الدكتور جون نسطة
في بداية شهر تشرين أول 1961 عدنا إلى الدراسة مجددا في الصف الثاني طب.
كانت المحاضرات كثيفة ومتعبة كان على ان اسمع وان اكتب ما فهمت وكان ذلك ليس كثيرا بسبب سرعة كلام الأستاذ المحاضر لذلك قررت ان لا أداوم على حضور تلك المحاضرات ما عدا محاضرات التشريح التي كان يلقيها أستاذ بارع صاحب معلومات عامة هامة جدآ، ممتع، يجعلك مشدودا إلى سماعه ومتفهما لما يقول ويشرح. اسمه البروفيسور ليونارد وهو إنسان لا ينسى.
كنت أذهب الى محاضرات الفروع المختلفة مرة واحدة للتعرف على وجوه الأساتذة فقط لاغير.ووضعت لنفسي برنامجا، بعد.ان اشتريت كتب كل الفروع المختلفة بان ادرس من الساعة الخامسة بعد الظهر الى الساعة العاشرة ليلا يوميا وبعدها اذهب الى سهرات الملاهي والمطاعم أو الى سهرات الأصدقاء والرفاق والنقاشات السياسية التي لا تنتهي.كنت طبعا أستيقظ عند الظهيرة، أغتسل وأذهب لشراء المواد الغذائية التي أحتاجها او نحتاجها، حيث كنا نطبخ سوية ونأكل سوية، وطبعا عون كان متفوقا علي بمراحل، وعليه تقع جل اعمال الطبخ.
كنت طبعا أتابع اخبار الوطن والتطورات السياسية بدقة، رغم انكبابي على الدراسة ووصولي الى القناعة بأن اختياري لدراسة الطب كان صحيحا، اذ بدأت تنشأ علاقة حب وهوى بيني وبين مواد هذا العلم الشيق.إن معرفة تركيبة الجسم البشري، وآليات وظائفه، وطريقة عملها واكتشاف عمل الخلايا وتخصصها في تركيب كل جهاز من أجهزة الجسم ،وكشف أسرار عملها، وخضوعها لأوامر الدماغ والغدد الصماء، بعلاقة معقدة بين الكيمياء والفيزياء،كل ذلك يشكل أجوبة على تساؤلات الإنسان العادي، الذي لم يتاح له دراسة الطب.
كان الحزب في بداية مرحلة الانفصال يطالب بإطلاق سراح معتقليه في سجن المزة، ويحاول أيضا أن يسمح لأمينه العام بالقدوم الى دمشق، رغم موقفه بمباركة عملية الانفصال وتأييدها الكامل. وكان الأمين العام خالد بكداش يطالب قيادة الحزب في الداخل أن تنظم عملية استقباله في المطار بحشد يضم الآلاف من الرفاق والاصدقاء،وهذا لم يكن ممكنا،وغير واقعي، بعد خروج الحزب مثقل الجراح،في معركته مع نظام الوحدة.
أصدر الحزب مشروعه السياسي في عهد الانفصال، مؤلفا من صفحتين لا أكثر، قدم فيه تنازلات خطيرة أمام البورجوازية السورية، فيما يتعلق بإعادة النظر بقرارات التأميم الصادرة بعهد الوحدة، وأعلن تمسكه بالإصلاح الزراعي. وأخذت من المشروع موقفا معارضا في داخلي.
كان الحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة نيكيتا خروتشوف، يقدم أطروحات جديدة وجريئة فيما يتعلق بالتعايش السلمي ،ونزع السلاح ،وإمكانية الوصول إلى الإشتراكية بطرق متعددة،ومنها السلمية عن طريق الانتخابات البرلمانية،ومنها الدخول الى طريق التطور اللارأسمالي.
كان الرفيق خالد بكداش غير منسجماً مع هذه المواقف،وكان يكره خروتشوف في أعماق نفسه،وكثيرا ما كانت زوجته ام عمار،على ماسمعت،تدعو عليه بالحمى والموت.
كنت أقرأ بشغف خطابات خروتشوف،وأعتبره قائداً فذاً ،يمكن أن ينقل الاتحاد السوفيتي إلى مجتمع حديث، وبالخروج من المرحلة الستالينية الممقوتة،داخلياً وعلى النطاق العالمي والاوربي خاصة.
