رامز مكرم باكير
لمحة عامة:
آمن ماو تسي تونغ بضرورة النهوض بالصين، وإرساء نظام ذو بنية صناعية ضخمة تنافس الدول الصناعية الكبرى بأي ثمن، والنهوض بالصين وجعلها قوة إقليمية ودولية. وفي عام ١٩١٧، وبعد نجاح تجربة ثورة أكتوبر بقيادة فلاديمير لينين والحزب البلشفي، الانتصار الذي أدى إلى تشكّل الاتحاد السوفييتي عام ١٩٢٢، تلك الانتصار الذي سيغير النظام العالمي وتصوراتنا عما هو ممكن تحقيقه تحت حكم قيادة شيوعية ولو لفترة قصيرة. بعدها بسنوات قليلة أصبح ماو تسي تونغ واحد من المُنضمين الاوائل للحزب الشيوعي الصيني الذي تأسس عام ١٩٢١، واستقال من حزبه الحزب الحاكم وقتها الحزب الوطني (الكومينتانغ)، بعد أن شاهد أفكار فلاديمير لينين وهي تؤتي ثمارها ليس ببعيدٍ جداً عن الصين، فزاد ايمان ماو بالماركسية، وأن الوقت قد حان لإعادة بعض السلطة لشعب الصين، وخاصة المزارعين الذين كانوا يشكلون الشريحة الأكبر من سكان البلاد، وفيما بعد أصبحوا القاعدة الجماهيرية للحزب الشيوعي الصيني.
لم يصبح ماو ذلك القائد، ويخلد لنفس مكان بين انصاف الالهة او الطغاة العظام مثل،” المعلم الأول” ستالين، وطغاة على شاكلة (كيِم إل سونغ) فقط لأنه استطاع تأسيس الجيش الأحمر، وزحفه العظيم على أعدائه وسحقهم بالكامل ودون هوادة. فقد كان ماو أمين مكتبة قبل أن يصبح ثورياً، وكان وصاحب فكر ومثقفاً من العيار الثقيل، مما مكنه من خطف وعي الجماهير وعقولهم قبل أن يدخل الرعب في قلوبهم.
كان لماو إسهامات فكرية نظرية كبيرة، حيث بنى فيها على أفكار اسلافه من ماركس وأنجلز ولينين. وقدم تصوراته عن كيفية التنظيم الحزبي وخاصة على المستوى الشعبي، ورؤيته عن التقسيم الطبقي في الصين، وطور من أساليب مواجهة الامبريالية وأذرعها. ولعل من أهم هذه الإسهامات الفكرية وأبرزها نظرية مآو المادية الديالكتيكية، والتي تشكل الحجر الأساس للفكر الثوري الماوي.
مادية ماو:
يبدأ ماو بالنظر إلى أن التاريخ، تاريخ الفلسفة تحديداً، على أنه ينقسم إلى معسكرين عريضين: المعسكر المثالي والمعسكر المادي. ويصف المثالية باعتبارها الأشياء المجردة، والتي تشمل (الوعي والمفاهيم وكل ما هو موضوعي)، وتكون الأرواح في هذا المعسكر المصدر لكل ما هو موجود. وبالتالي يكون فيهِ عالم الاشياء أو الموجودات (الطبيعة، المجتمع، الثروة، الموارد) اشياء ثانوية، وبكل بساطة. بينما في المعسكر المادي، تعترف المادية بالوجود المستقل والمنفصل عن الروح، وتعتبر الروح أو عالم المُثل ثانوياً.
