العدد الواحد والخمسون من جريدة المسار – نيسان ٢٠٢١

  • الافتتاحية: معارضة الداخل أم الخارج؟
  • بيان المكتب الاعلامي لجود: حول منع النظام عقد مؤتمر جود في الداخل.
  • “جود” أعاد المعارضة الوطنية إلى حضنِ الشعب! – نور الواكي.
  • ظاهرة جو بايدن – محمد سيد رصاص.
  • اللاجئون والضحايا السوريون بالأرقام – نادر عازر.
  • من زوايا الذاكرة: (1964-1966) – الدكتور جون نسطة.
  • الشيوعي العربي – صبحي أنطون.
  • واقع حركة التحرر العربية ومستقبلها – حبيب حداد.
  • مختارات من دفاتر السجن، عن الدولة والمجتمع المدني – أنطونيو غرامشي.
  • محاولة في دراسة فكر ماوتسي تونغ – رامز مكرم باكير.

الافتتاحية:

معارضة الداخل أم الخارج؟

عندما حصلت ثورة شباط 1917 في روسيا ضغط المعارضون في الخارج الملاحقون من الحكم القيصري المطاح به في تلك الثورة من أجل دفع  الحكومة المؤقتة التي استلمت السلطة بعد الثورة  لمقايضة الألمان الذين كانوا في حرب مع روسيا نحو مبادلة الإفراج عن ضباط ألمان أسرى لدى الروس بعملية السماح من قبل الألمان بمرور قطار مغلق من سويسرا إلى روسيا يمر بالأراضي الألمانية يحمل الساسة المعارضين الروس للحكم القيصري.

كان لينين في ذلك القطار، وعندما وصل لروسيا أصدر “موضوعات نيسان” التي دعا فيها إلى ثورة اشتراكية تطيح بالحكومة المؤقتة واستبدالها بمجالس سوفياتات العمال والفلاحين والجنود.

في سوريا ما بعد 18 آذار 2011 عندما حصل الحراك السوري المعارض،اتجه بين صيف وخريف 2011 الكثير من المعارضين نحو المغادرة للخارج ومعظمهم لم يكونوا مطلوبين أمنياً ولا توجد عليه أخطار، وعملياً في خريف ذلك العام أصبح مركز المعارضة السورية، مع منافسة من دمشق عبر (هيئة التنسيق الوطنية)، في اسطنبول عبر تشكيل “المجلس الوطني”، وهو ما ترافق مع العسكرة عندما أصبحت تدار التنظيمات المسلحة من تركية مع تدويل بين محور روسيا-ايران ضد محور الولايات المتحدة-فرنسا-تركيا-الخليج مع تفويض للأتراك بإدارة الملف السوري لصالح هذا المحور.

منذ ذلك الوقت أصبح أغلب المعارضين السوريين في الخارج، وقد اتجه الكثيرون من الذين كانوا صامتين عن معارضة النظام نحو الخروج للخارج وأصبحوا يزاودون في معارضتهم أمام خريجي عقود من السجن والزنزانات والملاحقات الذين بقي بعضهم في الداخل في حالة استمرار في معارضة النظام، وهم في ألمانيا وفرنسا وتركيا أصبحوا بعد أن كانوا صيصاناً في دمشق نموراً في تلك البلدان يطرحون طروحات قصوية لا تبني على توازنات الواقع على الأرض، وربما كان بعضهم،من الذين كانوا جزءاً من السلطة السورية، يستخدمون التطرف في المعارضة كغسالة لأوساخهم السابقة أو للتمويه عليها.

قاد هذا الوضع خلال عشر سنوات من الأزمة السورية إلى تشكيل معارضة خارج أمام معارضة داخل مثلتها هيئة التنسيق الوطنية التي قدمت طرحاً جذرياً للتغيير ولكن عبر طريق انتقالي نحو نظام ديمقراطي تتشارك في سلطته السلطة والمعارضة للوصول إلى ذلك النظام الجديد عبر دستور جديد تجري الانتخابات على أساسه تحت إشراف الجسم الحكومي الانتقالي، فيما كانت معارضة الخارج رافضة لفظاً وفعلاً للحل الانتقالي حتى مؤتمر الرياض واحد للمعارضة السورية المنعقد في كانون أول 2015 وبعده تقبله لفظاً وترفضه فعلاً حتى الآن.

حتى الوقت الحاضر هناك مركزين للمعارضة واحد في اسطنبول مع “الائتلاف” والثاني في دمشق مع “هيئة التنسيق الوطنية”. جرت اتهامات كثيرة للهيئة من معارضي الخارج للهيئة بأنها “رخوة”أمام السلطة السورية وبأنها “مساومة” وتطرف بعضهم في الاتهام نحو وصمها بأنها “تدار أو على توافقات مع حلفاء السلطة السورية” وخاصة الروس.

في يوم 27 آذار 2021 سقطت تلك الاتهامات ضد (هيئة التنسيق الوطنية) مع نشر وثيقة (الرؤية السياسية للجبهة الوطنية الديمقراطية – جود) التي كان مقرراً أن تكون جدول الأعمال الرئيسي لمؤتمر (جود) الذي كان مقرراً عقده في ذلك اليوم بدمشق وقامت أجهزة الأمن بمنع انعقاده. 

تضمنت تلك الوثيقة طروحات لا يتجرأ أولئك المعارضون في الخارج لو كانوا في الداخل على طرح واحد بالمئة مما تضمنته تلك الوثيقة، وهم في الحقيقة قد صعقوا من هذا المشهد، هم والسلطة السورية ومواليها على قدم سواء، الذي أعطى صورة جديدة بأن عاصمة المعارضة في دمشق وليس في الخارج بمافيه اسطنبول حيث مقر “الائتلاف”.


بيان المكتب الاعلامي لجود

حول منع النظام عقد مؤتمر جود في الداخل

27/3/2021

منع النظام السوري انعقاد المؤتمر التأسيسي لتشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية جود والذي كان سيعقد صباح اليوم السبت، في دمشق.

وجاء المنع من خلال اتصالات “جهات أمنية” بشخصيات وقيادات مكونات مشاركة في المؤتمر منتصف ليل أمس الجمعة.

وقد جاءت التهديدات التي اتخذت شكل تحذيرات للمتصل بهم، بأن السلطات الأمنية لن تسمح وستمنع انعقاد مؤتمر جود بذريعة عدم حيازة المؤتمرين أو لجنة المؤتمر على ترخيص مما يسمى “لجنة شؤون الأحزاب”. 

‏ولا يخفى على أحد آلية تعامل النظام الاستبدادي في دمشق، مع كل نشاط وطني ديمقراطي وثوري، يناهضه ويسعى لتغيير الأوضاع الراهنة التي أنهكت سوريا والسوريين، ومن ينظر إلى توقيت قرار المنع، يرى كيف انتظرت أجهزة النظام الأمنية حتى الساعات الأخيرة قبيل انعقاده، وفي منتصف الليل كي لا تتاح أي فرصة للتحرك أو فعل شيء.

هذا وقد كانت اللجنة التحضيرية لتشكيل جود قدمت من خلال وثائقها المقترحة على المؤتمر لإقرارها -وانتم تعلمون والعديدون بينكم أعضاء مشاركون وممثلو مكونات مشاركة في جود- قدمت مجموعة من البنود التي اقترحتها للخروج من الوضع السوري الحالي، في مقدمتها تغيير النظام الحاكم المستبد بشكل جذري بكل مرتكزاته ورموزه، إضافة إلى إخراج كافة القوى الجيوش والميليشيات الأجنبية من سوريا، وسحب سلاح الأخرى، في مسعى لوقف الاحتراب والأعمال العسكرية داخل سوريا من أي كان، والبدء بحل سياسي حسب قرارات الشرعية الدولية جنيف1 و القرار 2254 بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، تفضي إلى جو ديمقراطي يتيح كتابة دستور جديد للبلاد، وانتخابات نزيهة تحت اشراف أممي تحيل إلى دولة مدنية.

‏‏وفي موقفها من الانتخابات ‏الانتخابات الرئاسية التي يزمع النظام إجراءها في يونيو حزيران القادم، فتراها انتخابات غير شرعية، ويجب على السوريين عامة مقاطعتها.

وطالبت بإطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المختفين قسراً. وكل هذا يزعج النظام فيما يصدر من دمشق.

إن ما قام به نظام القمع في دمشق ضد القوى المشاركة بتشكيل جود، وهي قوى سلمية مدنية، تمثل حراك الشارع السوري بكافة أطيافه، والأحزاب والتيارات الوطنية الديمقراطية السورية، والشخصيات الوطنية المشهود بوطنيتها ونضالها، والتي عانى الكثير منها التضييق والترهيب والملاحقة والاعتقال، ليس إلا حلقة في سلسلة قمع النظام واستبداده وشموليته، نظام الفساد والانتهاكات والقتل والتهجير وتدمير البلاد.

‏تعتبر اللجنة التحضيرية لتشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية جود ما قام به النظام من منع لعملها السلمي المدني، الذي يعبر عن الشعب السوري وطموحاته، ويسعى للم شمل السوريين واستعادة لحمتهم في وطن لكل أبنائه. انتهاكا لكل الشرائع الدولية وحقوق الإنسان، وعملا إجرامياً قمعياً يضاف إلى سجل النظام الزاخر بكل ما يشين. وتدرس اللجنة التحضيرية بقواها وشخصياتها المشاركة ‏كل الاحتمالات، فهي لن تتنازل عن حقِها في النضال السلمي ضد الاستبداد والقمع والقهر والفساد، وعملِها ضد القتل والتدمير، وسترى ما يمكن فعله لمتابعة ما بدأت من مسعى لتوحيد قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية وتعاضدها مع السوريين في كل مكان بالداخل والخارج لتحقيق حلمهم بالحرية والكرامة والحياة.