في العام 1963 وصل الى مدينة لايبزغ شاب في وسط الثلاثينات أو بداياتها،لدراسة اللغة الألمانية،يدعى نايف بلوز.
ومن ثم للحصول على دكتوراه في الفلسفة. مبعوثا من الحزب طبعا.
كان هذا الرجل مثقفا موسوعيا من الطراز الأول، بالنسبة إلى عامة أعضاء الحزب،وقيادته خصوصاً. يتبع أسلوباً خاصا بالنقاش،يستدرجك لطرح افكارك أو بضاعتك، ثم ينقض، وأحيانا بشكل مضحك، أو ساخر، عليها لتفتيتها الى عناصر أولية، مثبتا عدم نجاعتها أو غلطها من الأساس. كان صاحب فكر نقدي بإمتياز.
نشأت بيننا علاقة صداقة متينة جدا، نظرا لاتفاق الكيمياء، وتشابه الامزجة عموماً. فموقفي النقدي من الأمين العام، ومن برنامج الحزب في فترة الانفصال، ومن طريق التطور إلى الاشتراكية عبر التطور اللارأسمالي. فسأبدأ من الإشارة في هذا المجال إلى أن المرحوم نايف كان يحمل دبلوم في الفلسفة من جامعة دمشق، وكان بيتهم في دمشق يستضيف دوماً، أعضاء من القيادة المركزية للحزب وخصوصا نقولا الشاوي وفرج الله الحلو ويوسف فيصل ودانيال نعمة وغيرهم كثير، وهو يعرفهم بالتالي عن قرب،على عكسي أنا،حيث قدمت من منظمة طلابية في مدينة حمص.
وأخيرا وليس آخراً، كان يكبرني بتسعة سنوات من العمر.
بدأنا. نتفق بأن هكذا حزب يقاد بعقلية عبادة الفرد،وبقيادة جاهلة في العلم الماركسي ومنصاعة بدون نقاش لأوامر الأمين العام ،ليس له مستقبل على النطاق العام.
بعد فترة قصيرة خرجنا بشكل خجول الى العلن ضمن رفاق المنظمة في لايبزيغ.وركزنا بالدرجة الأولى على موضوع عبادة الفرد وتفرد الرفيق خالد بالزعامة المطلقة. وتفرد الرفيق نايف بضرب أول معول في هذا الصنم المعبود،وبدأت انا بالتحدث مع بعض الرفاق الواعيين حول هذه الأمور.
في صيف العام الدراسي 1964، سافرنا أنا وصديقي عون جبور بالقطار إلى مدينة اسطنبول، بقصد لقاء أهلنا هناك. والموضوع بدأ بأن والدتي اشتاقت الي كثيرا بعد مرور خمسة سنين على آخر لقاء. وسألت اذا كان من الممكن زيارتي في لايبزيغ، طبعا الأوضاع المتواضعة فيها، كانت لا تسمح، فاقترحت عليها ان يكون في اسطنبول، وكان زميلي عون أيضا موافقا وتكلم مع والديه،اللذين قررا القدوم،وجرى التفاهم مع والدتي حول زمان الموعد وحول عنوان الفندق.
قدمت والدتي إلى اسطنبول بالطائرة، قدم والدي عون بالباص، وكنا نحن الاثنين في استقبالهم. كانت حرارة اللقاء عالية وفرحته أعلى، وسعدنا أية سعادة. قضينا في هذه المدينة، رائعة الجمال، فترة ثلاثة أسابيع تعرفنا فيها الى معالم اسطنبول الأساسية.
قبل موعد العودة بأيام قليلة، قدم إلى الفندق شاب حلبي، من ألمانيا حيث اشترى هناك سيارة اوبل مستعملة يريد العودة بها الى حلب.
عرض على والدي عون أن يرافقوه بهذه السفرة من اسطنبول إلى حلب،وكعادة تجار حلب،طلب تقاسم تكاليف البنزين بينهم،فوافق على الفور،بدلا عن العودة بالباص.
كانت والدتي،المشهود لها في أوساط مجتمعها الحمصي، بالجمال والوسامة، بالذكاء واللباقة، باللطف والتهذيب، بحرارة العاطفة والتعاطف، تملك في حقيبتها بطاقة العودة بالطائرة، ومع ذلك صارحتني برغبتها بمشاركة الجميع بالعودة معهم بسيارة هذا الحلبي، الذي لم أعد أذكر اسمه، حرصا منها على مشاعر أهل صديقي عون من أن تجرح،هي بالطائرة، وهم متواضعي الحال بالسيارة.
