من زوايا الذاكرة (٧): ألمانيا الديمقراطية 1961 – 1962

الدكتور جون نسطة

انضممنا إلى زملائنا الألمان وسافرنا واياهم إلى قرية بعيدة نسبيا عن مدينة لايبزغ، واستقبلنا عمدة القرية مع رئيس الجمعية التعاونية الفلاحية، مرحبين وشاكرين لنا تطوعنا لمساعدتهم في عملية قطاف البطاطا لهذا الموسم، وتم توزيعنا إلى مساكن متناثرة في القرية.مساكن واسعة ومريحة.

فضلنا نحن السوريين ان نسكن مع بعضنا البعض، وكان لنا ذلك.

الجمعية التعاونية الفلاحية كانت جمعية انتاجية، ملكية وسائل الانتاج كلها من أرض واليات وحيوانات وطرق، كلها تخضع لملكية جماعية ينتخب اعضاءها هيئة إدارية، تقوم بوضع برامج وخطط الانتاج، لزراعات موسمية على مدار السنة متوخية زيادة. الانتاج من سنة إلى سنة، عن طريق السعي للحصول على آليات حديثة ومتطورة من الدولة، التي بدورها تتعهد بشراء كامل محاصيل الجمعية.

كانت فترة اقامتي بهذه القرية التعاونية غنية بكسب المعارف والمعلومات عن عالم الزراعة والانتاج الزراعي، وعن علاقات المجتمع الريفي، وعن كيفية ادارة الجمعيات التعاونية الفلاحية، وعن طبيعة وعادات الانسان الألماني والريفي خصوصا.كانوا اناسا بسطاء وطيبين وكرماء. هناك تعلمت قيادة التراكتور بدون مدرسة سواقة وهناك تعرفت على اللهجات اللغوية غير الفصيحة.

وتعرفت على قيمة العمل المبزول في كل حلو بطاطا نأكلها، بدون ان نفكر بمراحل انتاجها ونقلها الى ان تصل الى صحن طعامنا.

وهناك في يوم الثامن والعشرين من شهر ايلول 1961 سمعنا من خلال الراديو بسقوط الوحدة بين سوريا ومصر، ولا اكتم القراء بان فرحنا كان كبيرا، الى درجة إنني ورفاقي زياد إدريس وعون جبور ورزوق طولاب رقصنا وغنينا بوهم استعادة سوريا لحريتها وعودتها الى تطورها الديموقراطي التقدمي السابق.

كان من اسباب موقفنا هذا ايضا هو ما تعرضنا له   خلال اعوام الوحدة الاولى من ملاحقة وخوف من الاعتقال وترك الوطن واللجوء إلى لبنان، تحت ظل المعاناة المعيشية الصعبة والمريرة كالكابوس ومنه أيضا التأجيج والضخ الاعلامي الهستيري ضد سياسات نظام الوحدة وممارسته الدموية، من قبل رسائل الحزب المركزية وما كان يكتب في جريدة الحزب. “الأخبار” عن الاستعمار الفرعوني، وسياسة ابن الست وابن الجارية، ومحاولات مصر ابتلاع الثروات السورية، وتحطيم للصناعة وللتجارة ودور البنك المصري بالاستيلاء على الثروات النقدية والذهبية في البنك المركزي السوري.

كانت مقالات الكاتب في جريدة الاخبار أمين الأعور الاسبوعية، تغلي في الحماسة في مهاجمة نظام السراج والمشير عبد الحكيم عامر بذاتية مفرطة، تذكرني بخطابات احمد سعيد على الجانب الاخر من صوت العرب من القاهرة.كانت حربا كلامية نارية تأجج العواطف والنفوس وتشعل النار في الاجواء.

في شهر ايار من العام 1961 اصدر الحزب بيانه ذات النقاط الثمانية عشر.

وتبدأ النقطة الأولى منه الى إعادة النظر بالوحدة من الأساس. ثم مواد تدعوا إلى انتخاب مجلس نيابي سوري وآخر مصري وحكومات في القطرين بظل ديموقراطية شفافة مع حكومة مركزية تشرف على الدفاع والشؤون الخارجية. والى إطلاق الحريات الديموقراطية وحرية في الصحافة وتشكيل النقابات والجمعيات الخ. بمثابة نظام فيدرالي عمليا.

