رامز مكرم باكير
اليوم، ومع تعقيدات الحياة وتسارع التطور التكنولوجي والإنتاج، وبعد دخولنا عصر المعلومات وتطور أساليب وأنماط التواصل الاجتماعي، دخلنا أيضاً عصراً جديداً من تطور مفاهيمنا وتعريفنا للأشياء، ومنها مفهومنا عن السلعة.
وبمساعدة منصات تداول الفيديوهات والتواصل الاجتماعي، وبفضل الاقتصاد الدعائي الفقاعي، أصبح بالمكان تحويل أي نشاط شائع، وعادي، وحتى روتيني من حياتنا اليومية إلى عمل وسلعة، بل وأيضاً يمكننا ان ننتج من هذا العمل قيمة. من تماريننا الروتينية، والطبخ، والسفر، واليوغا، إلى شراء الملابس، ارتداء الملابس، أو حتى مجرد إظهار الجسد والتعري للكاميرا وغيرها الكثير. كل هذه النشاطات والأعمال رغم عاديتها أصبحت سلعاً وينطبق عليها مفهوم السلعة بامتياز فهي تخضع لقوانين الإنتاج. وبقدر ما تحمل هذه الأنماط من السلع على قيمة مادية للبعض بقدر ما تحمل قيمة روحية أيضاً.
جان بودريلارد عالم الاجتماع الفرنسي والناقد والفيلسوف هو واحد من أهم المفكرين الذين مهدوا الطريق لنا لفهم العلامات والرموز لهذه الأنماط من النشاطات المسلعة والذي سماها السلع “فوق الواقعية”، أو السلع ذات الواقعية الفائقة “Hyperreal”، حيث كان بودريلارد من أول من صاغ وعرف مصطلح “الواقعية الفائقة” أو “Hyperrealisim”، وهي تعريف للواقع الذي يتولد عن نماذج لواقع ما بلا أصل، فهي مجرد تمثيل او دلالة، ولا تتضمن بالضرورة مرجع أصلي لها.
في النظريات القديمة للاقتصاد السياسي، سواء الرأسمالية منها او الشيوعية، كان مفهوم السلعة يعبر عن الشيء الذي يحتاج الى مجهود أو عمل مستثمر فيه لاتمامه، فمثلاً أشياء يصعب العثور عليها أو استخراجها مثل الذهب تكون قيمتها عالية، والأشياء التي تتطلب الكثير من المهارة لصنعها مثل اللوحات الفنية على سبيل المثال، تساوي أكثر من القماش والطلاء الذي يتطلبه صنعها، لأن الحرفية والمهارة العالية والشاقة متضمّنة في قيمة هذه السلعة.
وباختصار وبعيداً عن تعقيدات علم الاقتصاد، كل هذه العوامل تشكل القيمة التبادلية لهذه السلع والتي هي أساس السوق الكلاسيكي. ولكن، ومع ظهور تطور مفهوم العلامة التجارية أصبحت قيمة التبادل أكثر تعقيداً، وأصبحت الدلالات والمعاني الاصطناعية فجأة متضمنة في قيمة السلعة ايضاً. فأنت الآن لم تعد تشتري اشياءً منتجة فقط، بل أصبحت أيضاً تشتري هذه الدلالات والمعاني التي يعبر عنها هذا المنتج ايضاً، كنمط الحياة “Lifestyle” المرتبط بالمنتج مثلاً، ويطلق على اسم هذه العملية الترسيم، وهي آلية وضع العلامة التجارية في علم التسويق “Branding”.
ومن أكبر الأمثلة على هذا ما نلاحظه في العلامات التجارية للمنتجات الرياضية، حيث تصبح المنتجات أو الملابس التي يسوق لها عن طريق الأبطال الرياضيين أكثر قيمة من غيرها. فمايكل جوردان مثلاً بذل الكثير من التدريب الشاق في سبيل أن يكون بطلاً في رياضته، لذلك تشتري نايك صورته ومجهوده لتضمّنها في علامتها التجارية، لتسوق لنا فكرة أنك لمجرد شرائك حذاء جوردان، أنت تشتري هذه القيمة التي تعكس الأفضلية والتميز.
ولدينا مثال أكثر تطرفاً، البطل كابرينيك لاعب كرة القدم الأمريكية، والذي كان أول من جثى على ركبتيه تعبيراً عن تأييده لحقوق السود في أمريكا ولحركة (Black lives matter)، فهو الآن وبفعلته هذه ليس فقط الأفضل في رياضته، ولكنه ايضاً أصبح بطلاً ثورياً ومؤيداً لحقوق السود، ويمكن لكابرينيك بيع ليس فقط صورته كلاعب كرة قدم مميز وحسب، بل أيضاً صورة الثوريّ البطل لنايك او لغيرها لتسلع صورته وتدمجها في حذاء رياضي، أو أي منتج رياضي آخر.
كل هذه المفاهيم والممارسات الدعائية المتبعة من شركات كنايك وغيرها قد تبدو بديهية للبعض، ولكن مع ربطها بالمفاهيم الماركسية، نجد ان تسليع شركة نايك لصورة جوردان او لثورية كابيرنيك مرتبطة بالواقع المادي للسوق وعلاقات الإنتاج، حيث تدعى هذه الظاهرة بقدسية السلعة او فيتشية السلعة (Commodity Fetishisim) ويبدوا ان أسلافنا الماركسيين لم يتركو شيء إلا وتحدثوا عنه. وبحسب تحليلات بودريلارد ومثال كابرينيك وتعبيره الشهير، نكون قد خسرنا علاقتنا المادية مع عمله الثوري العظيم، فعمله الثوري البطولي هذا لم يكن مادياً بقدر ما هو رمزي. و قيمة هذا التعابير الرمزية تكمن في قوتها الدعائية، سواء من خلال بثها على التلفزيون، أو نقلها في الأخبار، أو عبر تغريدات تويتر على وسائل التواصل الاجتماعي.
يوضح هذا أن الاستهلاك بالنسبة لبودريلارد يؤثر على قيمة السلع أكثر من الإنتاج، مما يتناقض مع الماركسية والرأسمالية الكلاسيكية.
وبحسب بودريلارد لا يكفي شرح قيمة السلعة من حيث الإنتاج والعمل وحسب، فأفكارنا عن العمل والإنتاج هي “اختزال في العلاقة مع ثراء التبادل الرمزي” ولم يعد بإمكاننا أن نكون عقلانيين فيما يخص تبادل السلع، فالأسطورة واللامنطقية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السلعة، حيث يروج الدعائيون في حملاتهم لسلع ذات طابع روحاني مثل العدالة والثورة، ويضمنونها داخل سلعهم المادية، مثل أحذية جوردان.
ونرى هذه الأمثلة أيضاً في الحملات الرئاسية وخصوصاً في البلاد ذات الطابع والثقافة الاستهلاكية كالولايات المتحدة، حيث تسوق للجماهير مطالبهم في العدالة الاجتماعية، او المساواة والأمل، وتصبح هذه المطالب روحية أكثر منها مادية، مما يجعل التبادل الرمزي واقعاً يفرض نفسه.
قال بودريلارد: “إذا كانت السلعة في لحظة معينة هي دعاية السلعة، فقد أصبحت الدعاية اليوم سلعة في حد ذاتها”.