بين يومي 17 كانون أول\ديسمبر 2010 و 18 آذار\مارس 2011 انفجرت خمسة مجتمعات عربية ذات طابع رئاسي جمهوري بدءاً بتونس وانتهاء بسورية. بين عامي 2013 و 2014 وجدنا عودة، بهذا الشكل أو ذاك، للنظام القديم في تونس ومصر واليمن، ونصف عودة في ليبيا عبر ظاهرة اللواء خليفة حفتر والقوى المتحالفة والمساندة له، فيما استطاع النظام السوري تسجيل أنه الوحيد بين الأنظمة الخمسة الذي لم يسقط لا كبنية ولا كرأس ولو أنه تزعزع ولم يستطع تكرار انتصاره الأمني-العسكري في أحداث 1979-1982.
لم يكن هذا فقط بسبب كون القوى الجديدة التي صعدت إلى سطح السلطة في البلدان الأربعة فاشلة في الإدارة وفي الحكم وهي كلها من قوى (الإسلام السياسي) في طبعته الاخوانية مع تحالفات مع قوى أخرى من قبلها كانت في مصر من السلفية، وفي ليبيا من السلفية الجهادية، وفي تونس قوى ليبرالية فيما كانت في اليمن من قوى عسكرية انشقت في اللحظة الأخيرة عن النظام السابق مثل اللواء محسن الأحمر أو انزاحت عنه مثل نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي وإنما أيضاً بسبب انزياح الغطاء الدولي الأميركي عن (الاخوان المسلمين) بين خريف 2012 وربيع 2013.
فيما أثبتت قوى النظام القديم والقائم قدرتها على رد الموجة المضادة ثم التغلب عليها ليس فقط من خلال العمل الأمني- العسكري، كما جرى في اليمن بأيلول\سبتمبر 2014 عبر تحالف القوى العسكرية النظامية الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح مع الحوثيين، وإنما أيضاً عبر استناد العمل الأمني- العسكري على قاعدة جماهيرية، كما جرى من قبل انقلاب 3 يوليو 2013 للفريق عبد الفتاح السيسي في مصر على الرئيس محمد مرسي الذي استند إلى حراك جماهيري ضخم في يوم 30 يونيو أو من قبل الحراك العسكري للواء حفتر في ليبيا (أيار2014) الذي من الواضح أنه يتمتع بتأييد اجتماعي كبير يمتد إلى الليبراليين وقاعدة النظام السابق ضد الإسلاميين، فيما في تونس كان فوز (حركة نداء تونس)،وهي امتداد بهذا الشكل أوذاك لحزب الرئيس السابق بن علي ،في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تعبيراً عن تآكل قوى الثورة التونسية.
ليس كل الحراكات الاجتماعية التي حصلت في البلدان الخمسة بثورات، ما عدا تونس ومصر حيث مثًل الحراك أكثر من نصف البالغين في المجتمع قلباً ولساناً ويداً، وليس فشل الثورات والحراكات سابقة عربية،حيث فشلت الثورة الانكليزية للبرلمان ضد الملك بين عامي 1642-1649 عندما عاد ابن الملك المقتول واستعاد العرش في عام 1660 قبل أن تقوم الثورة الدستورية على الحكم الملكي 1688-1689 وتنتصر وتقوم بتثبيت الملكية الدستورية: الملك يملك ولا يحكم والحكم للبرلمان، كما أن ثورة 1789 الفرنسية ضد آل بوربون قد فشلت في عام 1815 عندما عاد النظام القديم والأسرة الملكية القديمة قبل أن تزيحهم ثورة تموز 1830، ثم فشلت ثورة شباط 1848 الفرنسية لما انتهت بحكم ديكتاتور فرد أعلن نفسه امبراطوراً كما فعل لويس بونابرت في 2 كانون أول\ديسمبر 1851.
