محمد أسعد
إن الحركات السياسية والتحولات الاجتماعية خاصة الثورة الفرنسية 1789 نشأت على علاقة وثيقة بقضية الديمقراطية التي انبعثت عنها فيما بعد مسألة الاشتراكية كتجسيد للمساواة الاجتماعية، ولقد مثلت الديمقراطية الأفق السياسي بالنسبة إلى مطالب العصر فإن البشر من حيث المبدأ والأصل هم أحرار متساوون في الحقوق بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية والدينية والطبقية والعرقية، ولا يوازي هذا المبدأ أهمية سوى مبدأ المواطنة التي تترجم الديمقراطية المساواة والانسجام بين الأفراد على أساسه، فالديمقراطية في بعدها الأساس هو احترام المساواة في المواطنة بين الإفراد، وإن الحركات القومية والاجتماعية في آسيا وإفريقيا عموما لم تنشأ تاريخيا ولقد تطورت رؤيتها بفعل خارجي طرأ على تاريخها واستفز بناها الاجتماعية التقليدية فشكلت في الأساس حركات إيديولوجية انطوت على ممارسات نظرية بدائية وقبل مدنية، وفي كفاحها في سبيل التحرر والاستقلال اكتسب مضمونه السياسي تاريخيا وأبعاده الإيديولوجية في ظل غياب الوعي والممارسة الديمقراطية والسلطات الاستبدادية “الدولة العثمانية” في الحالة العربية.
وإن انجاز الاستقلال القومي بنشوء الدولة الوطنية التي لا ترى هويتها السياسية في الديمقراطية كان مثليا تاريخيا في كمالها الاجتماعي والوطني، لهذا السبب وغيره أخفقت مشاريعها الوطنية والاجتماعية في المحصلة، وكذلك اشتراكيتها التي تحولت في الحالة العربية مثلا إلى مرد أشكال التسلط البيروقراطي الفاسد، وقادها ذلك إلى تكريس القومية القطرية المشوهة كبديل مسخ وعبره تستمد مسوغات وجودها، وإن ميزة المجتمعات الحرة والحديثة تكمن في إثبات تلك الديمقراطية التي تتجلى في تبعية السلطة السياسة المتزايدة للمجتمع، والاعتراف المتزايد باستقلال الفرد وحريته إزاء كل شكل من أشكال القهر السياسي والاجتماعي.
فالدولة القطرية التي اتخذت من مطلب القومية الواحدة هدفا وشعارا لها كانت قاصرة في الغالب ناقصة وغير مكتملة تفتقر إلى أساسها الاجتماعي التاريخي مثلما افتقرت إلى فكرة التعاقد الاجتماعي، مما شجع لديها وهم انجاز الوحدة بالعنف لا على أساس الاختيار الحر، فالدولة المفتقرة لأساس التعاقد الاجتماعي لا تحقق أغراضها السياسية والإيديولوجية إلا بالعنف داخليا وخارجيا فلا تكتف بالاستبداد الداخلي وقمع المجتمع وشل أي حراك مدني أو أي شكل من التجمعات النقابية المستقلة، وتندفع إلى تعويض مثلبها الذاتي بخطاب أيديولوجي وتعبئة اجتماعية عسكرية بغرض تأمين أكبر إجماع حماسي، فهي بطركية الطابع، دون أن تستحيل في مسارها إلى إمكان اجتماعي سياسي للأمة، فالدولة القطرية عجزت باستمرار عن تحقيق المضمون والأساس الاجتماعيين للأمة وأنجزت وهم أو ظلال الأمة الواحدة والمفقودة، وقد ولدت هذه القومية المضادة للحداثة بتعبير “آلان تورين” في آسيا وإفريقيا في مراحل متأخرة ووصلت بشكل واسع محل مفهوم القومية العقلانية المشجع على الحداثة على نحو ما فرضته الثورة الفرنسية، فإن المنطق الوحدوي الملازم للخطاب السياسي للدولة القومية شأنه شأن المشاريع الإيديولوجية الأخرى كالإسلام أو الثورة التي تنظم تحت هيمنة مبدأ واحد، لم ينتج سوى ألغامه التي تنفجر اختلافات ونزاعات تمزق ما هو واحد في الأصل، أي إن مفهوم الأمة كان مفهوما و “واقعة” مجرده تهيمن على التاريخ دون أن تنظم في سياقه وهذا ما دفع الخطاب القومي العربي إلى صياغة مفاهيم عديدة بطريقة “ما وراء واقعية” ولها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع، كمفهوم الحرية التي ربطها هذا الخطاب بحرية الأمة_القومية فتحولت إلى تطبيق لا تاريخي لا يستقل عن مضامين ودلالات مفاهيم القسر والدمج والإقصاء وإلغاء الآخر والقمع في أرقى وأصفى أشكاله.