وتركز النزعة المثالية في الدرجة الأولى على الأشياء التي لا وجود لها في العالم المادي ككل (مثل وجود الالهة والأرواح) أو هل هناك شيء مثل “عالم الأرواح” أو “الروح المطلقة” كالتي في مثاليات هيغل على سبيل المثال؟ وهل الوعي أو الإدراك هو الذي يحدد ماهية العالم؟ فالنزعة المثالية تنظر إلى العالم من منظور ماذا يمكننا أن نعرف عن هذا العالم؟ فنحن ندرك وجودنا فيه، ونتأثر به ونؤثر فيه ونتحرك معه. فهل هذا العالم هو الذي خلقنا وكوننا، أم نحن الذين نكونه ونشكله في وعينا؟ ام ان هناك خالق هو المسبب الأول لكل ما هو موجود؟
يعزو ماو هذا الانقسام بين النزعتين المادية والمثالية إلى الانقسام الطبقي في المجتمعات. فالطبقة الرفيعة أو العليا لديها قدر معين من الامتيازات، والتي تمكنها من تفادي مشاق الحياة اليومية، مما يتيح لهم الراحة والكثير من الوقت للتفكير والتأمل في أمورٍ ليست بالضرورة ذات علاقة بالعالم المادي المُعاش. ويتجسد ذلك في صورة “الفيلسوف على الصوفاية”، مرتاحاً في هذه الجلسة الوقورة والجليلة، متأملا الوضع البشري والكون، ومفاهيم الحقيقة والعدالة وما إلى ذلك من المسائل الوجودية.
بينما تهتم الطبقات الدنيا بالمادية، لأن هذه هي حياتهم. يومٌ بعد يوم يقضون معظم أوقاتهم في المعامل او في المزارع يحرثون التربة، وعلى احتكاك مع الأرض والناس الآخرين، وبصراع دائم ومشترك للبقاء على قيد الحياة. لذلك ليس لديهم نفس الوقت والامتيازات للتأمل في مسائل الوجود والمثل والحقائق العليا. فوجودهم مشروط بالصراع للبقاء وتأمين حاجياتهم الاولية وليس بالسعي لمعرفة ماهية وجودهم. لذا فإن نوع المعرفة المتاحة للطبقة الدنيا من عمال وفلاحين، أو الطبقات المُستغلة، قد تنطوي على أشياء دنيوية نوعا ما، والتي تنبع من الحاجة الملحة والدائمة، ولجعل حياتهم ومعاناتهم أسهل قليلا (كتعلم كيفية تقليب التربة بمساعدة حيوان، أو صناعة العربات البدائية لتسهيل النقل) وهذا التطور لم يحدث من قبل الطبقات العليا، بل حدث نتيجة تراكم الخبرات والعمل الدؤوب للطبقة العاملة. ولم يأت من قبل هؤلاء المتنعمين الذين يقضون معظم حياتهم في التفكير والتأمل والانغماس الذاتي، والايمان ان بالفكر والمنطق وحدهما يمكن الوصول إلى المعرفة وحقيقة الأشياء. فتطور الانتاج مشروط بالحاجة الملحة وشروط البقاء، عندما تكون هناك مشاكل معينة تعترض سير العمل ويصبح من المهم التحايل عليها وحلها، من خلال التجارب والأخطاء trial and error. لتأتي لاحقاً البراهين الرياضية المجردة، وتتبنى انجازاتهم وتبني عليها.
ويرى المثالي أن تقسيم العمل والسيطرة على الانتاج ضرورة ملحة، لأن ذلك يعطيه قدراً معيناً من الامتياز. (باحتكاره الحقائق والمفاهيم والأفكار) التي تنبثق من قاعدته المعرفية، وادعائه هذه الإنجازات التاريخية للطبقة العاملة، بينما يجلس هو على الصوفاية المنفصلة عن العالم الحقيقي، يفكر ويخطط في كيفية الحفاظ على هذه العلاقات الاجتماعية حتى يتمكن من الاستمرار في الازدهار في هذه الظروف المادية، وخاصةً عن طريق ترسيخ الطبقية في المجتمع. ويبررون ذلك بالقول إن الحقائق التي يأتون بها هي حقائق كونية وسابقة للوجود، وتصلح لكل مكان وزمان ولأيٍّ كان، وهي من بديهيّات الأشياء.