ومن هنا فإننا نحمل النظام والحكومات الداعمة له، وأيضا الدول المؤثرة في المشهد السوري، مسؤولية أمن رفاقنا وزملائنا في الداخل وسلامتهم، ونطالب بتدخل دبلوماسي ودولي واممي لحفظ سلامتهم، وكفّ يد النظام وأجهزته الأمنية عن قمع الحراك الوطني المدني السلمي في سوريا.

وأخيرا تعتبر اللجنة التحضيرية لتشكيل جود نفسها في حالة انعقاد اجتماع مفتوح فيما تنسق عملها خلال الساعات والأيام القادمة لاتخاذ القرار المناسب، والتصرف الصحيح فيما يخص تشكيل الجبهة الوطنية الديموقراطية جود، التي ترى فيها حلا لابد منه للبدء بالخروج من الوضع السوري القائم اليوم.


“جود” أعاد المعارضة الوطنية إلى حضنِ الشعب!

نور الواكي

٢٩ آذار ٢٠٢١

(من صفحته على الفيسبوك)

١. إن فكرة عقد مؤتمر جود (جبهة وطنية ديمقراطية) وموضوع عقده في عاصمتنا دمشق، كان خطوة هامة وناجحة، أعاد الحياة للتفكير والمنطق بعد المحاولات الدموية لقتلهما، بل يمكن وصفها بأنها خطوة جريئة في التفكير ومغامرة من ناحية الحركة ومدروسة في حدود توقعات كل ما يمكن أن يحدث، من قبل المعارضة الوطنية السورية.

خلال التحضير للمؤتمر الذي استغرق حوالي السنتين فعليا إلى أن تبلور بشكله الأخير في (جود)، طرأ عليه الكثير من التطورات التي أوصلته إلى شكله الذي ولد فيه للعلن، ولاقى صدى ايجابياً وحاضناً لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب السوري الجريح، من ثوار ومعارضين وحتى مؤيدين ورماديين ومواطنين لا يهمهم من السياسيين سوى أن يجدوا سبيلا لإنهاء هذه المعاناة الرهيبة والفظيعة. 

ولأول مرة منذ ما يقارب التسع سنوات نصل إلى حالة إجماع بين السوريين، (عدا النظام) على قضية سياسية سورية بديهية وطبيعية وجوهرية، بأنه من حق السوريين عقد مؤتمر في العاصمة السورية يبحث مشاكل السوريين (بمعزل عن الاتفاق او الاختلاف مع مخرجاته) وبطريقة سلمية!

مؤتمر لا يصفق للنظام ولا يهلل له، ولا يبارك أمجاده ولا يشكر سيادة الرئيس، ولا يشيد بحكمته وشجاعته، بل مؤتمر يطالب بالتغيير الوطني الديمقراطي، والانتقال السياسي، وتشكيل هيئة حكم انتقالي، ويطالب بالإفراج عن المعتقلين والمخطوفين، ويطالب باستعادة حق السوريين الكامل في تقرير مصيرهم، وكتابة دستورهم، بدون تدخل خارجي، وبدون النظر إلى مصالح الدول الإقليمية والدولية، فقط إلى مصالح السوريين، وعلى مبدأ سوريا أولاً وآخراً، وإخراج كل المحتلين وكل الجيوش الأجنبية، والميليشيات المسلحة، وإنهاء فوضى السلاح، وإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية، وعدم تدخلهم بالسياسة، وتحديد مهمتهم في حفظ أمن البلاد والعباد!، وإعادة إعمار البلاد، وجبر الضرر الذي أصاب السوريين، ومحاسبة المسببين، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، ويكون مؤتمراً بصناعة سورية وطنية مئة بالمئة! بأدواتٍ وإنتاجٍ محليين، وعلى أرضٍ سورية، وفي العاصمة دمشق، دون البحث عن ضمانات لعقده، ولا عن دول راعية له، ولا استئذان أحد، ولا طلب المشورة من أي سفير، ولا توسل من أجل الدعم والتمويل.

وجاء إصرارنا على عقده في دمشق ضمن هذه الظروف، بإمكاناتنا المادية المتواضعة، بما يشبه طبيعتنا وجلساتنا وبيوتنا السورية، وهذا ما عظمه أولا في نفوسنا وما جعله مقبولا وقريبا من السوريين. 

والمؤتمر الممنوع من العقد الفيزيائي، لكنه انعقد في قلوب السوريين وهو الأهم؛ 

٢. أحرج النظام وداعميه الذين يدعون محاربة الإرهاب والفاشية والتطرف، والأصولية والإسلاميين ويحمون الدولة والأقليات، وبين زيف ادعاءاتهم، وأظهر حقيقتهم على أنهم (النظام وداعموه) كتلة واحدة!، بعقلية استبدادية واقصائية مدمرة ، وبين كذب داعميه الروس “بطبخة البحص” التي يسمونها مسار أستانا والعملية الدستورية، وأنهم فقط يلعبون بالوقت والكلمات والمخرجات ويحاولون إفراغ القرارات الدولية من مضامينها، وأحرج المجتمع الدولي وعلى رأسه (الولايات المتحدة) الذي وقف صامتا ومذهولا أمام تحرك المعارضة الوطنية بقيادة هيئة التنسيق بالتفكير خارج الصندوق! والعمل على تعزيز قاعدة المؤمنين بالتغيير، ولم ينبس ببنت شفه حيال منع عقد المؤتمر، وأصبح واضحا أن دموع التماسيح التي يذرفونها على قتلانا وأطفالنا وخراب بيوتنا وضياع مستقبلنا ما هو إلا كذب ودجل! وأحرج أيضا كل من لا يؤمن بالحل السياسي السلمي، وأهميته، ومن يقلل من قيمة العمل من الداخل، بل سحب البساط من تحت أقدام الكثيرين ممن تاجر بالسوريين، وباعهم الأوهام، وسلم قضيتهم إلى الدول، وأصبح مرهونا لها بما يقدمونه لهم من دعم سياسي ومادي، وأصبح بقائهم مرتبطا بموازين القوى، وقدم بارقة أمل وفتح أفقا جديدا. 

٣. لقد قدم النظام للمعارضة الوطنية بمنعه عقد المؤتمر هدية لا تقدر بثمن! فقد مكنها من العودة إلى حضن شعبها الدافئ بعد طردها منه بالقوة، عبر تشويه صورتها وتخوينها وذمها، وإطلاق صفات مسيئة عليها والقول بما فيها وما ليس فيها والتضييق عليها سواء من النظام، أو من خصوم المعارضة الوطنية في ذلك الوقت! 

لا بد وأن نقدر فرح الكثيرين ممن يحترمون هيئة التنسيق الوطنية وجود، بقرار النظام بمنع عقد جود، فقد استطاعت هيئة التنسيق/جود اكتساب ثقة قطاعات واسعة من الشعب السوري وعن جدارة، وأصبح من الممكن لكثير من القوى والشخصيات والشباب ممن ترددوا من المشاركة في المؤتمر مخافة مطرقة التخوين، أو خوفا من النظام، أو من رأى عبثية عقده بدمشق! و أكثر المتحمسين هم من فئة الشباب الذين فقد معظمهم الأمل بالعبثية السائدة، والمسارات الخلبية والمؤتمرات الشكلية وأغلق أمامهم أبواب النضال والكفاح لمقاومة الواقع المر، وأصبح الشباب يهتم ويطلب وثائق الهيئة السياسية ورؤيتها، بعد أن تم التشويش على الشعب السوري بشبابه وشيبه لفترة طويلة وإعاقتهم عن التفكير السياسي، ودفعهم نحو العنف والانغلاق على مسارات محددة، دون غيرها وهذا تحول يجب قراءته والاهتمام به، ولكن يجب القول أن النظام ليس بهذا الغباء حتى يقدم للمعارضة الوطنية هذه الهدية، لأن النظام السوري استشعر خطر إقامة مؤتمرات داخل سيطرته تتحدى إرادته، بظل تدهور الوضع المعيشي والأمني والفساد المستشري وعجزه عن تقديم أية حلول مقنعة للمواطنين السوريين، وبات يشعر أن السماح لمثل هذه المؤتمرات سيشجع شرائح وقوى جديدة على الدخول إلى العملية السياسية والمطالبة في التغيير ولربما تحركات أكثر حرارة وأعلى صخباً و من نفس البوابة التي تستخدمها هيئة التنسيق الوطنية. 

٤. لأول مرة تحقق المعارضة الوطنية الممثلة بهيئة التنسيق حالة إجماع وتوافق بين قوى المعارضة على اختلاف مواقعهم، وهذا يزيل من أمامها عقبة التخوين والتشكيك، لتنتقل إلى مرحلة التقدم باتجاه الجميع، وإنجاز مهام توحيد المعارضة لمواجهة الاستبداد، وتخليص البلاد من الهاوية، والعمل معا لتخليص سوريا من عتمت هذا الكهف الذي تسده صخرة النظام الثقيلة، ولكن معاولنا جميعا في الداخل والخارج وعلى اختلافنا واختلاف مواقعنا وآرائنا ستكمل ما بدأه شبابنا منذ عشرة أعوام! 

فالمعركة لم تنتهي بعد!


ظاهرة جو بايدن

محمد سيد رصاص

“نورث برس”-11\4\2021

منذ الحرب العالمية الثانية لم تتبين ملامح سياسات الإدارات الأميركية في أشهر ثلاثة مثلما حصل مع إدارة جو بايدن: يمكن أن يعزى هذا إلى خبرة الرئيس الأميركي الجديد والطاقم الذي معه، ويمكن أن يكون لعب عامل آخر في ذلك، وهو إحساس عام في دوائر واشنطن المختلفة بأن السنوات الأربع لدونالد ترامب قد أضعفت مكانة الولايات المتحدة في خارطة العلاقات الدولية وساهمت في تقوية خصومها، وخاصة الصين وروسيا.

