الدكتور جون نسطة
اخذت هذه الحادثة صدى كبير في اوساط كل الشيوعيين العرب ومنهم طبعا السوريين.
ولم يمضي سوى ايام حتى جرى الاجتماع معي، من قبل ممثلي قيادة المنظمة للتعبير عن اطراءهم وتقديرهم لموقفي الصلب هذا. وانتهى موضوع العزلة وانفكت نهائيا.
اليوم وانا اكتب تمر الذكرى السادسة والسبعين لانتصار الجيش الأحمر على النازية الهتلرية عدوة الشعوب. انه يوم عظيم في التاريخ الحديث.
وكان ضباط الجيش الاحمر في لا يبزغ يحتفلون بهذا اليوم احتفالا كبيرا، ويوجهون الدعوة لنا لمشاركتهم أيضا.
كنت أعرف من خلال تجارب سابقة طبيعة الضابط الروسي وقدرته الفائقة على تحمل شراب الفوتكى الروسية وكيف يتطلب منك،ان تشرب معه نفس الكمية التي يشربها هو،100ملي ليتر ،وبدفعة واحدة واذا لم تفعل يزعل ويغضب ويحتقر. لذا كنت ابتعد عن الجلوس على موائدهم،واقعد،مع بعض رفاقي الشيوعيون السوريون طبعا على مائدة بعيدة عنهم بقصد السلامة. أما الرفيق حسان زين العابدين من حمص، كان يقول انا أحب الرفاق السوفييت وسأقف معهم على نفس الطاولة. ولا تمضي نصف ساعة وإلا حسان يغيب عن الأنظار…اين حسان؟ نبحث عنه ونجده تحت الطاولة شبه غائب عن الوعي.
كان على طلاب الطب ان يعملوا مدة شهرين في إحدى المشافي بصفة متدرب. فكان اختياري مشفى لينين في برلين. وهو من المشافي الكبيرة والمهمة في العاصمة وهو قريب من سكن الدكتور نايف بلوز أيضآ.كنت اسكن عنده وأحيانا كنت استأجر غرفة بنفس البيت من صاحبته العجوز ايما، وهذا هو اسمها وهي ارملة برلينية رقيقة الطباع، منفتحة، مزوحة، تحب المال بنفس الوقت. كنت اعمل في المشفى من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر ارتاح قليلا ثم نذهب نايف بلوز وانا الى أحد المطاعم، نحتسي بيرة مع الطعام ثم نتحول إلى شرب النبيذ حتى منتصف الليل وخلال ذلك نستعرض احوال الدنيا وتياراتها الفكرية والسياسية. كان نايف يؤكد دوما على اهمية ومحورية علم السبرنيتكا، اي علوم الكومبيوتر، في مستقبل مجتمعات الصناعة والعلوم عامة. كان هذا في منتصف الستينات من القرن الماضي ولكن كان همنا الاكبر ينصب على سوريا ومستقبلها وعلى حزبها الشيوعي المنوط به ان يلعب دورا هاما في رسم ملامح تطورها ونهضتها، وكيف هو بتركيبته الحالية سيكون عاجزاً عن القيام بدوره هذا، لاسباب عديدة وعلى رأسها غياب الحرية وعدم السماح لاحد في صفوفه، من طرح افكار جديده، واثارة موضوعات للنقاش. والفكر والتحديث لا يعيش بغياب الحرية وفي ظل قيادة الفرد الواحد الملهم المعصوم.
كنا، سوية، نستغرب عدم عقد مؤتمر للحزب رغم مرور أكثر من عقدين ونصف، على اخر مؤتمر في اواخر العام 1943وبداية العام 1944.
وكيف لحزب ان يعمل بدون برنامج سياسي عام.
بعد عودة خالد بكداش من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة نيكتا خروتشوف الذي عرى ميكانيكية عبادة الفرد المتمثلة بالهرم ستالين وعن ضرورة العودة إلى تعاليم اللينينية بالديمقراطية المركزية التي تسمح بتعدد الآراء وطرح للموضوعات الجديدة، بكل حرية واريحية، الى حين اتخاذ القرار بالتصويت وعندها يلتزم الجميع بهذا القرار.
عند عودته عقد اجتماعا اللجنة المركزية وقدم عرضا لما جرى في المؤتمر حول ضرورة التخلص من عبادة الفرد وضرورة توزيع المهام على كل اعضاء القيادة الخ وصدر بيان يلقي اللوم على اعضاء قيادة الحزب لأنهم يلقون كل المهام على اكتاف الأمين العام، دون ان يتحملوا اية مسوؤلية.شيء لا يعقل ولا يصدق.
كنا نايف وانا لا نعرف بان أفكارنا هذه كانت تجول بنفس الوقت في عقول الكثير من الرفاق في المنظمات الحزبية المختلفة في داخل الوطن.
جاء في العام 1968 إلى برلين قادما من دمشق الرفيق يوسف فيصل وطلب عقد اجتماع لكل رفاق المنظمة الحزبية في كل ألمانيا. وتحدث فيه عن الوضع السياسي العام بعد النكسة وان سوريا تحكم من قبل عدس،لم نكن قد سمعنا بمصطلح عدس. فشرحه بالحكم العلوي الدرزي الإسماعيلي. ثم قال انا لم اقراء كتب ماركس وانجلز ولينين كلها ومع ذلك طرحت شعار تشكيل الجبهة الوطنية على الساحة السياسية. استغربت كيف لقيادي في الحزب يتباهى بجهله وعدم دراسته لكتب الماركسية. وكيف ان شعار الجبهة الوطنية كان ديمتروف قد طرحه في العام 1936 أمام الأحزاب الشيوعية في مؤتمر الاممية الشيوعية، وبضرورة العمل مع كل الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية والليبرالية،
لتشكيل جبهة وطنية عريضة في كل بلد على حدة للوقوف امام زحف النازية الفكري والسياسي.
بعد انتهاء الاجتماع الرسمي ذهبنا إلى قاعة معدة للطعام والاستراحة، وهناك تقرب منا نايف وانا وسأل نايف الذي كان يعرفه جيدا من قبل ماذا تدرس انت في برلين؟ اجابه نايف بسخرية والله انا ادرس الجغرافية.
كان نايف مستاء جدا من مما جرى وقال لي بئس حزبا لاتعرف قيادته بان كادرا يحضر اطروحة في الفلسفة، وباشراف اهم استاذ فلسفة في ألمانيا مهتم بالفلسفة العربية الاسلامية.كيف لحزب ان يكون قياديا، وهو لا يهتم بأمور مفكريه واصحاب الرأي، واساتذة الجامعات في المستقبل.