(1964-1966)
الدكتور جون نسطة
ظلت حادثة فقداني لوالدتي المؤلمة ترافقني في نومي على شكل أحلام او كوابيس، وفي يقظتي على شكل بكاء دموعه لاتنضب، وذلك على مدى شهور، بل سنوات. ذلك لان امي كانت تعني لي الوطن بحد ذاته.فالانسان، كما يقول شكسبير لا يحن الى الشجر او الحجر بل يحن ويشتاق إلى البشر.
رغم ذلك انكببت على الدراسة التي أصبحت قريبة الى نفسي وقناعتي وجاءت علاماتي بالتالي جيدة مما دعى إدارة الجامعة لتقديم منحة مالية اضافية لي تلقيتها بفرح واعتزاز. كنت اول طالب أجنبي في جامعة لابزيغ يحصل على مثل هذا التقدير.
في هذه السنة الدراسية أنهينا المرحلة اللاسريرية وبدأنا بالمرحلة السريرية.
وقبل سرد إحداث سرد هذه المرحلة، سأحدثكم عما جرى معي في فحص مادة علم الوظائف، phisiogie، وهي مادة أساسية في العلوم الطبية، بالاضافة طبعا لمادة الأمراض pathologie.
كان هناك كتاب واسع مقرر ومعتمد لهذه المادة. عكفت على دراسته شهرا كاملا وبمعدل 12 ساعة باليوم، حفظته صفحة صفحةً بل سطرا سطرا.
وفي يوم الامتحان الشفهي،دخلت مع ثلاثة طالبات ألمانيات، الى غرفة بل مكتب عميد الكلية،لتقديم الامتحان.كان الأستاذ العميد يطرح سؤالا محددا علينا بالتتالي،ثم سؤالاً ثانيا وثالثا ورابعا اخيرا.وعند الانتهاء من الأسئلة، بدأ بإعطاء العلامات. أعطاني علامة جيد ثم توجه الى الزميلات معلنا بأنهن جميعا راسبات، بدأ بتعنيفهن …ألا تستحين من انفسكن، هذا الطالب الأجنبي غريب اللغة واللسان البعيد عن أهله، عليه تدبير أموره من طعام وغسيل ألبسة الى كافة شؤون الحياة وإذا تأخرت رسالة اهله بالوصول يبقى مشغول البال مضطرب الفكر والهواجس.
وبعد ان انتهى من محاضرته قلت له بأنني اعترض على إعطائي درجة جيد، فأنا أرغب بدرجة جيد جدا وهذا ما استعددت له، مضيفا بأنني أعرف الكتاب أكثر مما تعرفه ربما تعرف أكثر من كتاب، ولكن الكتاب المقرر لي أعرفه أكثر منك. تفاجأ الاستاذ على مضض وقال تقدم نحو الصبورة واشرح لي كيف ينتقل احساسك بالألم إلى الدماغ وكيف يعود جواب الدماغ الى الاطراف.شرحت ذلك بالصورة والكلمة بكل إتقان. فقال أعطيك علامة جيد Blus. فرضيت ليس عن قناعة ولكن من الخوف.
طبعاً انكبابي على الدراسة بهذا الشكل المكثف لم يكن ممكنا،لو بقيت من سكان بيت الطلبة برفقة زميلي عون حيث كانت غرفتنا تضح بالزوار ليلا ونهارا من الرفاق والاصدقاء السوريين والعرب. ولهذا بقيت منذ السنة الدراسية الثانية اعمد الى استئجار غرفة مفروشة عند إحدى العائلات الالمانية. كانت أسعار الإيجارات رخيصة بشكل لا يصدق. وعند انتهاء الامتحانات كنت اعود للسكن ببيت الطلبة، وكانت أجرته 10 مارك شرقي بالشهر دون ان اتخلى عن غرفتي الخاصة في الخارج.
كنت أنشط في العمل الحزبي وفي عمل رابطة الطلاب السوريين، ننظم سهرات ثقافية، تضم الموسيقى والحزازير ومسابقات أفضل نكتة وأجمل قصيدة. وكنت اعمل أيضا ضمن الهيئة الادارية لاتحاد الطلاب العرب.
وفي 17 نيسان من كل عام في مناسبة حلول عيد الجلاء،كنا نقيم حفلا كبيرا في قاعة واسعة تضم المئات، ندعو إليها اساتذتنا الألمان من كل فروع الجامعة وزملائنا الالمان ايضا، وندعوا كذلك الهيئات الادارية للمنظمات الطلابية العربية. نستهل الحفل بالنشيد السوري يغنيه طاقم من اعضاء رابطتنا، تحت إشراف الموسيقار نوري رحيباني، ثم كلمة المناسبة كنا نكتبها في قيادة المنظمة الحزبية ونقوم بترجمتها ويلقيها أحد الزملاء المتمكن في اللغة الألمانية.وتتخلل الحفل إلقاء كلمات من الضيوف، وبعض الأغاني العربية، ثم يتاح المجال للموسيقى الغربية مع الرقص الغربي ايضا.
