واقع حركة التحرر العربية ومستقبلها

حبيب حداد

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بواكير يقظة حركة التحرر العربية التي تجلت بصورة رئيسة في مصر وبلاد الشام. وكان الهدف الرئيس لتلك اليقظة، في هذه المرحلة، تجديد الثقة بماضي الأمة والاستقلال عن السيطرة العثمانية، ومواصلة السير في طريق

التقدم الحضاري: الفكري والروحي والمادي، وبناء دول مدنية عصرية كما فعلت شعوب أوروبا التي أضحت نموذجا ومركزا في قيادة مسار التقدم العالمي. 

إن استعراضا موضوعيا للمراحل التي قطعتها حركة التحرر العربية، يمكن أن يقودنا إلى تحديد العوامل التي أسهمت في تمكينها من تحقيق بعض أهدافها من جهة، ومعرفة ما أعاق مسيرتها، وأجهض جهودها لاستكمال تحررها الشامل من جهة أخرى. كانت المرحلة الاولى في عملية التحرر والنهضة هي الكفاح من أجل استعادة الوعي وتعزيز الثقة بالذات واسترجاع دروس التاريخ القريب والبعيد لهذه الأمة. أي إن تلك المرحلة كانت مرحلة استعادة الشعور القومي كمحفز أساسي جماعي في مواجهة سياسات التتريك والهيمنة. لقد كانت حركة القومية العربية آنذاك هي التعبير الحي عن طموحات شعوب هذه الامة في مختلف أقطارها نحو الاستقلال والتقدم والوحدة. وكانت في الوقت نفسه حركة تنويرية شعبية تحررية كجزء من حركة التحرر العالمية من أجل الحرية وحق تقرير المصير. لذا كانت بعيدة عن أي نزوع شوفيني أو متعصب تجاه أي من مكوناتها الذاتية أو تجاه أي من شعوب العالم الاخرى.

وبعد الحرب العالمية الأولى، وإذ كان المنتظر ان تحرز اقطار المشرق العربي استقلالها، لكن ما حدث هو انتقال هذه الأقطار من عهد الاستعمار المباشر إلى عهد الانتداب. إذ قامت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بتو زيع السيطرة على هذه الاقطار بدعوى أن هذا الاستعمار الجديد يستهدف ترقيتها وتهيئتها كي تستطيع ان تحكم نفسها بنفسها، وتدير شؤونها كغيرها من الدول المستقلة. وفي هذه المرحلة كما هو معلوم تمثلت حركة القومية العربية، إضافة للوعي الشعبي العام بنشوء الأحزاب السياسية التي مع تعدد مرجعياتها العقائدية والإيديولوجية التقت على هدف عام ومشترك هو تحقيق الاستقلال وإنهاء الوجود الاستعماري المباشر. 

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أحرزت دول المشرق العربي استقلالها الوطني. وعلى صعيد حركة التحرر العربية، ومع تعدد تياراتها أصبح المحور الأساس لكفاحها استكمال مقومات الاستقلال ببناء دول عصرية تؤمِّن الحرية والمساواة والعدالة لجميع مواطنيها دون أي تمييز. هذه الدول التي كان ينتظر منها ان تفتح الآفاق نحو تكامل قدراتها ومصالحها المشتركة على طريق التكامل والوحدة، وكذا في مجال تعزيز الأمن القومي، والدفاع عن قضايا الأمة العادلة، وعلى رأسها القضية المركزية، وهي تحرير فلسطين، ومواجهة المخطط الصهيوني الإمبريالي الهادف إلى تكريس واقع التخلف والتجزئة والتبعية لمجتمعاتنا.

هذه هي المعركة الفعلية التي ما تزال تخوضها شعوبنا، إنها معركة التحرر المجتمعي، وبناء دول ديمقراطية حديثة. ومع أن بعض الدول العربية قطعت بعد نيل استقلالها خطوات مهمة في مجال توفير الأسس الدستورية والشعبية لممارسة الحياة الديمقراطية، إلا أنها لم تتمكن من مواصلة هذه العملية، وعلى النقيض من ذلك فقد شهدت تراجعات كبيرة، وارتدادات خطيرة على غير صعيد، وفي أكثر من بلد عربي!

