في جنيف ١ المنعقد في ٣٠ حزيران من عام ٢٠١٢ استطاعت المجموعة الدولية المعنية بالأزمة السورية والمؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي والصين وبريطانيا وألمانيا وتركيا وجامعة الدول العربية ان تتوافق على بيان رسم حينها ولا يزال خارطة طريق لحل سياسي دائم لأزمة في سورية قد مضى عليها عند انعقاد المؤتمر عام و٣ اشهر اتسمت بالعنف والدم والتهجير والاعتقال وتدمير مدن وبلدات، صحيح أن البيان المذكور لم يتطرق إلى تفاصيل مهمة بالأزمة وبقيت غامضة ، مثل مصير رئيس الدولة في سورية أو حول دوره خلال المرحلة الانتقالية وقيل عن هذا الغموض حينها انه (غموض غير بناء) إلاّ أن البيان رغم سلبياته كان السقف الاعلى لما يمكن التوافق عليه دوليا لوضع أسس لحل سياسي تقبل به كافة القوى و الدول المعنية بالصراع الدائر في سوريا .
ما أن انتهى اجتماع جنيف ١ حتى بدأ الخلاف حول تفسير فقرات الستة بين الدول، وتحديدا بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الاتحاد الروسي وايضا بين المعارضة وبين النظام حول تفسير بنود مخرجات جنيف ١ وعلى الأخص حول مصير الرئيس الاسد أو دوره في العملية الانتقالية أو من هي الجهة المخولة في تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وبقي هذا الغموض دون جواب ومحط جدلا واجتهاد بين كل طرف.
انعقدت جنيف ٢ في كانون ثاني-شباط من عام ٢٠١٤ بإشراف الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي بعد جمود دبلوماسي وسياسي دام أكثر من عام ازدادت خلاله حدة الأعمال العسكرية بين النظام والمعارضة وانتهت تلك الجولة إلى طريق مسدود بسبب رفض وفد النظام البحث في أي مسألة سوى محاربة الإرهاب، اما وفد المعارضة فقد تمسك بأولوية البحث بتشكيل هيئة حكم انتقالي دون وجود الأسد.
بقيت المفاوضات حول سوريا معطلة بعد صدور القرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ ،ولمدة غير قصيرة حتى انعقاد جنيف ٣ في ٢٩ كانون الثاني لعام ٢٠١٦ ، كانت الجلسة الثالثة هي الجلسة الوحيدة التي التقى فيها الوفدان ، وفد النظام ووفد المعارضة الممثل في (الهيئة العليا للمفاوضات)وجهاً لوجه عند افتتاحها تحت علم الأمم المتحدة ، وهي الجلسة الوحيدة أيضا من بين جلسات جنيف التسع التي أعلن عن توقيفها قبل انتهاء الموعد المحدد لها ، حيث طلب رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب في 18 نيسان 2016 تعليق المفاوضات فيها حتى يتم إيقاف القصف على حلب وفك الحصار على بعض المناطق التي تسيطر المعارضة المسلحة عليها وإطلاق المعتقلين السياسيين على خلفية الانفجار السوري في ٢٠١١ والكف عن التدخل من قبل روسيا في تشكيل وفد المعارضة وأعتبر أن وفد رياض ١ هو الذي يمثل المعارضة السورية ويرفض ضم أي منصة أخرى إليها كما أعلن ان وفد المعارضة لن يعود إلى جنيف مالم يتم تقدم في مجال القضايا الانسانية.
أما الجعفري رئيس وفد النظام فقد اتهم وفد المعارضة بتعطيل سير العملية التفاوضية وقال إن وفد رياض ١ لا يمثل جميع المعارضة السورية وفي هذا إشارة إلى منصتي موسكو والقاهرة المتواجدين في جنيف، كما انتقد أيضا موقف المبعوث الدولي دي مستورا لأنه أعلن عن تعليق المفاوضات استجابة لطلب رياض حجاب.
لم يلق قرار تعليق المفاوضات في هذه الجولة موافقة جميع أعضاء وفد الهيئة العليا ، حيث اعترض عليه ممثلي هيئة التنسيق الوطنية في الهيئة العليا وقرروا البقاء في جنيف لنهاية الموعد المحدد لهذه الجلسة كتعبير عن رفضهم لهذا التوجه غير المنتج في العملية التفاوضية ، كما انتقد الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي ) أحد مكونات هيئة التنسيق الوطنية ، بعد انتهاء الجولة في بيان له مؤرخ في 28 أيار 2016 قرار الهيئة العليا برئاسة السيد حجاب تعليق المفاوضات واعتبرته خطأً سياسياً، الأمر الذي دفع برئيس الهيئة العليا إلى تعليق مشاركة ممثل الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) وممثل هيئة التنسيق الوطنية في وفد الهيئة العليا في المفاوضات اللاحقة.