يلفت النظر في جو بايدن أمور عدة ، منها أن إدارته قد كسرت قاعدة استمرت لسبعين عاماً، وهي أن الجمهوريون أقرب من الديمقراطيين إلى (مجمع الأمن القومي الأميركي)، أي وزارة الدفاع- البنتاغون والاستخبارات، وقد بدأ هذا عندما قام الرئيس الديمقراطي هاري ترومان في الحرب الكورية 1950-1953 بإقالة الجنرال ماك أرثر من قيادة القوات الأميركية  لما خالف تعليمات القيادة السياسية في عمليات تلك الحرب،وقد أحدث ذلك دوياً كبيراً نظراً لمكانة الجنرال ماك أرثر في المجتمع الأميركي،وهو الذي استلم عام 1945 ورقة استسلام اليابان مما أنهى الحرب الحرب العالمية الثانية.

أتى بعد ترومان رئيس جمهوري من خلفية عسكرية هو دوايت أيزنهاور، وقد كان الجمهوريون ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج بوش الأب والابن في انسجام مع (مجمع الأمن القومي الأميركي) أكثر من نظرائهم الديمقراطيين. بدأ الشقاق بين الجمهوريين وهذا (المجمع) في عهد ترامب، الذي منعه البنتاغون في كانون أول 2018 وتشرين أول2019من تنفيذ ما أعلنه من قرارين بسحب القوات الأميركية من سوريا، ولم يكن البنتاغون راضياً عن اتفاق 29 شباط 2020 مع طالبان لسحب القوات الأميركية من أفغانستان بدءاً من 1 أيار 2021، كما أنه لم يكن راضياً عن عدائية ترامب لحلف الأطلسي- الناتو ولا عن نزعته لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في الخارج، هذه النزعة التي أتت عند ترامب استمراراً ومتابعة لنزعة انعزالية أميركية “عن مشاكل العالم القديم” في دولة مهاجرين بدأت مع مبدأ مونرو عام 1823 ولم تنتهي سوى عام 1917مع الانخراط الأميركي في الحرب العالمية الأولى .

عند بايدن هناك تشارك ملفت مع (مجمع الأمن القومي) في رؤية كانت غائبة طوال ثلاثين عاماً في واشنطن منذ تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 عقب عامين من هزيمته في الحرب الباردة 1947-1989، وهي أن روسيا تمثل خطراً وتشكل مشروعاً لمنافس عالمي للولايات المتحدة مثل الصين التي هناك رؤية ثابتة في واشنطن منذ إدارة كلينتون 1993-2001 بأنها المنافس العالمي الأكبر للقطب الواحد الأميركي في عالم ما بعد الحرب الباردة. هناك الآن في إدارة بايدن رؤية  بأن الصين وروسيا هما عدوين للولايات المتحدة ، وهي رؤية جديدة بالقياس إلى ما كان في واشنطن منذ زيارة كيسنجر السرية للصين عام 1971 حيث في الخمسين عاماً الماضية كانت تتجه واشنطن لتقريب بكين من واشنطن للضغط على موسكو وهو ما استمر حتى عام 1989، ثم جرى الاتجاه لتقريب موسكو من واشنطن للضغط على بكين وهو ما ظهر بوضوح في عهدي باراك أوباما وترامب.هناك تشارك بين بايدن و (المجمع) في استمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا، وهناك تشارك بينهما نحو نقض أميركي للاتفاق مع طالبان من ناحية عدم الالتزام بسحب القوات الأميركية من أفغانستان المقرر بدئه في الشهر القادم.

ينظر بايدن بقلق بالغ للتقارب الصيني مع موسكو الذي يكاد أن يصل منذ بدء الخلاف الصيني- السوفياتي عام 1960 إلى مستوى التحالف الذي كان بين موسكو وبكين بين عامي 1949 و 1960، وهو يخشى من أن تنضم ايران (وربما باكستان وتركيا) إلى هذا التحالف، مما يمكن أن يخل بالتوازن العالمي.لذلك كانت مسارعته بالأسابيع الأخيرة نحو تليين الموقف الأميركي تجاه المفاوضات مع ايران بشأن برنامجها النووي بعد قليل من توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين الصين وايران، الذي يتضمن استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار في ايران لخمس وعشرين عاماً في مجالات مختلفة، إضافة إلى إقامة “مرفأ صيني “في الأراضي الإيرانية بعد ربطه مع الصين بأوتوستراد وسكة حديد عبر باكستان، أسوة بـ “مرفأين صينيين” في باكستان وميانمار، لكي تتفادى الصين المرور بمضيق مالاقا ،الرابط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي والذي تتحكم به قاعدة عسكرية أميركية في سنغافورة،وهو المضيق الذي تمر به 40%من التجارة العالمية.

يأمل بايدن، عبر كسب ايران، القيام بعزل الصين عن الشرق الأوسط، والقيام عبر ذلك بإنشاء تعارض ايراني-  روسي في منطقة الشرق الأوسط وفي منطقة آسيا الوسطى، وهو مستعد من أجل التقارب مع طهران أن يصل إلى حدود إغضاب حلفاء واشنطن في تل أبيب وأبوظبي والرياض، مادام هذا التقارب الأميركي-الإيراني يساهم في فرط أي تحالف أومحور ثلاثي صيني-روسي-إيراني، وربما  يساهم في استعادة “المخفر الايراني”للمنطقة الذي كان زمن كيسنجر-نيكسون في السبعينيات وخاصة إن ساهم موت خامنئي في أحداث تداعيات في تركيبة السلطة الإيرانية شبيهة بما جرى بعد موت ليونيد بريجنيف في موسكو عام 1982، عندما ساهمت سياسة الوفاق السوفياتي-الأميركي في إحداث ميول في السلطة السوفياتية وفي المجتمع السوفياتي نحو الضغط باتجاهات جديدة في الكرملين نحو اليمين.

كانت قمة بايدن في 12 آذار مع قادة الهند واليابان وأوستراليا طلقة المدفعية الأولى الأميركية ضد الصين. هناك ملامح كثيرة عن أن سوريا وأوكرانية ستكون ميدانين كبيرين للصدام الذي ينويه بايدن مع بوتين. الإنذار الأميركي للشركات الألمانية والأوروبية للتخلي عن مشروع (نورد ستريم 2)، الذي كان مقرراً عبره جر الغاز الروسي تحت مياه البلطيق إلى ألمانية، يدخل أيضاً في سياق تصادم البيت الأبيض مع الكرملين، وكذلك ترميم بايدن لعلاقات واشنطن مع دول الاتحاد الأوروبي، التي تدهورت كثيراً في عهد ترامب.


اللاجئون والضحايا السوريون بالأرقام

إعداد نادر عازر

بعد عشر سنوات من الصراع الدموي في سوريا، فإن عدد اللاجئين والمهاجرين والنازحين داخلياً وصل إلى أرقام كبيرة جداً شملت نصف الشعب السوري تقريباً، إضافة إلى نحو نصف مليون ضحية، مع مئات الآلاف بين معتقلين ومختفين ومجهولي المصير وفق تقديرات مختلفة.

وبحسب آخر أرقام نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان بتاريخ ١٥ آذار ٢٠٢١، فإنه وثق مقتل نحو ٤٠٠ ألف شخص خلال سنوات الصراع في سوريا، منهم ١١٧ ألف من المدنيين، ويشملون ٢٢ ألف طفل و١٤ ألف امرأة.

وبلغ عدد قتلى فصائل المعارضة والإسلاميين والتنظيمات الأخرى نحو ٥٥ ألفاً.

فيما خسرت قوات سوريا الديمقراطية والوحدات الكردية ما يقارب ١٣ ألف شخص. 

وبلغ عدد قتلى القوات الحكومية نحو ٦٣ ألفاً.

وقدّر المرصد أن ما يقارب ٨٨ ألف شخص ماتوا تحت التعذيب في معتقلات النظام.

ومن ناحية أخرى، ووفق آخر إحصاء لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بتاريخ ٣١ آذار ٢٠٢١، فإن إجمالي عدد الأشخاص المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية والحماية داخل سوريا بلغ ١٣,٤ مليون.

منهم من النازحين داخلياً الذين بلغ عددهم ٦,٧ مليون.

أما عدد اللاجئين والمهاجرين إلى الخارج بلغ ٦,٦ مليون. ٥,٦ مليون منهم في دول الجوار، و٢٨١ ألف يعيشون في المخيمات.

ويتوزع اللاجئون والمهاجرون على الشكل التالي (أرقام تقريبية):

تركيا ٣,٦ مليون.

ألمانيا ٨٨٠ ألف.

لبنان ٨٦٥ ألف.

الأردن ٦٦٥ ألف.

السودان ٢٥٠ ألف.

العراق ٢٤٣ ألف.

السويد ١٩١ ألف.

مصر ١٣١ ألف.

هولندا ١٠٥ آلاف.

باقي دول شمال أفريقيا ٣١ ألف، والباقي في دول أوروبا الأخرى وكندا والولايات المتحدة.


من زوايا الذاكرة: (1964-1966)

الدكتور جون نسطة

ظلت حادثة فقداني لوالدتي المؤلمة ترافقني في نومي على شكل أحلام او كوابيس، وفي يقظتي على شكل بكاء دموعه لاتنضب، وذلك على مدى شهور، بل سنوات. ذلك لان امي كانت تعني لي الوطن بحد ذاته.فالانسان، كما يقول شكسبير لا يحن الى الشجر او الحجر بل يحن ويشتاق إلى البشر.

