لم يكن الحل السياسي مع بداية الانفجار السوري في منتصف آذار لعام ٢٠١١ عامل استقطاب أو تجميع للقوى الفاعلة في المجتمع السوري، لا عند النظام ولا عند المعارضة بتكويناتها المتعددة، بل كان من أحد الأسباب الرئيسة في التباعد والاختلاف بينهما في الداخل والخارج.
فعلى أرضية هذا الاختلاف لم تستطع المعارضة السورية على ضعفها وشرذمتها أن تكون جسما موحدا مستقل الارادة وقادراً على مجابهة نظام استبدادي استمر عشرات السنين في قمع شعبه، حيث نجد أن سقف المطالب عند الحراك الشعبي العفوي (عند التنسيقيات) منذ انطلاقته لم يتجاوز بعض الحقوق الديمقراطية في الحرية والمساواة والعدالة والكرامة وتعديل أو إلغاء بعض مواد الدستور السوري.
كما لم يكن أيضا الحل السياسي عند المجلس الوطني السوري منذ تشكيله في تشرين الأول من عام ٢٠١١ في استنبول مطروحا ضمن أهدافه والتي كان في مقدمتها اسقاط النظام السوري، وقد ضم هذا التشكيل كل من الإخوان المسلمين وحزب الشعب الديمقراطي ومجموعات ليبرالية وبعض الشخصيات المستقلة، بينما تطور سقف المطالب عند الائتلاف الوطني الذي تشكل في ١١ تشرين الثاني/نوفمبر من عام ٢٠١٢ في الدوحة وكان مقره استنبول من المجلس الوطني السوري و (الجيش الحر) ولجان التنسيق المحلية والمكون التركماني والمجلس الوطني الكردي وبعض الضباط المنشقين من الجيش السوري النظامي، وقد دعا منذ تأسيسه إلى العمل العسكري لإسقاط النظام السوري والى ودعم الكتائب المسلحة والى التدخل الخارجي كما حدث في العراق وليبيا، أما الجيش الحر والذي تكون من ضباط وصف ضباط وأفراد منشقين من الجيش النظامي وتم تشكيله في تموز/يوليو عام ٢٠١١ بقيادة العقيد رياض الأسعد فقد رفع شعار إسقاط النظام منذ انطلاقته إضافة إلى حماية المتظاهرين والدفاع عنهم من عنف النظام.
كانت هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي هي الطرف الوحيد والسباق من بين أطراف المعارضة السورية في طرح الحل السياسي للازمة في سورية عبر بيان تأسيسها في حزيران لعام ٢٠١١ والى تشكيل حكومة موقتة لمرحلة انتقالية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفض العمل المسلح والحفاظ على سلمية التظاهر وإنهاء العمل بقانون الطوارئ والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية، وكان هذا الموقف لدى هيئة التنسيق الوطنية نابعاً من تقديرها الدقيق في ميل ميزان القوى لصالح النظام والى ضعف المعارضة المنهكة بفعل الاستبداد والقمع الذي مورس عليها خلال عشرات السنين، كما نجد أن سقف المطالب عند هيئة التنسيق الوطنية ارتفع في المؤتمر الموسع المنعقد في حلبون بتاريخ 17\9\2011 حيث أكدت على الحفاظ على سلمية التظاهر ورفض أي عمل عسكري أو تدخل خارجي في الصراع الدائر في البلاد كما دعت إلى توحيد المعارضة السورية.
ضمت هيئة التنسيق الوطنية عند تأسيسها حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) وحزب العمل الشيوعي والحزب الاجتماعي الديمقراطي وحركة الاشتراكيين العرب وستة أحزاب كردية، منها حزب الاتحاد الديمقراطي، وشخصيات مستقلة، وبذلك شكلت هيئة التنسيق الوطنية منذ بداية تأسيسها وعبر مشروعها للحل السياسي في سورية مركز استقطاب للمهتمين بالحل السياسي داخلياً وعربياً ودولياً، حيث نجد أن جامعة الدول العربية في مبادرتها للحل الأزمة في سورية قد تبنت أغلبية بنود خارطتها للحل السياسي، ولكن نجدها من جهة اخرى قد فقدت ديناميتها وتأثيرها في الوسط السياسي والاجتماعي الداخلي بسبب تعميم الاحتراب على الحراك الشعبي وسيطرة صوت البنادق والمدافع على المشهد السياسي في المدن السورية وتغول النظام في القتل والاعتقال وتهجير المواطنين من مدنهم وقراهم وهيمنة شعارات الإسلام السياسي المتشدد، أمثال داعش وفرع القاعدة: أي تنظيم النصرة، وسيطرتها على مدن وقرى ومساحات واسعة من الأرض السورية، كما بقي تأثيرها الإقليمي والدولي محدودا أيضا بسبب استقلالية قرارها السياسي – الوطني وعدم ارتهانها للسياسات الإقليمية أو الدولية، كما أدى تجميد الأحزاب الكردية السورية عضويتها في هيئة التنسيق الوطنية منذ عام 2016 إلى إنهاء دورها في الشمال الشرقي السوري بعد أن أصبح إهتمام تلك الاحزاب الكردية، يتمحور حول الانفصال عن الدولة وقدرتها على تشكيل ادارتها الذاتية في المناطق التي سيطرت عليها بقوة السلاح بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وبدعم من القوات الامريكية المتواجدة في المنطقة وذلك انسحاب قوات النظام من منها.
