع الجزائر (ثالث أكبر مستورد للأسلحة الروسية في جميع أنحاء العالم)، عقود توريد مربِحة مع مصر والعراق، وباعت نظام الدفاع الجوي S 300 إلى إيران، ويمكن أن تبدأ قريباً في تصدير أحدث المعدات للمشترين الجدد، تركيا والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص.

ربّما كانت دبلوماسية الطاقة الروسية من منظور اقتصادي، هي الجانب الأكثر نجاحاً في سياستها الإقليمية. توصّلت موسكو في كانون الأول/ديسمبر 2016، إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية ودول أخرى في أوبك للحد من إنتاج النفط (المعروفة باسم صفقة “أوبك بلس OPEC Plus”). أدّى ذلك إلى ارتفاع سعر النفط (من حوالي 30 دولاراً إلى أكثر من 70 دولاراً للبرميل) وسمحَ باستقرار الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد بشكلٍ كبير على صادرات النفط.

علاوة على ذلك، بدأت دول الخليج الغنية في القيام باستثمارات كبيرة في الاقتصاد الروسي، وهو ما كان هدفاً رئيسياً للسياسة الروسية بعد العقوبات المالية الغربية. استحوذ جهاز قطر للاستثمار (جنباً إلى جنب مع شركة جلينكور لتجارة السلع) في أواخر عام 2016، في وقت صعب للاقتصاد الروسي، على حصة تبلغ 19,5٪ في أكبر شركة نفط روسية “روسنفت Rosneft” مقابل 12 مليار دولار. وفي الآونة الأخيرة، أعلن مسؤولون حكوميون سعوديون عن هدفهم الاستحواذ على حصة 30٪ في ثاني مشروع للغاز الطبيعي المُسَال لروسيا في القطب الشمالي، بقيمة 25,5 مليار دولار.

تتفاقم الصفقات في قطاع الوقود الأحفوري من خلال دبلوماسية الطاقة النووية النشطة. بدأت المشاركة الإقليمية الروسية في القطاع النووي ببناء محطة بوشهر في إيران. وفي عام 2010، حصلت شركة روساتوم الحكومية الروسية على عقد لبناء محطّة للطاقة النووية في تركيا. في عام 2014 فازت بمناقصة لبناء مصنع آخر في الأردن. أخيراً، في عام 2017، وقعت شركة روساتوم صفقة لبناء أربعة مفاعلات في مصر وتُجري حالياً محادثات مع الحكومة السعودية بشأن مشروعات مستقبلية. شجّع تأثير روسيا الواثق في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعض شركاتها الكبرى على العمل في مناطق كانت الجهات الفاعلة الأخرى متردّدة في المغامرة، كما يتّضح من صفقات روسنفت في منطقة الحكم الذاتي العراقية في كردستان.

يعكس اتساع نطاق الشركاء الاقتصاديين الإقليميين لروسيا طبيعة دبلوماسيتها المستعدّة للتعامل مع جميع الجهات الفاعلة المحلية تقريباً. على الرغم من أن التدخُّل الروسي في سوريا أفاد عمليا ما يُنظر إليه على أنه “التحالف الشيعي” (الأسد – إيران – حزب الله)، إلا أنّ روسيا تجنبت الدخول في تحالفات كاملة مع أي جهة إقليمية. قدّمت روسيا في سوريا نفسها على أنها المفاوض الرئيسي في صيغة تشمل دولاً مختلفة مثل تركيا وإيران. وقد اتّبعت نهجاً مشابهاً لاحقاً في ليبيا، حيث عزَّزت أولاً اتصالاتها مع الفصيل الذي يقوده خليفة حفتر، ثم دعت جميع الجهات الفاعلة الرئيسية لإجراء محادثات في روسيا. تتمتّع روسيا بعلاقات عمل جيدة مع أطراف متعارضة، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية من جهة وإيران وقطر من جهة أخرى. سمحَ هذا الموقف للكرملين بتصوير نفسه كمحاور موثوق به وحتى كوسيط محتمَل في السياسة الإقليمية الأوسع. هذا مهم بشكل خاص في الوقت الذي اتخذت فيه الولايات المتحدة خطوات مثيرة للجدل (مثل نقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس، أو الوقوف علانية مع المملكة العربية السعودية في نزاعها مع قطر) الأمر الذي شوَّه صورتها كوسيط محايد.