رغم ذلك انكببت على الدراسة التي أصبحت قريبة الى نفسي وقناعتي وجاءت علاماتي بالتالي جيدة مما دعى إدارة الجامعة لتقديم منحة مالية اضافية لي تلقيتها بفرح واعتزاز. كنت اول طالب أجنبي في جامعة لابزيغ يحصل على مثل هذا التقدير.

في هذه السنة الدراسية أنهينا المرحلة اللاسريرية وبدأنا بالمرحلة السريرية.

وقبل سرد إحداث سرد هذه المرحلة، سأحدثكم عما جرى معي في فحص مادة علم الوظائف، phisiogie، وهي مادة أساسية في العلوم الطبية، بالاضافة طبعا لمادة الأمراض pathologie.

كان هناك كتاب واسع مقرر ومعتمد لهذه المادة. عكفت على دراسته شهرا كاملا وبمعدل 12 ساعة باليوم، حفظته صفحة صفحةً بل سطرا سطرا.

وفي يوم الامتحان الشفهي،دخلت مع ثلاثة طالبات ألمانيات، الى غرفة بل مكتب عميد الكلية،لتقديم الامتحان.كان الأستاذ العميد يطرح سؤالا محددا علينا بالتتالي،ثم سؤالاً ثانيا وثالثا ورابعا اخيرا.وعند الانتهاء من الأسئلة، بدأ بإعطاء العلامات. أعطاني علامة جيد ثم توجه الى الزميلات معلنا بأنهن جميعا راسبات، بدأ بتعنيفهن …ألا تستحين من انفسكن، هذا الطالب الأجنبي غريب اللغة واللسان البعيد عن أهله، عليه تدبير أموره من طعام وغسيل ألبسة الى كافة شؤون الحياة وإذا تأخرت رسالة اهله بالوصول يبقى مشغول البال مضطرب الفكر والهواجس.

وبعد ان انتهى من محاضرته قلت له بأنني اعترض على إعطائي درجة جيد، فأنا أرغب بدرجة جيد جدا وهذا ما استعددت له، مضيفا بأنني أعرف الكتاب أكثر مما تعرفه ربما تعرف أكثر من كتاب، ولكن الكتاب المقرر لي أعرفه أكثر منك. تفاجأ الاستاذ على مضض وقال تقدم نحو الصبورة واشرح لي كيف ينتقل احساسك بالألم إلى الدماغ وكيف يعود جواب الدماغ الى الاطراف.شرحت ذلك بالصورة والكلمة بكل إتقان. فقال أعطيك علامة جيد Blus. فرضيت ليس عن قناعة ولكن من الخوف.

طبعاً انكبابي على الدراسة بهذا الشكل المكثف لم يكن ممكنا،لو بقيت من سكان بيت الطلبة برفقة زميلي عون حيث كانت غرفتنا تضح بالزوار ليلا ونهارا من الرفاق والاصدقاء السوريين والعرب. ولهذا بقيت منذ السنة الدراسية الثانية اعمد الى استئجار غرفة مفروشة عند إحدى العائلات الالمانية. كانت أسعار الإيجارات رخيصة بشكل لا يصدق. وعند انتهاء الامتحانات كنت اعود للسكن ببيت الطلبة، وكانت أجرته 10 مارك شرقي بالشهر دون ان اتخلى عن غرفتي الخاصة في الخارج.

كنت أنشط في العمل الحزبي وفي عمل رابطة الطلاب السوريين، ننظم سهرات ثقافية، تضم الموسيقى والحزازير ومسابقات أفضل نكتة وأجمل قصيدة. وكنت اعمل أيضا ضمن الهيئة الادارية لاتحاد الطلاب العرب.

وفي 17 نيسان من كل عام في مناسبة حلول عيد الجلاء،كنا نقيم حفلا كبيرا في قاعة واسعة تضم المئات، ندعو إليها اساتذتنا الألمان من كل فروع الجامعة وزملائنا الالمان ايضا، وندعوا كذلك الهيئات الادارية للمنظمات الطلابية العربية. نستهل الحفل بالنشيد السوري يغنيه طاقم من اعضاء رابطتنا، تحت إشراف الموسيقار نوري رحيباني، ثم كلمة المناسبة كنا نكتبها في قيادة المنظمة الحزبية ونقوم بترجمتها ويلقيها أحد الزملاء المتمكن في اللغة الألمانية.وتتخلل الحفل إلقاء كلمات من الضيوف، وبعض الأغاني العربية، ثم يتاح المجال للموسيقى الغربية مع الرقص الغربي ايضا.

جرت العادة ان اتقابل ثلاث مرات بالأسبوع مع الرفيق نايف بلوز في جلسات ودية بدون برنامج محدد او مخطط مدروس غالبا في أحد مطاعم او ملاهي لايبزيغ، نتحدث حول كل أحداث السياسة العالمية والعربية والسورية طبعا، وكذلك عن أوضاع الحزب الغير سارة تنظيميا وسياسيا وفكريا، بظل قيادة تخضع لعبادة الفرد وتسلطه الكامل على كل أوجه نشاطاته وساحات عمله.

أتذكر حادثة مرت معي برفقة نايف حيث كنت مضيفه على العشاء، قال فيها في نهاية السهرة، ارى إنك تعتز بكرمك؟ قلت نعم قال ان الكرم عادة من عادات المجتمع الإقطاعي، وقيمة عالية من قيم الإقطاعي، اما العمال والفلاحين، وانت تعتبر نفسك من المنضمين لصفوفهم، فالكرم ليس من موضاعتهم، لأنهم لا يملكون ما يكرموا به.

تأثرت جدا بهذا الكلام وبدأت اعيد النظر بفكر نقدي بكل مسلماتي وقناعاتي الأخلاقية والاجتماعية.

وفي لقاء مع زملائنا الطلبة السوريين توجه أحدهم بالسؤال لنايف، انت درست الفلسفة فما موقفك من الله، فأجاب نايف على شكل سؤال عدد لي أسماء الالهة السوريين آلتي تعرفهم فأجاب الطالب حدد وأيل وبعل وعشتار. قال نايف ما يعني هذا؟ اجاب الطالب لا أعرف فقال نايف هذا يعني ان البشر هم من يصنعون آلهتهم، وأحيانا على صورتهم ومثالهم.

في ألمانيا الديموقراطية كان طبيبان شيوعيان فروا من ملاحقة مباحث عبد الحميد السراج ،من مدينة حمص،وارسلهم الحزب بقصد التخصص في أحد فروع الطب، الأول هو الطبيب زياد الساعاتي،خريج جامعة دمشق،وعمل في مشفى في مدينة براندنبورغ بالقرب من برلين، في قسم الجراحة، والآخر هو الدكتور شكر الله عبد المسيح خريج فرنسا، وعمل في مشفى قريب أيضا من برلين في قسم أمراض الأنف والأذن والحنجرة. لم أكن أعرفهم من قبل شخصيا بسبب فارق العمر الكبير، ولكني تعرفت عليهم بشكل لصيق، في ألمانيا ونشأت بيننا علاقة صداقة متينة امتدت إلى آخر أعمارهم، لأرواحهم الذكية الطاهرة الهدوء والسكينة. حيث بقوا لأخر ايامهم متمسكين بماركسيتهم وشيوعيتهم.

وفي مدينة لايبزغ كان هناك طبيباً سوريا من مدينة دير الزور يتخصص في التوليد والجراحة النسائية ويدعى الدكتور محمود الحافظ رحمه الله أيضآ.كان الدكتور محمود يتبنى الفكر الماركسي ايضا، وله  اخ محام من كوادر الحزب يعمل بالرقة.

د. محمود شخص إجتماعي، كريم اليد، معارض لدولة الوحدة، محدثا، يرغب بالاستماع اليه دوما يعرف المجتمع السوري جيدا كان يدعونا الى منزله بين الحياة والحين، في إحدى المرات وبعد طعام الشواء والتبولة جلسنا على تراس منزله وكان الوقت صيفا طبعا واستلم الحديث وعرج على اسم الدكتور فايز الفواز مسؤول منظمتنا الحزبية مهاجما، ينعته بالغرور والتعالي الخ.فقمت بالتصدي له مدافعا عن رفيقنا فايز، في حين صمت الاخرون من رفاقنا وعددهم حوالي 12 شخصاً. ودعته ببرودة واضحة وذهبت إلى بيتي.

في اليوم التالي مباشرة بعد الظهر، اندق باب غرفتي في بيت الطلبة، فتحت فإذا محمود الحافظ أمامي فرحبت به ودعوته للجلوس قال لن اطيل عليك، جئت طالبا صداقتك ومودتك. البارحة لفت نظري صمت جميع رفاقكم، عندما كنت أتحدث عن رفيقكم فايز الفواز، وكنت الوحيد من تصدى لي ودافعت عنه. فلهذا اطلب صداقتك، لانك سوف تدافع عني إذا هاجمني أحدهم في غيابي، انا متأكد من ذلك.

حادثة رغبت بسردها لأنها بنظري غير عادية علما إنني لم اذكرها يوما للرفيق فايز إلى الآن

كان  لنا رفاق في لايبزيغ يسكنون في بيت للطلبة بعيد عن بيتنا الذي كان يسكن فيه العدد الأكبر من الرفاق ومنهم قادة المنظمة عبدالله حنا وسلطان ابازيد وزياد إدريس وانا وكلهم لم يكونوا من عداد فريق بيروت،ومنهم من قدم من ألمانيا الغربية. كنا لا نعرفهم ولا نثق بهم كل الثقة، بحسب قلة المعرفة، وكنا لا نرشحهم للعمل في قيادة الرابطة الطلابية ولا الى المهام والنشاطات الاخرى. ومن الطبيعي أن يكونوا ناقمين ومعارضين، وكنا بقيادة الرفيق عبد الله نقمعهم وبشدة أحيانا، اذكر بعض الأسماء منهم أبو النور كيالي، وفوزي الدقاق، وعبد القادر الصباغ من حلب، وهشام شومان من اللاذقية وغيرهم.