لم يحسم القرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ ، رغم أهميته في الحل السياسي الدائم للازمة السورية ، الغموض القائم في بيان جنيف ١ وبقي بمثابة توصيات غير ملزمة للأطراف المتصارعة في وحول سوريا، الأمر الذي دفع الميسر الدولي ستيفان دي مستورا الى التصريح في بداية الجلسة الرابعة في جنيف المنعقدة بتاريخ ٢٣ / شباط ٢٠١٧ (ان القرار مصمم بطريقة لا قدرة له على أن يطبقه بشكل صحيح) لذلك ولكسر الجمود القائم في المفاوضات ولتحريك المياه الراكدة فيها اقترحَ توسعة القرار إلى محاور ثلاث، الحكم، والدستور، والانتخابات، وأضيف اليها محور الإرهاب بعد إصرار وفد الحكومة السورية على إضافته وسميت تلك المحاور بالسلل الأربعة واعلن عنها في جنيف اثناء انعقاد المفاوضات، كما اعلن ان تلك المحاور سيجري البحث فيها بالتوازي فيما بينها دون إقرار أي منها قبل الانتهاء من التوافق على جميعها .
تطرقت السلة الأولى عن انشاء حكم غير طائفي يضع الجميع مع الأمل في الاتفاق على ذلك خلال ستة أشهر.
اما السلة الثانية، تكلمت حول القضايا المتعلقة بوضع جدول زمني لمسودة دستور جديد مع الأمل في أن يتحقق في ستة أشهر.
وبحثت السلة الثالثة في كل ما يتعلق بانتخابات حرة ونزيهة بعد وضع دستور جديد وذلك خلال ١٨ شهرا تحت إشراف الامم المتحدة وتشمل السوريين خارج بلادهم.
اما السلة الرابعة فقد بحثت في استراتيجية مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية وبناء اجراءات الثقة.
في هذه السلل، أسقط دي مستورا حينها في مبادرته وبشكل مقصود، محور تشكيل هيئة حكم انتقالي المنصوص عليها في بيان جنيف والقرار٢٢٥٤ من العملية التفاوضية، وقد اتهم المبعوث الدولي حينها بسبب ذلك بمحاباة الروس والنظام، وقد وافقت المعارضة السورية المنبثقة عن (وفد رياض واحد) على مبادرة الميسر الأممي المذكورة بسبب الضغط الذي مورس عليها من ما سمي بمجموعة أصدقاء سوريا بعد لغط وخلافات بينية بين أعضائها، اما في الجهة المقابلة فقد رفض وفد النظام في هذه الجولة البحث في أي محور باستثناء محور سلة الإرهاب ، كما رفض الدخول أيضا في المفاوضات قبل توحيد المعارضة في وفد واحد موحد ، وقال أنه لا يعرف مع أي معارضة يتفاوض.
لم تكن الجولة السادسة التي عقدت في ١٦ أيار من عام ٢٠١٧ بأفضل حال من سابقتها الجولة الخامسة المنعقدة في نيسان من نفس العام والتي انتهت كل منهما دون أي تقدم يذكر باستثناء الإعلان من قبل السيد دي مستورا في تلك الجلسة عن إنشاء آلية تشاورية في القضايا الدستورية وقد أرسلت المعارضة وفدا للمشاركة فيها بعد ان رفضت بداية التفاعل معها.
أما في الجولة السابعة التي عقدت في ٧، ٩ تموز من عام ٢٠١٧، طالب فيها المبعوث الدولي وفد المعارضة، وتحت إصرار وفد النظام، بتوحيد وفودها كشرط رئيسي لعقد جولات جديدة من المفاوضات، وكان المعني بذلك كل من وفدي منصتي موسكو والقاهرة، وكان هذا الموقف من المنسق الأممي من أحد الأسباب المباشرة التي عجلت في عقد رياض ٢ وانضمام المنصتين إلى هيئة التفاوض والى وفد المعارضة المفاوض الجديد رغم معارضة المتشددين في الائتلاف وفي بعض الفصائل العسكرية.
رغم توحد منصات المعارضة في جسم واحد في (مؤتمر رياض ٢) المنعقد في السعودية بتاريخ ٢٢ تشرين الثاني من عام ٢٠١٧ تحت اسم هيئة التفاوض للمعارضة السورية وقد اعتبرت دوليا تلك الهيئة هي الممثل الشرعي للمعارضة السورية لإنجاز الحل السياسي وفقا للقرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ القائم على بيان جنيف ١ ، ورغم استبعاد بعض الشخصيات المتشددة في العملية التفاوضية من الائتلاف والجيش الحر في (رياض ٢) من جسم القيادة لهيئة التفاوض ، فلم يحصل أي تقدم في الجولة الثامنة التي عقدت في ٢٨ / تشرين الثاني لعام ٢٠١٧ بسبب رفض وفد النظام عدم البحث الا في سلة الإرهاب مما دفع المنسق الأممي إلى تحميل روسيا والنظام مسؤولية إضاعة فرصة ذهبية في تقدم المفاوضات .