لذلك، عزَّزت روسيا بشكل حاسم مكانتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في السنوات الخمس إلى الست الماضية. يبدو أن العديد من القادة الإقليميين يُقدِّرون نهج موسكو، الذي يجمع بين دعم الاستقرار السياسي والمشارَكة الاقتصادية دون أي شروط تتعلق بحقوق الإنسان. ومع ذلك، توجد بعض القيود على قوّة موسكو الإقليمية. أولاً، الجيش الروسي، وخاصّة موارده الاقتصادية محدودة. وبالتالي، على سبيل المثال، تحتاج روسيا إلى دعم مالي من الاتحاد الأوروبي أو دول الخليج لعملية إعادة الإعمار في سوريا. علاوة على ذلك، لا تزال القوّة الناعمة الروسية في المنطقة ضعيفة، على الرغم من إنشاء قناة عربية لـ RT، وهي قناة تلفزيونية روسية ترعاها الدولة.

ازدهرت المكانة الدبلوماسية الروسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى حدٍ ما، بسبب افتقار الغرب إلى الاتساق في العلاقات مع الجهات الفاعلة الإقليمية. أظهر النهج الأمريكي تجاه مصر ما بعد الربيع العربي، وخاصّة تبديل دونالد ترامب لموقف الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي الإيراني، أن موقف واشنطن بشأن القضايا الإقليمية قد يتغيَّر بشكلٍ مفاجئ، وهو ما شجَّع الجهات الفاعلة المحلية على تنويع شركائها في السياسة الخارجية. ومع ذلك، فمن غير المؤكَّد ما إذا كانت روسيا ستكون قادرة على الحفاظ على نفوذها الحالي إذا عادت واشنطن إلى سياسات أكثر اتساقاً. ثمّة سؤال آخر يتعلّق بمدة مشاركة موسكو الإقليمية، وهو إنجاز حديث نسبياً. ومع ذلك، لا توجد في الوقت الحالي، تغييرات جوهرية متوَقعة، وسيتعيَّن على الغرب (بالإضافة إلى جميع الجهات الفاعلة الأخرى المشارِكة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) أن يأخذ في الاعتبار النفوذ الإقليمي المتنامي لروسيا.

التداعيات على الاتحاد الأوروبي والغرب

تُعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالنسبة للغرب والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، منطقة ذات أهمية سياسية واقتصادية كبيرة. هذا صحيح بشكلٍ خاص لأن التطوُّرات الإقليمية منذ 2010 كان لها تداعيات مباشرة على الاتحاد الأوروبي، مثل أزمة اللاجئين أو انتشار الهجمات الإرهابية. أثرت المشاركة الروسية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الغرب بعدّة طُرق.

أظهر موقف موسكو من الأزمة السورية أنه سيكون من الصعب للغاية بالنسبة للغرب أن يولّد الإجماع اللازم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لدعم ما يسمّى بالتدخُّلات الإنسانية، مثل تلك التي سمحت بإنشاء منطقة حظر طيران في ليبيا عام 2011.

علاوة على ذلك، تبدو روسيا الآن لبعض الأنظمة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كمزوِّد أمِن بديل للغرب. ونظراً لأن روسيا قد دعمت بشكل لا لبس فيه استقرار النظام في المنطقة وقدّمت الدعم العسكري والسياسي للجهات الفاعلة المحلية دون شروط تتعلّق بحقوق الإنسان، فقد تبدو للقادة الإقليميين كشريك أكثر مرونة من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. يمكن اعتبار روسيا في هذا الصدد، منافساً للغرب من حيث النفوذ في المنطقة. كما يقدّم التقارب الروسي المصري بعد عام 2013 ، في الوقت الذي أصبحت فيه علاقات القاهرة مع الغرب أكثر إثارة للجدل، مثالاً مناسباً. سعت روسيا في الآونة الأخيرة إلى تكثيف علاقاتها مع المملكة العربية السعودية حيث تعرَّضت الرياض لانتقادات غربية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.