ففي مصر وسورية والعراق والجزائر التي تشكل الأعمدة الرئيسة في كيان الامة من حيث عمقها الحضاري وإمكاناتها، وطاقاتها البشرية، والمادية رأينا أن تجارب بناء أنظمة ديمقراطية في كل منها قد أخفقت سواء بسبب الانقلابات العسكرية، أم بواسطة هيمنة الجيش بصورة غير مباشرة على الحياة العامة، أم عن طريق الغزو والاحتلال المباشر كما حدث للعراق. هذا الوضع هو الذي أدى إلى غياب أية صيغة فعالة للعمل العربي المشترك، وخاصة بعد أن أصبحت مؤسسة الجامعة العربية تحت الهيمنة الكاملة لكيانات الخليج البترولية. 

لقد وجدت الإدارة الأمريكية في هذا الواقع فرصتها الذهبية كي تطرح مخططها تحت عنوان: صفقة القرن، الرامي لتصفية القضية الفلسطينية، وتنفيذ مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي يضم مجموع الانظمة المطبعة مع إسرائيل في حلف جديد تتزعمه إسرائيل طبعا بحيث ينهي هذا الحلف إذا ما تمت إقامته أي صيغ أخرى تتعلق بالتضامن العربي او بالعمل العربي المشترك. لذا ونحن اليوم في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يظل السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان، وأعاد طرحه الكثيرون من رواد عصر النهضة، مطروحا وإن بصيغة الحاضر، أي لماذا يتقدم الآخرون، ونستمر في التخلف نحن العرب والمسلمين؟! سيظل هذا السؤال مطروحًا ا علينا: وعلى شعوبنا وعلى نخبنا الفكرية وحركاتنا السياسية، كي نستطيع كما يرى عبد الله العلايلي أن نشخص الخطأ ونبني على الحلول المجدية لتجاوز أزماتنا المزمنة!

إن بنية التخلف العام في مجتمعاتنا العربية وفي ضوء المشروعات والمناهج والسياسات التي استخدمت حتى الآن لتجاوز هذا الوضع، وَلم تفلح، ما تزال تستدعي من جميع النخب الفكرية والسياسية القيام بمراجعات نقدية شاملة للتجارب التي مرت بها في نطاق كيان كل قطر وعلى الصعيد العربي العام، واستيعاب النتائج والتطورات التي شهدها المجتمع الدولي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فهناك كما أسلفنا في أكثر من موضع ومنعطف قضايا وإشكاليات وقفت كعوائق مثبطة في طريق انجاز أهداف المشروع النهضوي لكل من أقطار هذه الأمة أو على الصعيد العربي العام. 

وفي مقدمة تلك الإشكاليات التي ماتزال حتى اليوم لا تقابل بمستوى الوعي المطلوب للتعامل معها، ما اصطلحت على تسميته شخصيا بجدل الثنائيات في الفكر العربي المعاصر مثل: ماهية الهوية الوطنية السورية، أو غيرها، والهوية العروبية، الاصالة والمعاصرة، الديمقراطية والليبرالية العلمانية والدين، العودة إلى التراث أو القطع معه. الخصوصية والعالمية، الموقف من القيم الحضارية الكونية المشتركة. وغيرذلك. لقد كان هدف المشروع النهضوي العربي وما يزال هو إحداث نقلة نوعية في التقدم الحضاري لشعوب هذه الامة ومجتمعاتها، بحيث تواكب المسار العالمي في هذا الميدان. لذا فإن بناء أنظمة وطنية ديمقراطية في كل من أقطار الأمة ليس غاية بحد ذاته. 

كما أن قيام خطوات وحدوية أو اتحادية بين هذه الاقطار ليس هدفا بحد ذاته أيضًا. ذلك أن الغاية الاساسية والهدف المطلوب من تلك الإنجازات هو شعور المواطن وبالتالي الشعب في كل من هذه الأقطار بإنسانيته وأنه في مجتمع متحضر وبيئة قادرة على تلبية حاجاته المادية والروحية والتمسك بالقيم الإنسانية المشتركة.

وعلى هذا، وكما رأى قسطنطين زريق، تتأكد أهمية وجود نخب مثقفة متسلحة بالقيم الخلقية والمناهج العلمية في وعيها وسلوكها. نخب مؤهلة لقيادة شعوبها نحو مستقبل أفضل. فإن تسلحت شعوبنا ونخبها الفكرية والسياسية بمستوى من الوعي والالتزام، يمكنها تجاوز واقعها المتخلف والانتصار في معارك التنمية المستدامة والتقدم الحضاري. 

من هنا تتأكد لنا ضرورة أن تكون الجبهة الاساسية في المعركة الشاملة التي تخوضها مجتمعاتنا اليوم، لتجاوز واقعها المتخلف، هي جبهة الثقافة والتنوير. التي تمكن هذه المجتمعات من مواكبة مسار العصر.

من العدد ٥١ من جريدة المسار