كانت استقالات كل الوزراء السوريين المركزيين، بمن فيهم الوزراء البعثيين والمستقلين تبعث بإشارات واضحة، بان الشعب السوري بأغلبيته أصبح بواد وقيادة عبد الناصر، بواد أخر بواقع زمني سريع لم يكن أحدا يتوقعه على الاطلاق، مما كان يولد لدينا نحن الشيوعيين السوريين، بأننا كنا على حق في مواقفنا من الوحدة الاندماجية الغير مدروسة.

في نهاية فترة تطوعنا في قطاف البطاطا أقامت الجمعية التعاونية الفلاحية حفلة شكر ووداع لنا حافلة ترعنا فيها كؤوس متنوعة من الاشربة الروحية وبكميات وافرة.

وفي اليوم التالي عدنا إلى لايبزيغ مهللين فرحين بالانفصال ولصحة سياسات حزبنا الشيوعي السوري.

اجتمعت قيادة المنظمة الحزبية في لايبزيغ وقررت إقامة احتفال خطابي بهذه المناسبة حضره أعداد كبيرة من الطلاب السوريين واعداد كبيرة من الشيوعيين العرب.

وكنت قد كلفت بإلقاء كلمة الحزب في هذه الأمسية. وبالمناسبة لا بد من القول الان بأنني كنت ولا أزال نادماً على ما فعلت، ولكن تحكم على الأفعال بظروفها، ولقد وعيت بعدها بان عملية الانفصال عن مصر شكلت نكسة في تاريخ العرب ورجعة الى الوراء، مع يقيني إلى الآن بأن قيادة الرئيس عبد الناصر في وقتها تتحمل المسؤولية الرئيسية عنها بسبب غياب الديمقراطية والقيادة غير الجماعية، وحكم الفرد او الزعيم.

وعلى نطاق الحركة الشيوعية العام بقيادة نيكيتا خروتشوف، لا يسعني الا الى التطرق الى الانقسام الحاد فيها جراء الخلاف مع قيادة الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ منذ عام 1960. ففي حين دعت القيادة السوفيتية الى سياسة التعايش السلمي مع النظام الرأسمالي وتخفيف التوتر معه والدعوة الى خطوات نزع السلاح النووي والى السباق الاقتصادي بين النظامين،والى إمكانية الوصول الى الاشتراكية بالطرق السلمية،والى دعم طريق التطور الغير رأسمالي في البلدان النامية.كان الحزب الشيوعي الصيني يعتبر ذلك خروجا عن تعاليم الماركسية اللينينية. وبدأ ماوتسي تونغ يتحدث عن النظام الرأسمالي بأنه نمر من ورق،وبأن ريح الشرق تغلب ريح الغرب.

وبالمقابل كانت القيادة السوفيتية تتهم قيادة الصين بانها من اصول فلاحية غير قادرة على فهم الواقع الإنساني الجديد ومواكبة التطورات التي حدثت وتحدث. وطبعا اصطفت قيادة خالد بكداش إلى جانب الاتحاد السوفيتي وبحماسة واضحة.

هذا الانقسام عكّر الأجواء، وأضر بالحركة الشيوعية إلى حد بعيد.

في خريف العام 1962، بدأت الازمة الكوبية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الاميركية، بعد أن كشفت صور التقطتها الطائرات الاميركية من سماء كوبا، وجود صواريخ روسية بأعداد كبيرة. بعد أن وثق الرئيس كنيدي من صحة الصور، توجه بخطاب شديد اللهجة إلى نيكيتا خروتشوف، طالبا بسحب هذه الصواريخ من أرض كوبا فورا، مهددا بالحرب. عاشت البشرية جمعاء على أعصابها متوجسة اندلاع حرب عالمية ثالثة ولكنها نووية لا تبقي ولاتذر. مهددة الحضارة والانسان بوجوده.

 مرت أيام عديدة حبلى بالشائعات والتوقعات المنطقية وغير منطقية.

شكل إنذار كيندي احراجا صعبا لنيكيتا خروتشوف، يتعلق بهيبته في داخل بلده، وعلى الصعيد الدولي، إنْ تراجع. وبدأت جولة من المباحثات السرية بين الطرفين العملاقين، والعالم بأسره ينتظر.