ولجهلي بالجغرافيا، بعدم معرفتي بطول الطريق الذي يتجاوز 1200 كم، وافقت فورا وامتدحت مشاعرها الرقيقة.
سألتها ماذا تفعلين ببطاقة الطائره قالت نمزقها.
وفي اليوم الموعود المشؤوم ودعنا بعضنا البعض مع ذرف الدموع وتقبيل الخدود والأيادي وطلب الرضى، وتوجهوا هم يقصدون حلب، وقررنا أنا وعون أن نبقى عدة أيام في اسطنبول، رغبة منا التعرف والتمتع بأجواء ليل المدينة الحمراء.
وفي اليوم التالي رن جرس الهاتف في الفندق، واذا بموظف في السفارة السورية على الخط يطلب منا السفر فورا الى أنقرة ومقابلة القنصل هناك. لقد شعرت فورا بالمصاب وبالكارثة مع عدم تصور حدودها طبعا. قام القنصل باعلامنا بما حدث.ليلا وقبل وصول السيارة الى أنقرة بعدة كيلو مترات، اصطدمت السيارة التي فيها أهليكم بسيارة شاحنة متوقفة على جانب الطريق، وبدون إضاءة.
انفتح باب السائق على اليسار، وخرج من السيارة بدون اصابات تذكر. ووالدتي خلفه بقيت على الحياة مع فقدان الوعي نتيجة الصدمة، اما والدي رفيقي عون فقد توفوا على الفور على يمين السيارة.
سألنا القنصل عن مدى استعدادنا لمقابلة السائق، وعن مدى استعدادنا بالتنازل عن حقنا الجنائي تجاهه.
وافقنا عون وانا بالتنازل عن اي تعويض، لان ذلك لا يعيد اهالينا الى الحياة، وقبلنا أيضا بمقابلة السائق.
نظرا لشعورنا بأنه غير مذنب، ولتمتعنا بعقلانية اكتسبناها من مجتمع ألمانيا الديموقراطية المتقدم.
قام صاحب وسائق السيارة، بتقديم العزاء وأبدى الأسف الشديد لما حصل، مع حرصه على تقديم الشكر والاعتراف بالجميل لتنازلنا عن حقوقنا الشخصية أمام المدعي العام التركي، ثم شرح لنا ما جرى ملقيا اللوم على سائق الشاحنة الذي أوقفها على جانب الطريق دون أية إضاءة أو علامة تنبيه.وقال مبديا غضبه وانزعاجه الشديد من تصرف سائق ومرافق سيارة الإسعاف الذين وصلوا الى مكان الحادث وامتناعهم عن نقل الضحايا عندما علموا بأنهم مسيحيون، بحجة نجاستهم.
شيء صادم ولا يوصف بكلمات عن تخلف عقلية، وقناعات طائفية متزمتة من أناس يعملون في حقل إنساني إغاثي. المهم جرى نقل الضحايا المصابون بباص عابر، بوضعهم على أرضه. وأعلمنا بأن والدتي لا تزال على قيد الحياة،وتعالج في المستشفى الوطني لمدينة انقرة.
هرعنا على الفور إلى هناك، فوجدتها بحالة غيبوبة، ولكنها فتحت عيناها وتبسمت حين سماعها لصوتي.
سالت الطبيب المعالج عن خطة العلاج، فأجاب بانه ينصح ،بان يقوم جراح عصبية بمتابعة علاجها.
بحثنا عن طبيب اختصاصه جراحة الجملة العصبية، فأعطونا عنوان منزل بروفيسور يقيم ليس بعيدا عن حيث كنا، ذهبنا إلى هناك، وكانت الساعة تشير الى الساعة العاشرة ليلا، وطرقنا الباب فخرج منه الجراح بنفسه، فشرحت له بالانكليزية الوضع الذي نحن فيه، فقال أنه لا يعالج مرضاه في المشافي الحكومية او البلدية، وإنما فقط في المشافي الخاصة، وأعطاني عنوان مشفى خاص، علي أن انقل والدتي المصابة إليه.