الأهم من ذلك، أن روسيا أصبحت الفاعل الرئيسي في سوريا. إن سوريا إلى جانب كونها حليفة لروسيا، هي أيضاً بلد المنشأ لمئات الآلاف من اللاجئين الموجودين حالياً في الاتحاد الأوروبي وفي البلدان المجاورة الأخرى. وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي لديه مصلحة قوية في إعادة التهدئة وإعادة الإعمار في سوريا. في هذا الصدد، ظهرت فرص للتعاون مع روسيا، حيث تسعى موسكو للحصول على دعم مالي للمهمّة الشاقة المتمثلة في إعادة بناء بلد دمّرته سنوات من الحرب الأهلية. بالإضافة إلى  ذلك، ونظراً لأن سوريا التي مزّقتها الحرب أصبحت أرضاً خصبة للإرهابيين، فإن استقرارها سيسَاهم أيضاً في مواجهة التهديد التي تشكّله على أوروبا والغرب. تشترك روسيا في مصلحة مماثلة مع الاتحاد الأوروبي في منع انتشار الإرهاب عبر الحدود الوطنية، وبالتالي يمكن أن يتم التعاون في هذا المجال السياسي أيضاً.

يوجد أيضاً في ضوء الأهمية المتزايدة لروسيا في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مجال للتنسيق والتعاون مع الغرب بهدف حلّ النزاعات الإقليمية الأخرى، مثل الحرب الأهلية الليبية. وصفت روسيا نفسها كمحاوِر مهم لأطراف النزاع الرئيسية وقد تساعد الجهود الغربية للتفاوض على صفقة إذا تمَّ أخذْ مصالحها الاقتصادية (على سبيل المثال، في قطاع الطاقة) في الاعتبار في سيناريوهات ما بعد الصراع.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يسعى للحصول على دعم روسيا في دعم خطّة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بشأن برنامج إيران النووي بعد قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاقية وإعادة فرض العقوبات على طهران. وفي حين أن التعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة سيثير انتقادات من واشنطن بشكل شبه مؤكّد، إلا أنه سيحافظ على أحد أهم مجالات الحوار وأكثرها إنتاجية في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في السنوات الأخيرة. والأهم من ذلك، أنه سيوفر حافزاً لطهران للانضمام إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، وبالتالي المساهمة في جهود عدم الانتشار النووي.

إن الوجود الاقتصادي الروسي المتنامي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا له تداعيات متنوّعة على الغرب وعلى الأمن الأوروبي الأطلسي. لا ينبغي اعتبار العلاقات الاقتصادية مع المنطقة لعبة محصّلتها صفر، على الرغم من أن الشركات الروسية قد تتنافس مع الشركات الغربية في بعض المجالات (مثل توريد الأسلحة أو التكنولوجيا النووية). ربما تكون الجهود الروسية لتنسيق التخفيضات في إنتاج النفط مع الجهات الفاعلة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولا سيّما المملكة العربية السعودية، أهم تطوُّر من حيث الأهمية الاقتصادية للغرب. تسبَّبت صفقة “أوبك بلس” في ارتفاع أسعار النفط، مع تداعيات اقتصادية على كبار المستوردين مثل الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، ظلَّ سعر النفط أقل بكثير من مستويات ما قبل عام 2014.