في مطلع العام 1965 جاء من برلين الرفيق فايز الفواز وطلب عقد اجتماع يضمني وسلطان ابازيد وزياد إدريس من قيادة منظمة لايبزيغ، أعلمنا فيه بأن الرفيق عبد الله لم يعد يرغب بقيادة المنظمة وعلينا نحن الثلاثة انتخاب وأحد منا ليكون بديلا عنه اي سكرتير للمنظمة. فورا وبنفس الوقت أشرنا، انا وزياد، باصابعنا نحو الرفيق سلطان الذي كان الاضعف بالحلقة، اي كان هو الحمامة ونحن الصقور.

كان سلطان إنساناً رقيقاً، حالماً، وديعاً، يعتمد على أحاسيسه وشعوره، أكثر من اعتماده على عقله، مسالما، ضعيف المعرفة بقواعد التنظيم اللينيني، لأنه جاء من درعا ومن منظمة ضعيفة، حديثة التكوين.

لم يكن مبدأ الانتخاب معروفاً في حزبنا الشيوعي السوري، كل قيادات المنظمات وامناء الفرق الحزبية يجري تعيينها من الأعلى إلى الأدنى على شكل ترشيح يجري الموافقة عليه بانصياع من الكل. والمطلوب من كل اعضاء الحزب ان يكون لهم موقفا ورأياً  واحدا تجاه كل الأحداث العالمية، والظواهر والحركات السياسية.

كنت شخصيا وداخليا أتعاطف مع خروتشوف وتيتو وعبد الناصر والحراك الثوري في اليمن ومع بوادر ظهور الشيوعية الاوروبية، وطريق التطور غير رأسمالي نحو الإشتراكية، وأعلن عن مواقفي أحيانا التي لم تكن تتطابق مع الخط البكداشي.

في أواسط العام 1966 قدم من دمشق إلى برلين الرفيق يوسف فيصل، وطلب عقد اجتماع مع كوادر الحزب في فندق Sport Hotel.

وسافرنا من لايبزيغ إلى هناك. لم أكن أعرفه من قبل. قام بعرض سياسي مطول عن الأوضاع في سوريا وعن علاقة الحزب بالنظام البعثي بعد الثالث والعشرين من شباط 1966 وتعيين وزير شيوعي يدعي سميح عطية، ثم تطرق الى الحديث عن الوضع العالمي. كان أثناء الاجتماع ينظر الى كل رفيق بعين التفحص والريبة والشك كأنه ضابط مخابرات لا ترى في عينيه أي مشاعر وأحاسيس إنسانية ولا ينم في حديثه تعبير عن عاطفة ومحبة.

في نهاية حديثه قال هناك رفيق جزائري يعيش في برلين، عمل في مطلع الثلاثينات في قيادة حزبنا مندوبا من الكومنترن، القيادة العالمي للأممية الشيوعية، رجل مسن يرغب بالحديث إليكم، فاسمعوا له ولا تناقشوه.

دخل علينا رجل في أواسط السبعينات من العمر فاتح البشرى ازرق العينين فوق شفتيه شوارب بيضاء طويلة، عيونه تشع ذكاء، وانتباها، ومودة.

الرفيق عرف عن نفسه باسم محمود الأطرش،مولود في فلسطين وعاش مع والديه في الجزائر، عمل في صفوف الحزب الشيوعي الجزائري والفرنسي ثم جرى انتدابه للعمل في الكومنترن، مبعوثاً الى مساعدة الأحزاب الشيوعية الناشئة في فلسطين وسوريا. عمل في الحزب بشكل مباشر بين 1933 وحتى 1935 أثناء وجود خالد بكداش في موسكو في المدرسة الحزبية. حدثنا عن نشاط الحزب في هذه الفترة وكيف أنه ساهم في عملية تعريبه، وعن سياسي الفترة من السوريين بالأسماء وعرج الى الحديث عن الكيان الصهيوني قائلا لولا خيانات القادة العرب لما كان هناك شيء اسمه اسرائيل. وان الجيش الجزائري قادر على اجتياحها بأيام لو سمحت الفرصة.

ترك يوسف فيصل في نفسي أثراً سلبياً بالغاً وقلت إذا كان هذا الرجل الشخص الثاني في قيادة الحزب، فإني غير مستعد للعمل تحت قيادته. وفورا بادرت إلى كتابة رسالة أطلب فيها قبول استقالتي من قيادة منظمة لايبزيغ، مع احتفاظي بعضوية الحزب، قائلا إنني لا أستطيع اقناع الرفاق بالفرق الحزبية بصحة برنامج وسياسات الحزب وأنا غير مقتنع بها.


الشيوعي العربي

صبحي أنطون

(من صفحته على الفيسبوك)

طرح في الآونة الأخيرة عدد من الشباب موضوعة (الحزب الشيوعي العربي) التي سبق لها أن طُرحت للنقاش في سبعينيات القرن الماضي لكنها لم تنل حظها من النقاشات والحوارات كما يجب أن تكون. 

على مستوى الحزب الشيوعي السوري طُرحت هذه الموضوعة في اجتماعات المجلس الوطني للحزب المنعقد عام 1971. ومن ثم تأكدت في مشروع البرنامج السياسي للحزب الذي كان من المفترض أن يُعرض على أعمال المؤتمر الرابع للحزب. لا المؤتمر انعقد ولا الموضوعة نوقشت. مشروع البرنامج السياسي هذا وضعته لجنة مؤلفة من خمسة: خالد بكداش رئيسا، يوسف فيصل، موريس صليبي يمثلون تيار بكداش. دانيال نعمة، وبدر الطويل يمثلان التيار المناهض لبكداش. 

دُونت موضوعة الحزب الشيوعي العربي في مقدمة المشروع وفي فصل الوحدة العربية. طُرح المشروع للمناقشة العامة على مستوى الحزب تحضيرا لانعقاد المؤتمر الرابع، وما أن اطلع السوفييت على المشروع حتى قامت قيامتهم واستنفرت قواهم مطالبين الحزب بالتخلي الفوري عن الموضوعة لأنها تخلق لهم إشكالات في سياساتهم الخارجية هم بغنى عنها. من يعرف الشيوعيين السوفييت على حقيقتهم يعرف أنهم (كمن يُسرع الخطى ليلحق بظله). تلبية للموقف السوفييتي هذا أرغى وأزبد خالد بكداش الذي كان رئيسا للجنة التي صاغت المشروع مطالبا إلغاء الموضوعة كليا. 

بعد الأخذ والرد تم الاتفاق على أن تُحذف الموضوعة من فصل الوحدة العربية شرط أن تظل في مقدمة المشروع فقط. لا أدري ما الخوف من فكرة إذا ما طُرحت للنقاش على مستوى الحزب ما دام سيُصار إلى طرحها على المؤتمر الوطني العام للحزب؟ قد يقبل بها المؤتمر وقد يعدل فيها وقد يرفضها. ما الضرر في ذلك؟ لماذا الخوف من الاجتهاد إن في السياسة أو في الفكر أو في التنظيم؟ الاجتهاد شرط أساسي لتخصيب النظرية والعمل السياسي بشكل عام. ليُستخدم العقل الجدلي فاعلا متفاعلا في الحركة السياسية. كان التعليل الذي استخدمه تيار التجديد في الحزب بخصوص موضوعة الحزب الشيوعي العربي هو أن الحزب ما دام يناضل ضمن جغرافية الوطن العربي في سبيل وحدة عربية متقدمة ديمقراطية لا بد أن يكون لهذه الوحدة رافعة سياسية والحزب الشيوعي العربي هو أحد أهم هذه الروافع الذي من المفترض أن يغذي ويقوي قيام الوحدة العربية الديمقراطية وتصون صيرورتها وديمومتها. 

عشنا في البدايات بداية وحدة لأحزاب شيوعية عربية كان يمكن لها أن تعيش وتتطور تحت مُسمى الحزب الشيوعي العربي أو اتحاد الأحزاب الشيوعية العربية. تأسس الحزب الشيوعي السوري والحزب الشيوعي اللبناني في تنظيم واحد عام 1924. عمل مع القيادة السورية اللبنانية عبر المكتب السياسي للحزب الرفيقان محمود الأطرش (أبو داوود) ونجاتي صدقي عضوي المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفلسطيني. الرفيق فؤاد الشمالي الأمين العام الثاني للحزب الشيوعي السوري اللبناني من أصول لبنانية كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري وأحد مؤسسي الحزب الاشتراكي المصري مع المثقف الكبير سلامة موسى. الرفيق عبد القادر اسماعيل أحد قياديي الحزب الشيوعي العراقي شغل موقعا متقدما في قيادة الحزب الشيوعي السوري اللبناني. لو استمرت وحدة مصر وسورية ألم يكن من الضرورة بمكان توحيد الحزب الشيوعي المصري مع الحزب الشيوعي السوري؟ أليست كل هذه المهام المتداولة من حزب إلى حزب كان من الممكن أن تتطور إلى نواة حزب شيوعي عربي أو إلى أعلى أشكال التعاون والتنسيق فيما بينها؟

هذه الفكرة لن تموت أبدا وقد تأخذ أشكالا متعددة في الخلق والإبداع ومدة زمنية أطول حسبما تقتضيه الظروف الموضوعية ونضوج العامل الذاتي للحركة الشيوعية العربية. نعلم جميعا بأن أمراض الحركة الشيوعية العربية اليوم عصية جدا. والإرث مثقل بالانكسارات والانتكاسات الكبيرة وهي تجتر اليوم هزائمها بحيث لا يصح طرح مثل هذا الشعار لأنه سيكون مرفوضا من قبل الجميع. الظاهرة المرة التي نعيشها اليوم ان هناك أحزابا شيوعية باعت نفسها لسلطات الأمر الواقع وهي تشكل رديفا إضافيا لسلطات الأمر الواقع. ومنها أحزاب غادرت الماركسية. 