رغم المساعي الكبيرة التي بذلتها جامعة الدول العربية ممثلة بأمينها العام نبيل العربي عامي ٢٠١١ و ٢٠١٣ وأيضاً الجهود الكبيرة لمصر في مؤتمري القاهرة لعامي ٢٠١٢ و ٢٠١٥ للوصول إلى تجميع أطياف المعارضة السورية على خارطة طريق الحل السياسي، إلا أنها لم تكلل تلك المساعي بالنجاح وذلك بسبب تهرب النظام من تطبيق الحل السياسي بالنسبة لجهود جامعة الدول العربية أو رفض بعض أطراف المعارضة في الائتلاف الوطني للحل السياسي.
استطاعت الارادة الدولية بعد صدور القرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ وبفعل التوافق الروسي الأمريكي حوله، أن تجمع أطراف المعارضة السورية عبر مؤتمري رياض ١ في عام ٢٠١٥ ورياض ٢ في عام ٢٠١٧ على الحل السياسي وعلى قاعدة بيان جنيف واحد وبقية القرارات الأخرى ذات الصلة بالأزمة السورية وبذلك أصبحت هيئة التفاوض السورية هي الممثل الشرعي للمعارضة السورية ومعترف بها دوليا بهذه الصفة في مفاوضات الحل السياسي بين المعارضة والنظام.
وعلى الضفة الأخرى من خارطة الانفجار السوري، لم يكن النظام مهتما بالحل السياسي للأزمة التي يعيشها الشعب السوري منذ ٢٠١١ رغم الجهود التي بذلت من بعض الدول العربية والإقليمية والدولية ومن جامعة الدول العربية ومن مجلس الأمن الدولي، فهو وبسبب بنيته الاستبدادية الفاسدة جابه الحراك الشعبي من اليوم الأول له بكل عنف ووحشية واعتبره مؤامرة كونية عليه هدفها إنهاء “دوره المقاوم والممانع” للعدو الصهيوني، فقد جابه هذا الحراك بالرصاص الحي والاعتقالات الجماعية والتصفيات الجسدية وكان غير مكترث للمطالب الإصلاحية التي نادى بها الحراك في بدايته كما لم يعط أذناً صاغية واستمر بالمراوغة مع مساعي جامعة الدول العربية لحل الازمة عبر الجلوس لطاولة المفاوضات مع المعارضة السورية على قاعدة المبادرة العربية التي قدمتها في نوفمبر لعام ٢٠١١، كما تهرب ولا يزال من التعامل إيجابيا مع القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن وقام بعرقلة أغلب جلسات مفاوضات الحل السياسي التي عقدت في جنيف بينه وبين هيئة المفاوضات السورية والتي تناوب على تيسيرها منذ صدور القرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ اثنان من المندوبين الدوليين أعلنوا فشلهم من الوصول الى حل سياسي للأزمة القائمة بسبب انعدام الارادة الداخلية والدولية الجادة لإنجاحها سواء من أطراف النزاع السورية أو من الدول المنخرطة فيه، هذا ولا تزال الأبواب مغلقة أمام الميسر الدولي الرابع (بيدرسون بعد كوفي عنان والأخضر الابراهيمي وديمستورا) سواء في المسار السياسي المعطل منذ أكثر عامين أو على مسار اللجنة الدستورية الذي بدأت جلساتها مع نهاية تشرين أول 2019 في جنيف فهي بدورها لم تحقق أي تقدم يذكر.
ما يعقّد الحل السياسي عند النظام ويعطيه سخونة أكثر هو ما يعيشه الداخل السوري بجانبه الاقتصادي – الاجتماعي الذي أصبح يشكل كارثة حقيقية فاق كل التقديرات لما يرافق هذا المشهد من تشديد القبضة الأمنية واعتقالات مستمرة واحتقان في الجنوب السوري وبطالة وفقر وفساد معمم ومشاكل اجتماعية يصعب حلها، ومدن وبلدات ومنازل وبنية تحتية مدمرة، وشعب نصفه بين مهجر ونازح وحوالي 150 ألف بين معتقل أو مغيب، إضافة إلى تواجد قوات روسية وايرانية وميليشيات عراقية وإيرانية وأفغانية واحتلال قوات أمريكية وتركية لأراضي سورية وأصبح لكل منها دور لا يمكن تجاوزه عند ترتيب الحل السياسي، هذا إلى إنخفاض قيمة العملة السورية أمام الدولار والعملات الأخرى، وارتفاع جنوني لأسعار المواد الغذائية والأساسية جعلت المواطن السوري يقف عاجزا أمامها، وأصبح أكثر من ثمانين بالمائة من الشعب دون خط الفقر، وعقوبات اقتصادية، أمريكية وأوربية بدأت على سورية مع تنفيذ قانون قيصر الأمريكي في حزيران هذا العام.
أمام هذه الصورة السوداء في المشهد السوري من حيث مأزقه في الحل السياسي، ومع فقدان الأمل عند الشعب السوري من عدم وجود نهاية لأزمته، وباعتبار تلك الأزمة لا تزال مرهونة للإرادة الدولية والدول الفاعلة فيها؛ فهل تنجح تلك الارادة في المستقبل القريب في تحقيق الحل السياسي على قاعدة بيان جنيف واحد والقرارات الأخرى ذات الصلة كما نجحت في تجميع المعارضة الموافقة على الحل السياسي عبر رياض ١ ورياض ٢، أم أصبح إنجاح الحل السياسي في سورية بحاجة إلى آليات عمل جديدة؟