استنتاج

كان محور روسيا في الشرق الأوسط ناجحاً بشكلٍ ملحوظ في التأثير على نتيجة الحرب الأهلية السورية. والأهم من ذلك، أنها سمح لموسكو بتقوية علاقاتها مع العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية وتطوير شراكات وظيفية لمصالحها الاقتصادية والسياسية الأساسية. وفّرت صفقة “أوبك بلس” والاستثمار القطري الكبير في روسنفت ارتياحاً مهماً للاقتصاد الروسي في وقت كان يتعرَّض لضغوط بسبب انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية والمالية الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فتح هذا التدخّل فرص اقتصادية جديدة للأسلحة الروسية والصناعة النووية في أسواق الشرق الأوسط.

ساعد تورُّط روسيا في سياسة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من منظور سياسي، البلاد على التحايل على المحاولات الغربية لعزلها دبلوماسياً بعد ضم شبه جزيرة القرم. تمكّنت موسكو من التنقل في خطوط الأعطال السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتصوِّر نفسها كصوت قيّم لجميع الجهات الفاعلة الإقليمية تقريباً. على سبيل المثال، في حين دعمت قوات الجو/فضائية الروسية القوات الإيرانية والقوات الموالية للأسد في سوريا، تمكّنت موسكو في وقتٍ واحد من دعم أو تحسين علاقتها مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، المعارضين الإقليميين الرئيسيين لإيران. وبالمثل، طوَّرت روسيا بعد أزمة ثنائية في عام 2015-2016، علاقات اقتصادية وسياسية أقوى مع تركيا، على الرغم من الدعم التركي للمتشدّدين المناهضين للأسد في سوريا.

من ناحية أخرى، لم يساعد المحور في الشرق الأوسط روسيا، على تحسين علاقاتها مع الغرب.

أدَّت دعوة بوتين لتحالف مكافحة الإرهاب في أيلول/سبتمبر 2015 إلى نتائج ملموسة، حيث دعمت روسيا والغرب جوانب مختلفة على أرض الواقع في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك لحظات من التوترات المتزايدة في نيسان/أبريل 2017 ونيسان/أبريل 2018، حيث نفّذتْ الولايات المتحدة وبعض حلفائها ضربات استهدفت فيها المنشآت العسكرية السورية ردّاً على الاتهامات المتعلّقة باستخدام الأسلحة الكيميائية من قبل الجيش السوري. سعت روسيا مؤخّراً للتعاون الغربي والدعم المالي لإعادة إعمار سوريا، لكن الغرب أصرَّ على إيجاد حلّ سياسي للنزاع كشرط مسبق. لذلك، فإن وجهات النظر المختلفة فيما يتعلّق بمستقبل سوريا، وكذلك التحالفات المختلفة مع الجهات الفاعلة المحلية، غذّت عدم الثقة وتدهور العلاقات الأمنية الغربية لروسيا.

ومع ذلك، توجد بعض الفرص للتعاون المحتمَل بين الغرب وروسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

على الرغم من انتقاداتهم للإجراءات الروسية في سوريا، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة له مصلحة بإعادة إعمار البلاد، مما سيساعد في تخفيف الأزمة الإنسانية واللاجئين الناجمة عن سنوات من الحرب الأهلية والتدخل العسكري الخارجي. علاوة على ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي الاستفادة من التعاون مع روسيا لدعم JCPOA مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية. وبالمثل، سيكون الحوار مع موسكو ضرورياً لمعالجة الأزمات الإقليمية الأخرى حيث تمارس روسيا نفوذاً أو تلعب دوراً دبلوماسياً، من ليبيا إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. تتزامن العديد من المصالح الأمنية الروسية والغربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل منع انتشار الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي والانتشار النووي. إذا كان بإمكان روسيا والغرب الاتفاق على أساليب وسياسات مواجَهة هذه التحدّيات المشتركة، فإن التعاون الحقيقي يمكن أن يحدُث ويحتمِل أن يحقق بعض الثقة في العلاقة الأمنية الأوسع نِطاقاً.

من العدد ٥٢ من جريدة المسار