صار واضحا ومعروفا للجميع بأن الأحزاب الشيوعية تم اختراقها من قبل أشخاص هم فكريا وجوهريا لا علاقة لهم بالحزب لا بل ضد الحزب ووظيفتهم الأساسية حرف الحزب. 

أصبح واجبا فك الارتباطات المشبوهة صونا لشرف الحزب الذي انُتهك على مدى عشرات السنين باسم الجبهة الوطنية التقدمية أو بتحالفات مع قوى إسلاموية. المخاض عسير وعسير جدا اليوم، البديل المتواضع جدا خطوة لا بد منها هو أن يتنادى عدد من الشباب العاملين في البحث الماركسي إلى إصدار مجلة فصلية تبحث في النظرية الماركسية تجديدا وتخصيبا فكرا وممارسة عسى أن تضيء شمعة في آخر النفق وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.


واقع حركة التحرر العربية ومستقبلها

حبيب حداد

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بواكير يقظة حركة التحرر العربية التي تجلت بصورة رئيسة في مصر وبلاد الشام. وكان الهدف الرئيس لتلك اليقظة، في هذه المرحلة، تجديد الثقة بماضي الأمة والاستقلال عن السيطرة العثمانية، ومواصلة السير في طريق

التقدم الحضاري: الفكري والروحي والمادي، وبناء دول مدنية عصرية كما فعلت شعوب أوروبا التي أضحت نموذجا ومركزا في قيادة مسار التقدم العالمي. 

إن استعراضا موضوعيا للمراحل التي قطعتها حركة التحرر العربية، يمكن أن يقودنا إلى تحديد العوامل التي أسهمت في تمكينها من تحقيق بعض أهدافها من جهة، ومعرفة ما أعاق مسيرتها، وأجهض جهودها لاستكمال تحررها الشامل من جهة أخرى. كانت المرحلة الاولى في عملية التحرر والنهضة هي الكفاح من أجل استعادة الوعي وتعزيز الثقة بالذات واسترجاع دروس التاريخ القريب والبعيد لهذه الأمة. أي إن تلك المرحلة كانت مرحلة استعادة الشعور القومي كمحفز أساسي جماعي في مواجهة سياسات التتريك والهيمنة. لقد كانت حركة القومية العربية آنذاك هي التعبير الحي عن طموحات شعوب هذه الامة في مختلف أقطارها نحو الاستقلال والتقدم والوحدة. وكانت في الوقت نفسه حركة تنويرية شعبية تحررية كجزء من حركة التحرر العالمية من أجل الحرية وحق تقرير المصير. لذا كانت بعيدة عن أي نزوع شوفيني أو متعصب تجاه أي من مكوناتها الذاتية أو تجاه أي من شعوب العالم الاخرى.

وبعد الحرب العالمية الأولى، وإذ كان المنتظر ان تحرز اقطار المشرق العربي استقلالها، لكن ما حدث هو انتقال هذه الأقطار من عهد الاستعمار المباشر إلى عهد الانتداب. إذ قامت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بتو زيع السيطرة على هذه الاقطار بدعوى أن هذا الاستعمار الجديد يستهدف ترقيتها وتهيئتها كي تستطيع ان تحكم نفسها بنفسها، وتدير شؤونها كغيرها من الدول المستقلة. وفي هذه المرحلة كما هو معلوم تمثلت حركة القومية العربية، إضافة للوعي الشعبي العام بنشوء الأحزاب السياسية التي مع تعدد مرجعياتها العقائدية والإيديولوجية التقت على هدف عام ومشترك هو تحقيق الاستقلال وإنهاء الوجود الاستعماري المباشر. 

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أحرزت دول المشرق العربي استقلالها الوطني. وعلى صعيد حركة التحرر العربية، ومع تعدد تياراتها أصبح المحور الأساس لكفاحها استكمال مقومات الاستقلال ببناء دول عصرية تؤمِّن الحرية والمساواة والعدالة لجميع مواطنيها دون أي تمييز. هذه الدول التي كان ينتظر منها ان تفتح الآفاق نحو تكامل قدراتها ومصالحها المشتركة على طريق التكامل والوحدة، وكذا في مجال تعزيز الأمن القومي، والدفاع عن قضايا الأمة العادلة، وعلى رأسها القضية المركزية، وهي تحرير فلسطين، ومواجهة المخطط الصهيوني الإمبريالي الهادف إلى تكريس واقع التخلف والتجزئة والتبعية لمجتمعاتنا.

هذه هي المعركة الفعلية التي ما تزال تخوضها شعوبنا، إنها معركة التحرر المجتمعي، وبناء دول ديمقراطية حديثة. ومع أن بعض الدول العربية قطعت بعد نيل استقلالها خطوات مهمة في مجال توفير الأسس الدستورية والشعبية لممارسة الحياة الديمقراطية، إلا أنها لم تتمكن من مواصلة هذه العملية، وعلى النقيض من ذلك فقد شهدت تراجعات كبيرة، وارتدادات خطيرة على غير صعيد، وفي أكثر من بلد عربي!

ففي مصر وسورية والعراق والجزائر التي تشكل الأعمدة الرئيسة في كيان الامة من حيث عمقها الحضاري وإمكاناتها، وطاقاتها البشرية، والمادية رأينا أن تجارب بناء أنظمة ديمقراطية في كل منها قد أخفقت سواء بسبب الانقلابات العسكرية، أم بواسطة هيمنة الجيش بصورة غير مباشرة على الحياة العامة، أم عن طريق الغزو والاحتلال المباشر كما حدث للعراق. هذا الوضع هو الذي أدى إلى غياب أية صيغة فعالة للعمل العربي المشترك، وخاصة بعد أن أصبحت مؤسسة الجامعة العربية تحت الهيمنة الكاملة لكيانات الخليج البترولية. 

لقد وجدت الإدارة الأمريكية في هذا الواقع فرصتها الذهبية كي تطرح مخططها تحت عنوان: صفقة القرن، الرامي لتصفية القضية الفلسطينية، وتنفيذ مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي يضم مجموع الانظمة المطبعة مع إسرائيل في حلف جديد تتزعمه إسرائيل طبعا بحيث ينهي هذا الحلف إذا ما تمت إقامته أي صيغ أخرى تتعلق بالتضامن العربي او بالعمل العربي المشترك. لذا ونحن اليوم في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يظل السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان، وأعاد طرحه الكثيرون من رواد عصر النهضة، مطروحا وإن بصيغة الحاضر، أي لماذا يتقدم الآخرون، ونستمر في التخلف نحن العرب والمسلمين؟! سيظل هذا السؤال مطروحًا ا علينا: وعلى شعوبنا وعلى نخبنا الفكرية وحركاتنا السياسية، كي نستطيع كما يرى عبد الله العلايلي أن نشخص الخطأ ونبني على الحلول المجدية لتجاوز أزماتنا المزمنة!

إن بنية التخلف العام في مجتمعاتنا العربية وفي ضوء المشروعات والمناهج والسياسات التي استخدمت حتى الآن لتجاوز هذا الوضع، وَلم تفلح، ما تزال تستدعي من جميع النخب الفكرية والسياسية القيام بمراجعات نقدية شاملة للتجارب التي مرت بها في نطاق كيان كل قطر وعلى الصعيد العربي العام، واستيعاب النتائج والتطورات التي شهدها المجتمع الدولي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فهناك كما أسلفنا في أكثر من موضع ومنعطف قضايا وإشكاليات وقفت كعوائق مثبطة في طريق انجاز أهداف المشروع النهضوي لكل من أقطار هذه الأمة أو على الصعيد العربي العام. 

وفي مقدمة تلك الإشكاليات التي ماتزال حتى اليوم لا تقابل بمستوى الوعي المطلوب للتعامل معها، ما اصطلحت على تسميته شخصيا بجدل الثنائيات في الفكر العربي المعاصر مثل: ماهية الهوية الوطنية السورية، أو غيرها، والهوية العروبية، الاصالة والمعاصرة، الديمقراطية والليبرالية العلمانية والدين، العودة إلى التراث أو القطع معه. الخصوصية والعالمية، الموقف من القيم الحضارية الكونية المشتركة. وغيرذلك. لقد كان هدف المشروع النهضوي العربي وما يزال هو إحداث نقلة نوعية في التقدم الحضاري لشعوب هذه الامة ومجتمعاتها، بحيث تواكب المسار العالمي في هذا الميدان. لذا فإن بناء أنظمة وطنية ديمقراطية في كل من أقطار الأمة ليس غاية بحد ذاته. 

كما أن قيام خطوات وحدوية أو اتحادية بين هذه الاقطار ليس هدفا بحد ذاته أيضًا. ذلك أن الغاية الاساسية والهدف المطلوب من تلك الإنجازات هو شعور المواطن وبالتالي الشعب في كل من هذه الأقطار بإنسانيته وأنه في مجتمع متحضر وبيئة قادرة على تلبية حاجاته المادية والروحية والتمسك بالقيم الإنسانية المشتركة.

وعلى هذا، وكما رأى قسطنطين زريق، تتأكد أهمية وجود نخب مثقفة متسلحة بالقيم الخلقية والمناهج العلمية في وعيها وسلوكها. نخب مؤهلة لقيادة شعوبها نحو مستقبل أفضل. فإن تسلحت شعوبنا ونخبها الفكرية والسياسية بمستوى من الوعي والالتزام، يمكنها تجاوز واقعها المتخلف والانتصار في معارك التنمية المستدامة والتقدم الحضاري. 