عقدت الجولة التاسعة للمفاوضات بتاريخ ٢٥ كانون الثاني من عام 2018 في فيينا وليس في جنيف لأسباب لوجستية كما ذكر المنسق الأممي استيفان دي مستورا آنذاك، تواجد في هذه الجلسة كل من ممثلي المجموعة الخاصة لدعم الحل السياسي بالأزمة السورية (الولايات المتحدة-بريطانيا – فرنسا-ألمانيا- مصر- السعودية-الأردن)إضافة إلى ممثل الحكومة الروسية حيث قدم فيها وفد المجموعة الخاصة بسوريا خلال الجلسة ورقة غير رسمية تتعلق بمستقبل سوريا لجهة شكل وطبيعة الحكم اللامركزي في سورية وقد ذكر فيها لأول مرة مصطلح الأقاليم بدلاً من مصطلح المحافظات او الإدارات، الا أن هذه الورقة لم تحظى بأي مناقشة بسبب رفض النظام البحث فيها واستمر متمسكا مع ممثل الحكومة الروسية بمناقشة حضور هيئة التفاوض لمؤتمر سوتشي المنوي عقده خلال فترة قريبة من ذلك الشهر(30 كانون ثاني 2018) وقد رفضت هيئة التفاوض حضوره بأكثرية أعضاءها.
كانت جلسة فيينا آخر محاولة للمبعوث الخاص استيفان دي مستورا لأجل انجاح مهمته في إيجاد حل سياسي في سورية قبل أن يقدم استقالته من مهمته كميسر أممي لمباحثات سياسية كانت واستمرت معه ولاتزال مستعصية حتى بعد استلام المبعوث الاممي الرابع غير بيدرسون لمهمته كمبعوث خاص في سورية.
مما لا شك أن النظام استطاع تعطيل مفاوضات الحل السياسي بجولاتها التسع في جنيف وبرعاية أممية استنادا لبيان جنيف ١ والقرار ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ وايصالها إلى طريق مسدود عبر دعم غير محدود من حليفه الروسي الذي وافق على تلك القرارات الدولية ، كما نجح في سد افق أي تقدم في جولات اللجنة الدستورية الخمسة التي عقدت في جنيف أيضا وبرعاية أممية، وهي تعتبر من مخرجات مؤتمر سوتشي الذي تبنته روسيا ، كما استطاع الاتحاد الروسي وبعد تدخله العسكري في سوريا في أواخر عام ٢٠١٥ ان يغير في موازين القوى العسكرية على الأرض لصالح النظام بعد ان انسحبت الفصائل العسكرية المسلحة المعارضة من مدينة حلب ومن الغوطة الشرقية ومن الجنوب السوري، ورغم خيبات الأمل عند الكثير من الناشطين والمحللين السياسيين في إنهاء مأساة الشعب السوري من جراء انسداد افق المفاوضات السياسية أو في اللجنة الدستورية في جنيف، فإن الحقيقة الباقية والأهم في الأزمة السورية رغم تعقيداتها وتداخلاتها الإقليمية والدولية، ورغم كثرة المبادرات الشخصية او الاقليمية في أستانا أو سوتشي لإنهاء دور الأمم المتحدة، فأنه لن يكون في سورية أي حل سياسي خارج إطار القرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ القائم على بيان جنيف ١ لعام ٢٠١٢ باعتبارهما يحظيان ومنذ صدورهما بإجماع دولي كأساس لأي حل سياسي في سوريا .
السؤال المهم حاليا، وبعد مضي عقد من الزمن على مأساة الشعب السوري، وبعد هذا التعطيل المتعمد في مساري العملية السياسية واللجنة الدستورية في جنيف لحل مأساة الشعب السوري، هل يتوافق المجتمع الدولي ممثلاً بمندوبه الخاص غير بيدرسون مع بداية العشرية الثانية على آليات عمل جديدة يستطيع خلالها ان يتجاوز انسداد أفق التفاوض على حل سياسي وفقا للقرارات الدولية ذات الصلة بالأزمة، ام يعود بالأزمة الى مربعها الأول ويعتذر من الاستمرار في مهمته كسلفه لسبب عدم وجود ارادة دولية تلتقي على حل سياسي في سوريا؟
UN Photo / Violaine Martin