جرت العادة ان اتقابل ثلاث مرات بالأسبوع مع الرفيق نايف بلوز في جلسات ودية بدون برنامج محدد او مخطط مدروس غالبا في أحد مطاعم او ملاهي لايبزيغ، نتحدث حول كل أحداث السياسة العالمية والعربية والسورية طبعا، وكذلك عن أوضاع الحزب الغير سارة تنظيميا وسياسيا وفكريا، بظل قيادة تخضع لعبادة الفرد وتسلطه الكامل على كل أوجه نشاطاته وساحات عمله.
أتذكر حادثة مرت معي برفقة نايف حيث كنت مضيفه على العشاء، قال فيها في نهاية السهرة، ارى إنك تعتز بكرمك؟ قلت نعم قال ان الكرم عادة من عادات المجتمع الإقطاعي، وقيمة عالية من قيم الإقطاعي، اما العمال والفلاحين، وانت تعتبر نفسك من المنضمين لصفوفهم، فالكرم ليس من موضاعتهم، لأنهم لا يملكون ما يكرموا به.
تأثرت جدا بهذا الكلام وبدأت اعيد النظر بفكر نقدي بكل مسلماتي وقناعاتي الأخلاقية والاجتماعية.
وفي لقاء مع زملائنا الطلبة السوريين توجه أحدهم بالسؤال لنايف، انت درست الفلسفة فما موقفك من الله، فأجاب نايف على شكل سؤال عدد لي أسماء الالهة السوريين آلتي تعرفهم فأجاب الطالب حدد وأيل وبعل وعشتار. قال نايف ما يعني هذا؟ اجاب الطالب لا أعرف فقال نايف هذا يعني ان البشر هم من يصنعون آلهتهم، وأحيانا على صورتهم ومثالهم.
في ألمانيا الديموقراطية كان طبيبان شيوعيان فروا من ملاحقة مباحث عبد الحميد السراج ،من مدينة حمص،وارسلهم الحزب بقصد التخصص في أحد فروع الطب، الأول هو الطبيب زياد الساعاتي،خريج جامعة دمشق،وعمل في مشفى في مدينة براندنبورغ بالقرب من برلين، في قسم الجراحة، والآخر هو الدكتور شكر الله عبد المسيح خريج فرنسا، وعمل في مشفى قريب أيضا من برلين في قسم أمراض الأنف والأذن والحنجرة. لم أكن أعرفهم من قبل شخصيا بسبب فارق العمر الكبير، ولكني تعرفت عليهم بشكل لصيق، في ألمانيا ونشأت بيننا علاقة صداقة متينة امتدت إلى آخر أعمارهم، لأرواحهم الذكية الطاهرة الهدوء والسكينة. حيث بقوا لأخر ايامهم متمسكين بماركسيتهم وشيوعيتهم.
وفي مدينة لايبزغ كان هناك طبيباً سوريا من مدينة دير الزور يتخصص في التوليد والجراحة النسائية ويدعى الدكتور محمود الحافظ رحمه الله أيضآ.كان الدكتور محمود يتبنى الفكر الماركسي ايضا، وله اخ محام من كوادر الحزب يعمل بالرقة.
د. محمود شخص إجتماعي، كريم اليد، معارض لدولة الوحدة، محدثا، يرغب بالاستماع اليه دوما يعرف المجتمع السوري جيدا كان يدعونا الى منزله بين الحياة والحين، في إحدى المرات وبعد طعام الشواء والتبولة جلسنا على تراس منزله وكان الوقت صيفا طبعا واستلم الحديث وعرج على اسم الدكتور فايز الفواز مسؤول منظمتنا الحزبية مهاجما، ينعته بالغرور والتعالي الخ.فقمت بالتصدي له مدافعا عن رفيقنا فايز، في حين صمت الاخرون من رفاقنا وعددهم حوالي 12 شخصاً. ودعته ببرودة واضحة وذهبت إلى بيتي.
في اليوم التالي مباشرة بعد الظهر، اندق باب غرفتي في بيت الطلبة، فتحت فإذا محمود الحافظ أمامي فرحبت به ودعوته للجلوس قال لن اطيل عليك، جئت طالبا صداقتك ومودتك. البارحة لفت نظري صمت جميع رفاقكم، عندما كنت أتحدث عن رفيقكم فايز الفواز، وكنت الوحيد من تصدى لي ودافعت عنه. فلهذا اطلب صداقتك، لانك سوف تدافع عني إذا هاجمني أحدهم في غيابي، انا متأكد من ذلك.
حادثة رغبت بسردها لأنها بنظري غير عادية علما إنني لم اذكرها يوما للرفيق فايز إلى الآن
كان لنا رفاق في لايبزيغ يسكنون في بيت للطلبة بعيد عن بيتنا الذي كان يسكن فيه العدد الأكبر من الرفاق ومنهم قادة المنظمة عبدالله حنا وسلطان ابازيد وزياد إدريس وانا وكلهم لم يكونوا من عداد فريق بيروت،ومنهم من قدم من ألمانيا الغربية. كنا لا نعرفهم ولا نثق بهم كل الثقة، بحسب قلة المعرفة، وكنا لا نرشحهم للعمل في قيادة الرابطة الطلابية ولا الى المهام والنشاطات الاخرى. ومن الطبيعي أن يكونوا ناقمين ومعارضين، وكنا بقيادة الرفيق عبد الله نقمعهم وبشدة أحيانا، اذكر بعض الأسماء منهم أبو النور كيالي، وفوزي الدقاق، وعبد القادر الصباغ من حلب، وهشام شومان من اللاذقية وغيرهم.