من هنا تتأكد لنا ضرورة أن تكون الجبهة الاساسية في المعركة الشاملة التي تخوضها مجتمعاتنا اليوم، لتجاوز واقعها المتخلف، هي جبهة الثقافة والتنوير. التي تمكن هذه المجتمعات من مواكبة مسار العصر.


مختارات من دفاتر السجن، عن الدولة والمجتمع المدني

أنطونيو غرامشي

ترجمة رامز مكرم باكير

كُتب النص بين عامي ١٩٣٠-١٩٣٤

ملاحظات عن هياكل الأحزاب السياسية في فترات الأزمة العضوية، المقال الأول:

في مرحلةٍ تاريخيةٍ معينة، تنفصل الطبقات الاجتماعية عن أحزابها التقليدية.  وبعبارة أخرى، تصبح هذه الأحزاب التقليدية في شكلها التنظيمي، مع هؤلاء الذين يشكلونها ويمثلونها ويقودونها، غير معترف بها من قبل الطبقات او الشرائح الطبقية التي تعبير عنها.  

فعندما تحدث مثل هذه الأزمات في التمثيل، يصبح الوضع حساسًا وخطيرًا، لأن المجال العام يصبح مفتوحاً على جميع الاحتمالات، ومنها العنف، وأنشطة القوى المجهولة “الخلايا النائمة”، المتمثلة في “رجال المصير الابطال” ذو الكاريزما والحضور المؤثر.

تتردد أصداء حالات الصراع هذه بين “الممثَّلين والممثِّلين” في كافة الأحزاب، وينتقل هذا الصدى الى (المنظمات الحزبية، المجال الانتخابي البرلماني، الصحافة) ومن ثم الى كافة تنظيمات وقطاعات الدولة، مما يؤدي الى تعزيز السلطة النسبية لبيروقراطية الدولة (سواء المدنية او العسكرية)، والتي عادةً ما تكون ذات تمويل ضخم، من الكنيسة او المؤسسة الدينية بشكلٍ خاص (كما هو الحال في إيطاليا وقتها)، ومن جميع الهيئات المستقلة نسبيًا عن تقلبات الرأي العام.  

ولكن أولاً! 

كيف تنشأ هذه الإشكالات؟  

تختلف العملية من بلد الى آخر، على الرغم من أن الشكل هو نفسه.  والمضمون هو أزمة هيمنة الطبقة الحاكمة. وتحدث ازمة هيمنة الطبقة الحاكمة إما لأن الطبقة الحاكمة فشلت في بعض المشاريع السياسية الكبرى والتي طُلبت منها، أو عندما تنتزع بالقوة والإكراه تمثيل الجماهير العريضة (كالوصول للحكم عن طريق انتصار عسكري، على سبيل المثال)، أو لأن الجماهير العريضة (خاصة من الفلاحين والمثقفين البرجوازيين الصغار) قد انتقلت فجأة من حالة من السلبية السياسية إلى نشاط معين، وبدأوا بطرح مطالب معينة، وإن لم تكن هذه المطالب مصاغة بشكل “عضوي”، والتي قد يؤدي تراكمها إلى ثورة.

يتم الحديث عن “أزمة سلطة” على إنها وعلى وجه التحديد أزمة هيمنة، أو بشكلٍ عام على انها ازمة الدولة.

تخلق الأزمة أوضاعًا خطيرة على المدى القصير، نظرًا لأن الطبقات المختلفة من السكان ليست جميعها قادرة على توجيه نفسها أو إعادة التنظيم بنفس الإيقاع.  بينما الطبقة الحاكمة التقليدية، والتي دربت العديد من الكوادر، وليها خبرات أكبر في التنظيم، قادة وبسرعة أكبر مما حققته الطبقات التابعة، ان تستعيد السيطرة التي قد تنزلق من قبضتها.  وربما يقدمون تضحيات، ويعرضون نفسهم لمستقبل غامض بوعود ديماغوجية.  لكنهم يحتفظون بالسلطة ويعزونها في حاضرهم بل ويستخدموها لسحق خصومهم وتشتيت كوادرهم القيادية التي لا يمكن أن تكون كثيرة أو مدربة تدريباً عالياً وذات خبرات.  

إن تنظيم العديد من الأحزاب المختلفة تحت رايةِ حزبٍ واحد، والذي قد يمثل بشكل أفضل مطالب الطبقة بأكملها، هو ظاهرة عضوية وطبيعية، حتى ولو كان إيقاعها سريعًا للغاية بالمقارنة مع فترات الهدوء والاستقرار.  

فحدثٍ كهذا يمثل اندماج طبقة اجتماعية بأكملها تحت قيادة موحدة، والتي وحدها تكون قادرة على حل مشكلاتها ودرء أي خطر مميت قد يهدد وجودها.

وعند غياب الحل العضوي لمثل هذه الأزمات، يتم اللجوء الى حل انتاج شخصية قيادية ذات حضور وشخصية كارزماتية، مما يعني إيجاد توازن ثابت (قد تكون عوامله متباينة، ولكن العامل الحاسم للجوء لمثل هكذا حل هو عدم نضج القوى التقدمية)؛ هذا يعني أنه لا توجد جماعات، من المحافظون ولا التقدميون، لديها القوة الكافية للنصر، وحتى الجماعات المحافظة تحتاج إلى قائد.  

إن هذا الترتيب في نشأة وتنظيم القوى السياسية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسائل المتعلقة بالحزب السياسي، وقدرة الحزب على تفادي الوقوع في حكم العادة والمضي إلى حالة التحنيط والانفصال عن واقعه الطبقي والسياق التاريخي للمرحلة. فالأحزاب تنشأ، وتشكل نفسها كمنظمات، من أجل التأثير على الوضع في اللحظات التي تعتبر حيوية تاريخياً لتمثيل فئاتها؛ وليس عندما تصبح أقل قدرة على التكيف مع المهام الجديدة والعهود الجديدة، ولا التطور في علاقات القوى الشاملة (ومكانتها النسبية من الطبقة التي تمثلها) في البلد المعني، أو في المجال الدولي.  

عند تحليل تطور الأحزاب، من الضروري التمييز بين: مكونات هذه الاحزاب الاجتماعية، وعضويتهم الجماعية “بيروقراطيتهم وأركانهم العامة”.

إن البيروقراطية هي أخطر قوة محصورة ومحافظة.  وإذا ما انتهى الأمر بتشكيل جسم، يقف من تلقاء نفسه ويشعر بأنه مستقل عن كتلة أعضائه، يكون قد انتهى هذا الحزب ويكون قد عفا عليه الزمن، وفي وقت الأزمات يتم تجريده من محتواه الاجتماعي ويترك كما لو كان معلقًا.  في الجو.  وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك، أبرزها ما حدث لعدد من الأحزاب الألمانية نتيجة لتوسع النازية الهتلرية.  

وتعتبر الأحزاب الفرنسية أمثلة جيدة على هذه الأحزاب ايضاً: فهي كلها احزاب محنطة وعفا عليها الزمن -تلك الأحزاب التي لا تزال تكرر نفس خطاباتها وطرقها القديمة؛ ويمكن أن تصبح أزماتهم أكثر كارثية من أزمة الأحزاب الألمانية.


محاولة في دراسة فكر ماوتسي تونغ

رامز مكرم باكير

لمحة عامة: 

آمن ماو تسي تونغ بضرورة النهوض بالصين، وإرساء نظام ذو بنية صناعية ضخمة تنافس الدول الصناعية الكبرى بأي  ثمن، والنهوض بالصين وجعلها قوة إقليمية ودولية. وفي عام ١٩١٧، وبعد نجاح تجربة ثورة أكتوبر بقيادة فلاديمير لينين والحزب البلشفي، الانتصار الذي أدى إلى تشكّل الاتحاد السوفييتي عام ١٩٢٢، تلك الانتصار الذي سيغير النظام العالمي وتصوراتنا عما هو ممكن تحقيقه تحت حكم قيادة شيوعية ولو لفترة قصيرة. بعدها بسنوات قليلة أصبح ماو تسي تونغ واحد من المُنضمين الاوائل للحزب الشيوعي الصيني الذي تأسس عام ١٩٢١، واستقال من حزبه الحزب الحاكم وقتها الحزب الوطني (الكومينتانغ)، بعد أن شاهد أفكار فلاديمير لينين وهي تؤتي ثمارها ليس ببعيدٍ جداً عن الصين، فزاد ايمان ماو بالماركسية، وأن الوقت قد حان لإعادة بعض السلطة لشعب الصين، وخاصة المزارعين الذين كانوا يشكلون الشريحة الأكبر من سكان البلاد، وفيما بعد أصبحوا القاعدة الجماهيرية للحزب الشيوعي الصيني. 

لم يصبح ماو ذلك القائد، ويخلد لنفس مكان بين انصاف الالهة او الطغاة العظام مثل،” المعلم الأول” ستالين، وطغاة على شاكلة (كيِم إل سونغ) فقط لأنه استطاع تأسيس الجيش الأحمر، وزحفه العظيم على أعدائه وسحقهم بالكامل ودون هوادة. فقد كان ماو أمين  مكتبة قبل أن يصبح ثورياً، وكان وصاحب فكر ومثقفاً من العيار الثقيل، مما مكنه من خطف وعي الجماهير وعقولهم قبل أن يدخل الرعب في قلوبهم. 