في صباح اليوم الثاني كان علي تأمين سيارة إسعاف، تقوم بهذه المهمة.اكتشفنا بأن مدينة انقرة، العاصمة التركية، كلها ليس لديها إلا سيارتي إسعاف فقط. وكانت معركة أخرى بان نحصل على إحدى السيارتين.
ولكي لا أطيل، وربما قد أطلت، قامت سيارة إسعاف بنقل الوالدة الى المستشفى الخاص، وهناك كانت الطامة الكبرى. فلقد امتنعت إدارة المشفى عن استقبالها، الا بتقديم مبلغ خيالي من المال.
كانت ذخيرتنا من المال قد مالت الى النضوب، أو قد نضبت، بعد كل هذه المدة من اقامتنا في تركيا. ما العمل؟
ذهبنا الى بيوت طلاب يسكنها عرب شارحين أزمتنا ووضعنا المأساوي، فما كان للشهامة العربية إلا أن تفصح عن نفسها، فقاموا على وجه السرعة بجمع المبلغ المطلوب من بعضهم البعض. وسارعنا به، بعد الشكر والامتنان، الى المشفى، طالبين اعلام البروفيسور بوجودها عندهم.فقالوا انه يقوم حالياً بإجراء عملياته الجراحية، ولن بتمكن من معاينتها إلا بعد الظهر. ذهبنا الى فندقنا بقصد الراحة قليلا، ولم يمضي وقتا طويلا، إلا ان اتصل المشفى واعلمني بوفاة شهيدة المحبة، وشهيدة المشاعر الإنسانية الراقية.
كان حزن رفيقي عون، وهو الانسان العاطفي الرقيق، يفوق حزني ودموعه تنسال بغزارة تفوق بسيلانها عن ما ذرفته على وفاة والديه. والحق يقال.
كانت صدمتي مروعة وعظيمة، وهي الأكبر في حياتي، ولا تزال ترافقني إلى اليوم. كان الألم والأسى والحزن، يسألني أكان لا بد لك ألا أن تسلك هذا الطريق، طريق الاحزان. خسرت فيه الوطن والاهل ووالدتك والاصحاب، طريق النضال الشيوعي الصعب. فأجيب إن محبتي لشعبي ولوطني دفعتني الى هذا الطريق دفعاً، وكان شعارنا العظيم المرفوع (من أجل وطن حر وشعب سعيد) هو منارة سفينتي الشبابية وهي تبحث عن مرسى.
المهم أننا وقفنا من جديد أمام مهمة أصعب من سابقاتها، كيف نتصرف، وبمن نستعين؟
ذهبت الى مركز البريد بأرجل من رصاص، وأبرقت لشقيقي فيليب أبو نزار اعلمه بالمصيبة وأطلب العون ،وكذلك قام رفيقي عون باخبار خاله،ولم يمضي إلا يوما واحداَ وكانوا في انقرة الى جانبنا.
كنا قد سألنا عن اجراءات نقل الجثامين الى سوريا. وكانت في غاية التعقيد.ونحن عون وأنا في حالة حزن وضياع لاتوصف، ولا ندري من أين نبدأ. فقام الكبار منا الأخ والخال بتولي الأمر. وعادوا بالجثامين إلى حمص ونحن بقينا في تركيا لا نستطيع مرافقتهم وحضور مراسيم الدفن، تخوفا من الاعتقال، رغم أن حزب البعث العربي الاشتراكي كان قد استلم السلطة، وحافظ مع ذلك على أوامر الاعتقال التي صدرت بحقنا الشيوعيين، في عهد الوحدة الاندماجية مع مصر.
عدنا إلى لايبزيغ نجرجر وراءنا مشاعر الخزي والحزن والكآبة. وكان ذلك في شهر تشرين أول 1964. لم تمضي إلا أيام وسمعت بالخبر الحزين الجديد وهو اقالة الزعيم السوفياتي الكبير نيكيتا خروتشوف من منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي. كان هذا الزعيم السوفياتي موضع أملنا،الدكتور نايف بلوز وأنا، بتحقيق الإصلاحات المطلوبة، والانتصار نهائياً على الستالينية في دوائر الدولة العميقة بالاتحاد السوفياتي، وأعتقد بأن بقاءه على رأس السلطة كان سيوفر علينا فجيعة إنهيار الاتحاد السوفيتي ومعه المعسكر الاشتراكي في العام 1991.