في مطلع العام 1965 جاء من برلين الرفيق فايز الفواز وطلب عقد اجتماع يضمني وسلطان ابازيد وزياد إدريس من قيادة منظمة لايبزيغ، أعلمنا فيه بأن الرفيق عبد الله لم يعد يرغب بقيادة المنظمة وعلينا نحن الثلاثة انتخاب وأحد منا ليكون بديلا عنه اي سكرتير للمنظمة. فورا وبنفس الوقت أشرنا، انا وزياد، باصابعنا نحو الرفيق سلطان الذي كان الاضعف بالحلقة، اي كان هو الحمامة ونحن الصقور.
كان سلطان إنساناً رقيقاً، حالماً، وديعاً، يعتمد على أحاسيسه وشعوره، أكثر من اعتماده على عقله، مسالما، ضعيف المعرفة بقواعد التنظيم اللينيني، لأنه جاء من درعا ومن منظمة ضعيفة، حديثة التكوين.
لم يكن مبدأ الانتخاب معروفاً في حزبنا الشيوعي السوري، كل قيادات المنظمات وامناء الفرق الحزبية يجري تعيينها من الأعلى إلى الأدنى على شكل ترشيح يجري الموافقة عليه بانصياع من الكل. والمطلوب من كل اعضاء الحزب ان يكون لهم موقفا ورأياً واحدا تجاه كل الأحداث العالمية، والظواهر والحركات السياسية.
كنت شخصيا وداخليا أتعاطف مع خروتشوف وتيتو وعبد الناصر والحراك الثوري في اليمن ومع بوادر ظهور الشيوعية الاوروبية، وطريق التطور غير رأسمالي نحو الإشتراكية، وأعلن عن مواقفي أحيانا التي لم تكن تتطابق مع الخط البكداشي.
في أواسط العام 1966 قدم من دمشق إلى برلين الرفيق يوسف فيصل، وطلب عقد اجتماع مع كوادر الحزب في فندق Sport Hotel.
وسافرنا من لايبزيغ إلى هناك. لم أكن أعرفه من قبل. قام بعرض سياسي مطول عن الأوضاع في سوريا وعن علاقة الحزب بالنظام البعثي بعد الثالث والعشرين من شباط 1966 وتعيين وزير شيوعي يدعي سميح عطية، ثم تطرق الى الحديث عن الوضع العالمي. كان أثناء الاجتماع ينظر الى كل رفيق بعين التفحص والريبة والشك كأنه ضابط مخابرات لا ترى في عينيه أي مشاعر وأحاسيس إنسانية ولا ينم في حديثه تعبير عن عاطفة ومحبة.
في نهاية حديثه قال هناك رفيق جزائري يعيش في برلين، عمل في مطلع الثلاثينات في قيادة حزبنا مندوبا من الكومنترن، القيادة العالمي للأممية الشيوعية، رجل مسن يرغب بالحديث إليكم، فاسمعوا له ولا تناقشوه.
دخل علينا رجل في أواسط السبعينات من العمر فاتح البشرى ازرق العينين فوق شفتيه شوارب بيضاء طويلة، عيونه تشع ذكاء، وانتباها، ومودة.
الرفيق عرف عن نفسه باسم محمود الأطرش،مولود في فلسطين وعاش مع والديه في الجزائر، عمل في صفوف الحزب الشيوعي الجزائري والفرنسي ثم جرى انتدابه للعمل في الكومنترن، مبعوثاً الى مساعدة الأحزاب الشيوعية الناشئة في فلسطين وسوريا. عمل في الحزب بشكل مباشر بين 1933 وحتى 1935 أثناء وجود خالد بكداش في موسكو في المدرسة الحزبية. حدثنا عن نشاط الحزب في هذه الفترة وكيف أنه ساهم في عملية تعريبه، وعن سياسي الفترة من السوريين بالأسماء وعرج الى الحديث عن الكيان الصهيوني قائلا لولا خيانات القادة العرب لما كان هناك شيء اسمه اسرائيل. وان الجيش الجزائري قادر على اجتياحها بأيام لو سمحت الفرصة.
ترك يوسف فيصل في نفسي أثراً سلبياً بالغاً وقلت إذا كان هذا الرجل الشخص الثاني في قيادة الحزب، فإني غير مستعد للعمل تحت قيادته. وفورا بادرت إلى كتابة رسالة أطلب فيها قبول استقالتي من قيادة منظمة لايبزيغ، مع احتفاظي بعضوية الحزب، قائلا إنني لا أستطيع اقناع الرفاق بالفرق الحزبية بصحة برنامج وسياسات الحزب وأنا غير مقتنع بها.