كان لماو إسهامات فكرية نظرية كبيرة، حيث بنى فيها على أفكار اسلافه من ماركس وأنجلز ولينين. وقدم تصوراته عن كيفية التنظيم الحزبي وخاصة على المستوى الشعبي، ورؤيته عن التقسيم الطبقي في الصين، وطور من أساليب مواجهة الامبريالية وأذرعها. ولعل من أهم هذه الإسهامات الفكرية وأبرزها نظرية مآو المادية الديالكتيكية، والتي تشكل الحجر الأساس للفكر الثوري الماوي.

مادية ماو: 

يبدأ ماو بالنظر إلى أن التاريخ، تاريخ الفلسفة تحديداً، على أنه ينقسم إلى معسكرين عريضين: المعسكر المثالي والمعسكر المادي. ويصف المثالية باعتبارها الأشياء المجردة، والتي تشمل (الوعي والمفاهيم وكل ما هو موضوعي)، وتكون الأرواح في هذا المعسكر المصدر لكل ما هو موجود. وبالتالي يكون فيهِ عالم الاشياء أو الموجودات (الطبيعة، المجتمع، الثروة، الموارد) اشياء ثانوية، وبكل بساطة. بينما في المعسكر المادي، تعترف المادية بالوجود المستقل والمنفصل عن الروح، وتعتبر الروح أو عالم المُثل ثانوياً.

وتركز النزعة المثالية في الدرجة الأولى على الأشياء التي لا وجود لها في العالم المادي ككل (مثل وجود الالهة والأرواح) أو هل هناك شيء مثل “عالم الأرواح” أو “الروح المطلقة” كالتي في مثاليات هيغل على سبيل المثال؟ وهل الوعي أو الإدراك هو الذي يحدد ماهية العالم؟ فالنزعة المثالية تنظر إلى العالم من منظور ماذا يمكننا أن نعرف عن هذا العالم؟ فنحن ندرك وجودنا فيه، ونتأثر به ونؤثر فيه ونتحرك معه. فهل هذا العالم هو الذي خلقنا وكوننا، أم نحن الذين نكونه ونشكله في وعينا؟ ام ان هناك خالق هو المسبب الأول لكل ما هو موجود؟

يعزو ماو هذا الانقسام بين النزعتين المادية والمثالية إلى الانقسام الطبقي في المجتمعات. فالطبقة الرفيعة أو العليا لديها قدر معين من الامتيازات، والتي تمكنها من تفادي مشاق الحياة اليومية، مما يتيح لهم الراحة والكثير من الوقت للتفكير والتأمل في أمورٍ ليست بالضرورة ذات علاقة بالعالم المادي المُعاش. ويتجسد ذلك في صورة “الفيلسوف على الصوفاية”، مرتاحاً في هذه الجلسة الوقورة والجليلة، متأملا الوضع البشري والكون، ومفاهيم الحقيقة والعدالة وما إلى ذلك من المسائل الوجودية. 

بينما تهتم الطبقات الدنيا بالمادية، لأن هذه هي حياتهم. يومٌ بعد يوم يقضون معظم أوقاتهم في المعامل او في المزارع يحرثون التربة، وعلى احتكاك مع الأرض والناس الآخرين، وبصراع دائم ومشترك للبقاء على قيد الحياة. لذلك ليس لديهم نفس الوقت والامتيازات للتأمل في مسائل الوجود والمثل والحقائق العليا. فوجودهم مشروط بالصراع للبقاء وتأمين حاجياتهم الاولية وليس بالسعي لمعرفة ماهية وجودهم. لذا فإن نوع المعرفة المتاحة للطبقة الدنيا من عمال وفلاحين، أو الطبقات المُستغلة، قد تنطوي على أشياء دنيوية نوعا ما، والتي تنبع من الحاجة الملحة والدائمة، ولجعل حياتهم ومعاناتهم أسهل قليلا (كتعلم كيفية تقليب التربة بمساعدة حيوان، أو صناعة العربات البدائية لتسهيل النقل) وهذا التطور لم يحدث من قبل الطبقات العليا، بل حدث نتيجة تراكم الخبرات والعمل الدؤوب للطبقة العاملة. ولم يأت من قبل هؤلاء المتنعمين الذين يقضون معظم حياتهم في التفكير والتأمل والانغماس الذاتي، والايمان ان بالفكر والمنطق وحدهما يمكن الوصول إلى المعرفة وحقيقة الأشياء.  فتطور الانتاج مشروط بالحاجة الملحة وشروط البقاء، عندما تكون هناك مشاكل معينة تعترض سير العمل ويصبح من المهم التحايل عليها وحلها، من خلال التجارب والأخطاء trial and error. لتأتي لاحقاً البراهين الرياضية المجردة، وتتبنى انجازاتهم وتبني عليها.

ويرى المثالي أن تقسيم العمل والسيطرة على الانتاج ضرورة ملحة، لأن ذلك يعطيه قدراً معيناً من الامتياز. (باحتكاره الحقائق والمفاهيم والأفكار) التي تنبثق من قاعدته المعرفية، وادعائه هذه الإنجازات التاريخية للطبقة العاملة، بينما يجلس هو على الصوفاية المنفصلة عن العالم الحقيقي، يفكر ويخطط في كيفية الحفاظ على هذه العلاقات الاجتماعية حتى يتمكن من الاستمرار في الازدهار في هذه الظروف المادية، وخاصةً عن طريق ترسيخ الطبقية في المجتمع. ويبررون ذلك بالقول إن الحقائق التي يأتون بها هي حقائق كونية وسابقة للوجود، وتصلح لكل مكان وزمان ولأيٍّ كان، وهي من بديهيّات الأشياء.

يرى ماو في هذه الأنماط من التفكير قمة الرجعية والتخلف، لأن هذه الحقائق لا يمكن الوصول إليها إلا شريحة ضئيلة جدا من المجتمع. فكيف يمكننا أن نعتبرها حقائق كونية. في حين أن المادية هي الشيء الذي ينخرط فيه المجتمع بأسره، وهي أكثر عمومية وأكثر كونية مقارنة بالمثالية. ويرى ايضاً ان المادية الجدلية أو الديالكتيكية هي نوع من العلاج للمثالية. لأنها لا تسمح لهذه العوامل الاجتماعية والمادية أن تعزز أو ترسخ هذا النوع من التفوق الطبقي والعلاقات الاجتماعية. وخاصة من خلال رفض القيم المثالية والتفكير الاسطوري. يُرجِع ماو احتمالية ظهور الفكر المثالي بأن الناس لم يكن لديهم الأدوات المعرفة او التقنية لفهم العالم الخارجي. لذا كان عليهم أن يبحثوا في عالم الأرواح والالهة والماورائيات.  لإعطائهم تفسير عما هو بعيد عن متناولهم وماهية وجودهم. بينما الآن، ومع تطور الإنتاج وعلاقات الإنتاج، طور الناس الوسائل اللازمة لفهم العالم.

وكما يقول ماو ” أصبح لديهم العزم على فك فتيل الدين والخرافات والانفتاح على العالم المادي”.

فالمادية الجدلية أو الديالكتيكية تحدد لنا ماهية المعرفة، وأن الظروف الاجتماعية الحقيقية والمادية هي العواميد الأساسية للمعرفة الانسانية. وهكذا استطاع ماو أن يتوصل إلى حقيقة أن الجدلية المادية هي النظرية العلمية الوحيدة إبستيمياً، لأن العلم يهتم إلى حد بعيد بالأحوال المادية للكون، من خلال دراسة المسببات والنتائج، ومن خلال الرصد والمراقبة وطرح الفرضيات واختبارها ورؤية مدى صحتها. بهذه الطريقة فقط يصبح الديالكتيك المادي هو علم الدراسة المادية لنظرية المعرفة. 

يضع ماو بين يدينا خطوتين لتطبيق المادية الماوية: 

أولاً: أن نعترف بأن العالم موجود بشكل مستقل عن وعينا، وله وجوده الخاص المنفصل عن وجودنا. 

ثانيًا: أن نعترف بأن كل شيء في الكون في حالة حركة وتغير وتطور دائم.  وهذا هو الجانب الديالكتيكي من فكر ماو. فالجدلية تعني الصراع بين فكرة ما (أطروحة/thesis) وفكرة معارضة (النقيض/antithesis)، ويكونان في حالة تنافر أو يخضعان لقوة تنافر عكسي، ولكن في حال حصل اتصال أو التحام بين الاثنين، فإن هذا التصادم يؤدي إلى تشكيل توليفة جديدة أو مركب جديد (مركب/synthesis)، هذا المكب يعود بدوره ليأخذ شكل أو دور الأطروحة (أطروحة/thesis)، ليتشكل له نقيض جديد يعارضه ويحاول نفيه بعد ذلك، وهكذا تتكرر الدورة الديالكتيكية. وهذا ينطبق على حركة وسيرورة المجتمع والتاريخ، فهما في حالة تطور وتغير دائم. وما أن تطرأ تطورات كبيرة، تظهر صدامات وصراعات جديدة، وهكذا.

هنا يعكس ماو المثالية، التي تحاول ترسيخ الدوغمائية وإضفاء الطابع الكوني على المفاهيم والأشياء. وتقوض التطور ورؤية العالم بشروطه الخاصة وماديته، لوليس من خلال “الروح المطلقة” أو كما يسميه ماو “روح العالم” هذا الشيء التجريدي الذي لا يمت للعالم بصلة.  

فالماوية تهدف إلى رؤية تقدمية والتيلوجية (teleological) تتحرى وتتفكر في هذا العالم، وتقدم للبشرية، هذا المجتمع البشري الذي يجسد أعلى وأرفع أشكال المادة “المجتمع” (the highest form of the motion of intellectualised matter)، فالبشر هم أعلى أشكال حركة المادة الفكرية العظيمة بكلمات ماو تسي تونغ.


 

لقراءة أعداد جريدة المسار اضغط هنا