وبحكمة القائدين، توصلا الى اتفاق يضمن أمن أميركا من جهة، ويحمي ماء وجه وكرامة الزعيم السوفيتي. وينص على سحب الصواريخ الروسية من كوبا، مقابل أن تتعهد الولايات المتحدة الاميركية بعدم المساس بالنظام الشيوعي الكوبي. تنفست الإنسانية بأسرها الصعداء متجاوزة أكبر ازمة في القرن العشرين.

ألقى الزعيم السوفياتي خطابا مطولا شرح فيه حرصه على السلام الدولي، وتجنيب البشرية حربا نووية، وكيف أنه ضمن سلامة النظام الاشتراكي في كوبا.

في نهاية الأزمة قدم من برلين الرفيق احمد فايز الفواز الى لايبزيغ وعقد اجتماعا لكافة افراد المنظمة، قرأ خلاله الخطاب المطول لخروتشوف، ثم علق عليه، شارحا الحكمة الكبيرة وروح المسؤولية العالية للقيادة السوفياتية. ثم أجرى مناقشة حول الموضوع مستقبلا أسئلة الرفاق.

كان الرفيق فايز يتمتع بذكاء واضح وبشخصية كاريزماتية لا تغيب عنها العين، وبسطوة حزبية مهيبة. وكان من المعجبين بالرفيق خالد بكداش ويمتدحه كثيراً، وأحيانا يقلده بأمور عديدة من اللباس إلى طريقة المعاملة.

وكان يتمتع بشدة الملاحظة وسرعة الاستنباط وطلاقة اللسان بلهجة رقّاوية، نسبة الى مدينة الرقة، محببة.

وفي المقابل كان خالد بكداش، وخصوصاً زوجته وصال فرحة، كما نقل لي، يكنان للرفيق فايز الفواز محبة خاصة وتقدير مميز، ويصفانه بأنه رجل بكل معنى الكلمة، ويتباهون به امام المنظمات الحزبية الأخرى في أوروبا الشرقية، وكيف أنه يحل كل المشاكل، ويلبي كل المتطلبات التي  يحتاجون لها.

وكما روى لي الرفيق عبد الله حنا، فإن الدكتور فايز كان يشتري لخالد وزوجته، ما يحتاجونه من متطلبات شخصية وهدايا، وأحيانا من أسواق برلين الغربية، وذلك من أموال الاشتراكات الحزبية للمنظمة الطلابية. ولا عجب في ذلك، اذ كان خالد بكداش يعتبر نفسه هو الحزب، والحزب هو خالد بكداش. ولقد ورد ذلك حرفياً في احدى رسائل الحزب المركزية، وقرأته أنا بعيني.

والنص يقول لقد اصبح اسم الرفيق الأمين العام خالد بكداش، يعني الحزب الشيوعي، والحزب الشيوعي يعني الرفيق خالد بكداش.

وأنا لا أعرف كيف ومتى انقلب السحر على الساحر، وصار الدكتور فايز من أشدّ منتقدي خالد بكداش، وأكثرهم جرأة في اظهار عيوبه ومسالبه علنا وامامه أيضاً، في المؤتمر الثالث للحزب في العام 1969 وفي كلمته أثناء انعقاد المؤتمر الوطني للحزب عام 1971، والتي  نشرت، الى جانب مداخلات انتقادية أخرى،لكوادر الحزب،في كتاب تحت عنوان قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري،والتي  انتشرت وبسرعة في كل أنحاء سوريا، ولاقت استحسانا واسعا من قبل الشيوعيين ومن أوساط اليسار عامة.

وبعد بيان الثالث من نيسان من العام 1972، حيث صدر بيانا موقعا من قبل خالد بكداش ويوسف فيصل، وهما اثنان من أعضاء المكتب السياسي، من أصل سبعة اعضاء وسبعة أعضاء من اللجنة المركزية من أصل خمسة عشر عضوا، والقاضي بطرد عضو المكتب السياسي رياض الترك، ورفاقه ظهير عبد الصمد، وابراهيم بكري، وعمر قشاش، ودانيال نعمة، من عضوية الحزب، بحجة التحريفية والشوفينية والخروج عن خط الحزب، وحصول الانقسام عمليا، بدأ نجم الرفيق فايز الفواز بالصعود الشاهق في سماء الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، ويقال بأنه ورياض الترك أصبحا المحور الأهم في الحزب وقيادته الفعلية.