إلى هذا الجانب قدم الفكر العربي مفهوما لا تاريخيا عن الأمة التي باتت مستقلة تماما عن تاريخها الواقعي ولا تنتمي إلى حاضرها بقدر ما تنزع إلى الارتماء في حضن الماضي وتستمد منه مسوغات وجودها وراهنها ومستقبلها، ومن هذا المنظور برزت مقولات “الشعب” و ”المجتمع” و”الدولة” كأنها مجرد أشباح خرجت من جوف التاريخ مرتدية عباءة معاصرة، فالحرية والديمقراطية والمواطنة، لا يمكن أن تكون مفاهيم قبليه ناجزه، نظفر بها مره واحدة والى الأبد، بل هي مفاهيم تقرر مضامينها ودلالاتها الأطر الاجتماعية والتاريخية وتحددها عبر الممارسات المتراكمة. من جانب آخر فإن الذهنية البيسماركية في الوحدة القومية في تجليها العربي، فضلا عن انسياقه الحديثة.
انجاز وحدتها المنشودة بالعنف، فقد بررت ذلك وعززته بدور الفرد المنقذ القومي، وهذا ما أكده معاصروا الفكر العربي حين رأوا أن نمط الفكر القومي هذا هو نقيض الفكر الديمقراطي، ذلك إن المماهاة الوحدوية أنتجت أسطورة الفرد البطل المخلص والقائد الملهم الذي يفكر ويقرر عن الكل، وكان من شأن هذا “السوبرهيرو” بأن استبعد العمل المؤسسي وأقصاه بقدر ما استبعد الحوار الديمقراطي العقلاني، فالوحدة هنا ليست إلا آله للقولبة والنمذجة أو للإخضاع وثمرة ذلك سحق المجتمع تحت سلطة “العقيدة” أو “الحزب “أو “القيادة ” أي قيام المجتمع “الكلاني” حيث الكل يتماهون مع الواحد الأحد “السوبرهيرو” الذي تملئ صوره الساحات والشاشات.
ومن كل ذلك باتت السياسة ممثلة أكثر فأكثر للمطالب الاجتماعية مع غياب أي أهمية لدور المجتمع المدني الذي لديه دور ضروري ومهم يمكن تلخيصه في مواجهة السلطة التعسفية للدولة بحيث هو الملاذ لحماية حقوق الإنسان وهو الوحيد القادر على مقاومة اندفاع الدولة المستبدة، وتاريخيا غياب المجتمع المدني في العالم العربي اقترن على نحو وثيق بعجز الدولة عن تجاوز طابعها الارستقراطي العسكري الاستبدادي وتخطي حالة الحداثة الرثة التي تتخبط بها فهذه الدولة لم تنجم تماما عن السيرورة الذاتية لتطور الأمة التاريخي كانت وريثة لتقاليد مجتمع ما قبل الأمة أو المواطنة وبالمقابل برزت الدولة الحديثة كتقنية اجتماعية سياسية مستعارة كأداة قمع وسيطرة فحسب. وعلى ضوء كل ما أسلفنا في عرضة كانت الدولة العربية المعاصرة تفتقد إلى أهم مفاهيم الدولة الحديثة.