أنطونيو غرامشي
ترجمة: رامز مكرم باكير
كُتب النص بين عامي ١٩٣٠-١٩٣٤
ملاحظات عن هياكل الأحزاب السياسية في فترات الأزمة العضوية، المقال الأول:
في مرحلةٍ تاريخيةٍ معينة، تنفصل الطبقات الاجتماعية عن أحزابها التقليدية. وبعبارة أخرى، تصبح هذه الأحزاب التقليدية في شكلها التنظيمي، مع هؤلاء الذين يشكلونها ويمثلونها ويقودونها، غير معترف بها من قبل الطبقات او الشرائح الطبقية التي تعبير عنها.
فعندما تحدث مثل هذه الأزمات في التمثيل، يصبح الوضع حساسًا وخطيرًا، لأن المجال العام يصبح مفتوحاً على جميع الاحتمالات، ومنها العنف، وأنشطة القوى المجهولة “الخلايا النائمة”، المتمثلة في “رجال المصير الابطال” ذو الكاريزما والحضور المؤثر.
تتردد أصداء حالات الصراع هذه بين “الممثَّلين والممثِّلين” في كافة الأحزاب، وينتقل هذا الصدى الى (المنظمات الحزبية، المجال الانتخابي البرلماني، الصحافة) ومن ثم الى كافة تنظيمات وقطاعات الدولة، مما يؤدي الى تعزيز السلطة النسبية لبيروقراطية الدولة (سواء المدنية او العسكرية)، والتي عادةً ما تكون ذات تمويل ضخم، من الكنيسة او المؤسسة الدينية بشكلٍ خاص (كما هو الحال في إيطاليا وقتها)، ومن جميع الهيئات المستقلة نسبيًا عن تقلبات الرأي العام.
ولكن أولاً!
كيف تنشأ هذه الإشكالات؟
تختلف العملية من بلد الى آخر، على الرغم من أن الشكل هو نفسه. والمضمون هو أزمة هيمنة الطبقة الحاكمة. وتحدث ازمة هيمنة الطبقة الحاكمة إما لأن الطبقة الحاكمة فشلت في بعض المشاريع السياسية الكبرى والتي طُلبت منها، أو عندما تنتزع بالقوة والإكراه تمثيل الجماهير العريضة (كالوصول للحكم عن طريق انتصار عسكري، على سبيل المثال)، أو لأن الجماهير العريضة (خاصة من الفلاحين والمثقفين البرجوازيين الصغار) قد انتقلت فجأة من حالة من السلبية السياسية إلى نشاط معين، وبدأوا بطرح مطالب معينة، وإن لم تكن هذه المطالب مصاغة بشكل “عضوي”، والتي قد يؤدي تراكمها إلى ثورة.
يتم الحديث عن “أزمة سلطة” على إنها وعلى وجه التحديد أزمة هيمنة، أو بشكلٍ عام على انها ازمة الدولة.
تخلق الأزمة أوضاعًا خطيرة على المدى القصير، نظرًا لأن الطبقات المختلفة من السكان ليست جميعها قادرة على توجيه نفسها أو إعادة التنظيم بنفس الإيقاع. بينما الطبقة الحاكمة التقليدية، والتي دربت العديد من الكوادر، وليها خبرات أكبر في التنظيم، قادة وبسرعة أكبر مما حققته الطبقات التابعة، ان تستعيد السيطرة التي قد تنزلق من قبضتها. وربما يقدمون تضحيات، ويعرضون نفسهم لمستقبل غامض بوعود ديماغوجية. لكنهم يحتفظون بالسلطة ويعزونها في حاضرهم بل ويستخدموها لسحق خصومهم وتشتيت كوادرهم القيادية التي لا يمكن أن تكون كثيرة أو مدربة تدريباً عالياً وذات خبرات.
إن تنظيم العديد من الأحزاب المختلفة تحت رايةِ حزبٍ واحد، والذي قد يمثل بشكل أفضل مطالب الطبقة بأكملها، هو ظاهرة عضوية وطبيعية، حتى ولو كان إيقاعها سريعًا للغاية بالمقارنة مع فترات الهدوء والاستقرار.
فحدثٍ كهذا يمثل اندماج طبقة اجتماعية بأكملها تحت قيادة موحدة، والتي وحدها تكون قادرة على حل مشكلاتها ودرء أي خطر مميت قد يهدد وجودها.
وعند غياب الحل العضوي لمثل هذه الأزمات، يتم اللجوء الى حل انتاج شخصية قيادية ذات حضور وشخصية كارزماتية، مما يعني إيجاد توازن ثابت (قد تكون عوامله متباينة، ولكن العامل الحاسم للجوء لمثل هكذا حل هو عدم نضج القوى التقدمية)؛ هذا يعني أنه لا توجد جماعات، من المحافظون ولا التقدميون، لديها القوة الكافية للنصر، وحتى الجماعات المحافظة تحتاج إلى قائد.
إن هذا الترتيب في نشأة وتنظيم القوى السياسية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسائل المتعلقة بالحزب السياسي، وقدرة الحزب على تفادي الوقوع في حكم العادة والمضي إلى حالة التحنيط والانفصال عن واقعه الطبقي والسياق التاريخي للمرحلة. فالأحزاب تنشأ، وتشكل نفسها كمنظمات، من أجل التأثير على الوضع في اللحظات التي تعتبر حيوية تاريخياً لتمثيل فئاتها؛ وليس عندما تصبح أقل قدرة على التكيف مع المهام الجديدة والعهود الجديدة، ولا التطور في علاقات القوى الشاملة (ومكانتها النسبية من الطبقة التي تمثلها) في البلد المعني، أو في المجال الدولي.
عند تحليل تطور الأحزاب، من الضروري التمييز بين: مكونات هذه الاحزاب الاجتماعية، وعضويتهم الجماعية “بيروقراطيتهم وأركانهم العامة”.
إن البيروقراطية هي أخطر قوة محصورة ومحافظة. وإذا ما انتهى الأمر بتشكيل جسم، يقف من تلقاء نفسه ويشعر بأنه مستقل عن كتلة أعضائه، يكون قد انتهى هذا الحزب ويكون قد عفا عليه الزمن، وفي وقت الأزمات يتم تجريده من محتواه الاجتماعي ويترك كما لو كان معلقًا. في الجو. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك، أبرزها ما حدث لعدد من الأحزاب الألمانية نتيجة لتوسع النازية الهتلرية.
وتعتبر الأحزاب الفرنسية أمثلة جيدة على هذه الأحزاب ايضاً: فهي كلها احزاب محنطة وعفا عليها الزمن -تلك الأحزاب التي لا تزال تكرر نفس خطاباتها وطرقها القديمة؛ ويمكن أن تصبح أزماتهم أكثر كارثية من أزمة الأحزاب الألمانية.