هنا، من الملفت للنظر قوة قاعدة النظام القائم في الأنظمة العربية الثلاثة التي سقط رأسها (تونس- مصر- اليمن) أو سقطت بنيتها (ليبيا) أوالتي صمدت كنظام رأساً وبنية (سورية)، وهشاشة وضعف القوى المضادة المتحركة أو الثائرة على الأنظمة القائمة ولو أن حالات كتونس 17 ديسمبر 2010-14 جانفي 2011 و مصر 25 يناير-11 فبراير 2011 كانت تعبيراً عن قوة شارعية مثلت الأكثرية عبر حالة فورانية ثورية، حيث سرعان ما فقدت القوى الثائرة زخمها عندما وصلت للسلطة، ثم انقسمت، وبعد هذا وعبر تجربتها السلطوية تقلصت وتلاشت قاعدتها الاجتماعية كما في مصر وتونس واليمن،وفي ليبيا دفع الاسلاميون الكثير من القوى الاجتماعية التي كانت معهم أو وراءهم أو محايدة للثورة عليهم بسبب الحكم الميليشياوي، ولدفعها نحو وضع من المساندة الاجتماعية لليبراليين وللقوى الجهوية على حساب الإسلاميين كما بان في انتخابات يونيو 2014 البرلمانية أو لمساندة تحرك اللواء حفتر ضد الاسلاميين وهو المدعوم من بنية الجيش القديم زمن القذافي أو من قوى نظامه أو من القوى الاجتماعية المحايدة أمام حراك 17 فبراير 2011.
في اليمن عام 2011 كان الحراك المضاد لنظام علي عبدالله صالح أضعف من تونس ومصر وليبيا، وفي سورية ما بعد درعا 18 آذار مارس2011 كان الحراك السوري أضعف البلدان الخمسة من حيث قوة القاعدة الاجتماعية وفي ذروة قوته خلال عام 2011 لم يستطع تجاوز ثلث المجتمع فيما كان الثلثان الآخران في الموالاة والتردد ثم بدأت القاعدة الاجتماعية للحراك السوري المعارض بالتآكل التدريجي منذ عام 2013.
لم يكن صمود النظام القديم وعودته في البلدان التي جرى فيها “الربيع العربي” العلامة الوحيدة على فشل هذا “الربيع”وإنما أيضاً ما أدى إليه هذا “الربيع”من كونه كان قوة دافعة نحو إظهار هشاشة البنية الداخلية للمجتمعات العربية الخمسة، وليس لتمتينها كما في الثورتين الانكليزية والفرنسية ثم الروسية في شباط وأكتوبر 1917، حيث كان “الربيع” مصعداً للقوى النابذة للوحدة في هذه المجتمعات: الطائفية، الإثنية، الجهوية، القبلية، العشائرية، كما كان كاشفاً لمدى ضعف البنية الوطنية القطرية الحديثة في هذه المجتمعات العربية الخمسة،هذا إذا تركنا العروبة جانباً. كان التفكك البنيوي للمجتمع في لحظة الانفجار سبباً وآلية لاستدعاء الخارج من السلطات والمعارضات وللاتكاء عليه في الصراع الداخلي ضد المواطن الآخر في المجتمع،وبالتالي لكي يصبح الخارج، سواء كان قوى دولية أو إقليمية، هو المتحكم بالصراع المحلي.
أيضاً كان التفكك الداخلي في لحظة الصراع هو السبب في نمو قوى التطرف، مثل داعش في (العراق وسوريا) أو تنظيم القاعدة في اليمن أو السلفية الجهادية في ليبيا فيما يلاحظ أن نمو التطرف في مصر متعلق بحركة استبدالية عند الإسلاميين بعد هزيمة 3 يوليو 2013 للنزعة الإخوانية الأصولية بالسلفية الجهادية فيما يبقى المجتمع المصري الأقوى تماسكاً من حيث البنية الداخلية هو والتونسي وهذا ما يجعل التطرف الاسلامي في البلدين حركة أيديولوجية انزياحية ذات قاعدة اجتماعية ضعيفة، ولو أن سورية أثبتت تماسكاً أقوى أمام الاحتراب الطائفي في أعوام 2011-2016 بالقياس لبنان 1975-1990 عراق 2003-2014 إلا أنها كانت ذات خاصرات رخوة في محافظة ادلب وأرياف حلب والرقة وديرالزور والحسكة حيث رأى تنظيم داعش بنية خصبة للزرع أكثر أو توازي ما كان في العراق.