يرى ماو في هذه الأنماط من التفكير قمة الرجعية والتخلف، لأن هذه الحقائق لا يمكن الوصول إليها إلا شريحة ضئيلة جدا من المجتمع. فكيف يمكننا أن نعتبرها حقائق كونية. في حين أن المادية هي الشيء الذي ينخرط فيه المجتمع بأسره، وهي أكثر عمومية وأكثر كونية مقارنة بالمثالية. ويرى ايضاً ان المادية الجدلية أو الديالكتيكية هي نوع من العلاج للمثالية. لأنها لا تسمح لهذه العوامل الاجتماعية والمادية أن تعزز أو ترسخ هذا النوع من التفوق الطبقي والعلاقات الاجتماعية. وخاصة من خلال رفض القيم المثالية والتفكير الاسطوري. يُرجِع ماو احتمالية ظهور الفكر المثالي بأن الناس لم يكن لديهم الأدوات المعرفة او التقنية لفهم العالم الخارجي. لذا كان عليهم أن يبحثوا في عالم الأرواح والالهة والماورائيات. لإعطائهم تفسير عما هو بعيد عن متناولهم وماهية وجودهم. بينما الآن، ومع تطور الإنتاج وعلاقات الإنتاج، طور الناس الوسائل اللازمة لفهم العالم.
وكما يقول ماو ” أصبح لديهم العزم على فك فتيل الدين والخرافات والانفتاح على العالم المادي”.
فالمادية الجدلية أو الديالكتيكية تحدد لنا ماهية المعرفة، وأن الظروف الاجتماعية الحقيقية والمادية هي العواميد الأساسية للمعرفة الانسانية. وهكذا استطاع ماو أن يتوصل إلى حقيقة أن الجدلية المادية هي النظرية العلمية الوحيدة إبستيمياً، لأن العلم يهتم إلى حد بعيد بالأحوال المادية للكون، من خلال دراسة المسببات والنتائج، ومن خلال الرصد والمراقبة وطرح الفرضيات واختبارها ورؤية مدى صحتها. بهذه الطريقة فقط يصبح الديالكتيك المادي هو علم الدراسة المادية لنظرية المعرفة.
يضع ماو بين يدينا خطوتين لتطبيق المادية الماوية:
أولاً: أن نعترف بأن العالم موجود بشكل مستقل عن وعينا، وله وجوده الخاص المنفصل عن وجودنا.
ثانيًا: أن نعترف بأن كل شيء في الكون في حالة حركة وتغير وتطور دائم. وهذا هو الجانب الديالكتيكي من فكر ماو. فالجدلية تعني الصراع بين فكرة ما (أطروحة/thesis) وفكرة معارضة (النقيض/antithesis)، ويكونان في حالة تنافر أو يخضعان لقوة تنافر عكسي، ولكن في حال حصل اتصال أو التحام بين الاثنين، فإن هذا التصادم يؤدي إلى تشكيل توليفة جديدة أو مركب جديد (مركب/synthesis)، هذا المكب يعود بدوره ليأخذ شكل أو دور الأطروحة (أطروحة/thesis)، ليتشكل له نقيض جديد يعارضه ويحاول نفيه بعد ذلك، وهكذا تتكرر الدورة الديالكتيكية. وهذا ينطبق على حركة وسيرورة المجتمع والتاريخ، فهما في حالة تطور وتغير دائم. وما أن تطرأ تطورات كبيرة، تظهر صدامات وصراعات جديدة، وهكذا.
هنا يعكس ماو المثالية، التي تحاول ترسيخ الدوغمائية وإضفاء الطابع الكوني على المفاهيم والأشياء. وتقوض التطور ورؤية العالم بشروطه الخاصة وماديته، لوليس من خلال “الروح المطلقة” أو كما يسميه ماو “روح العالم” هذا الشيء التجريدي الذي لا يمت للعالم بصلة.
فالماوية تهدف إلى رؤية تقدمية والتيلوجية (teleological) تتحرى وتتفكر في هذا العالم، وتقدم للبشرية، هذا المجتمع البشري الذي يجسد أعلى وأرفع أشكال المادة “المجتمع” (the highest form of the motion of intellectualised matter)، فالبشر هم أعلى أشكال حركة المادة الفكرية العظيمة بكلمات ماو تسي تونغ.