السياسة والاقتصاد في سورية

على الأغلب أن القول بأن انقلاب 8 آذار 1963 قد أنتج ثورة هو صحيح، حيث أن الاستيلاء على السلطة السياسية لدولة عبر انقلاب عسكري قد قاد عبر التغيير في السلطة السياسية والعسكرية وفي الجهاز الإداري إلى إنتاج أداة سلطوية تمكنت عبر (الإصلاح الزراعي) و (تأميم البنوك والمصانع)، وهما خطوتان بدأتا في عهد الوحدة، من إنشاء علاقات اقتصادية-اجتماعية سورية جديدة نقلت البلد من حالة اقطاعية في الريف وحالة رأسمالية جنينية في البنوك والصناعة إلى نمط (رأسمالية الدولة).

أتت الفئة الحاكمة، بشكليها العسكري والمدني، في مرحلة ما بعد 8 آذار 1963 من أوساط ريفية في جبال الساحل وفي منطقة حوران وجبل العرب ومن بلدات صغيرة مثل السلمية ومن مدن صغيرة مثل دير الزور. كانت ضعيفة التمثيل الاجتماعي في مدن دمشق وحلب وحمص وحماة (فقد حزب البعث نفوذه في حماة بعد ابتعاد أكرم الحوراني عنه عام 1962). أنتج 8 آذار 1963 لوحة طبقية جديدة مع اختفاء تلك اللوحة القديمة التي كانت تتسيدها رأسمالية جديدة، نتجت في الحرب العالمية الثانية كرأس مال تراكمي، نتيجة حاجة جيوش الحلفاء لزراعة القمح والقطن في سورية لتغطية غذاء وكساء ملايين الجنود المنتشرين بين إيران ومصر، وهو ما تم توظيفه في ما بعد الحرب في الصناعة والبنوك. تلك الرأسمالية عجزت ولم تستطع تحقيق الإصلاح الزراعي، مما أعاق التطور الرأسمالي، وهو ما تولته قوى ريفية انتهجت طريق (رأسمالية الدولة)، وهو ما رأيناه في سورية ما بعد 8 آذار 1963 وفي مصر ما بعد 23 يوليو 1952.

كان الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، منذ مؤتمره الخامس المنعقد بحمص أيام 22-23-24 كانون أول 1978، قد أشار عبر كراس “موضوعات المؤتمر الخامس: الوضع في سورية” (50 صفحة) إلى أنه “بتكون قطاع الدولة وامتداده ونموه، ونمو الدولة، أخذت تتكون بينها وبين المجتمع علاقة تماثل العلاقة القائمة بين رب العمل والعمال” (ص7) وأن الدولة أمسكت “بمقاليد القوة الاقتصادية، إلى جانب قوتها التقليدية (القمع ووسائله)، فأصبحت أكبر رب عمل وحلت إلى حد كبير محل الرأسمالية التقليدية، وقام قطاع الدولة (القطاع العام) كتعبير اقتصادي عن نوع من رأسمالية الدولة” (ص7).

رأى حزبنا أنه تم عبر ذلك “إلحاق المجتمع بالدولة” (ص14). تخلى حزبنا عبر المؤتمر الخامس عن نظريات “التطور اللارأسمالي” و “الديموقراطية الشعبية” من خلال تبنيه توصيف (رأسمالية الدولة) للوضع السوري بمرحلة ما بعد 8 آذار 1963 وقد ربط الحزب بين (رأسمالية الدولة) وبين (الاستبداد السياسي) من خلال أن الأولى هي القاعدة الاقتصادية-الاجتماعية للبنية السياسية الفوقية المتمثلة في (الاستبداد السياسي) وأنها هي التي جعلته ممكناً.

من هنا كان تبني حزبنا لمقولة (الديموقراطية) كمدخل سياسي-دستوري-تشريعي إلى التغيير الاقتصادي-الاجتماعي وتبنيه (النضال السياسي من أجل التغيير الديمقراطي) بوصفه باباً اجبارياً للدخول إلى البيت حيث غرف (الاقتصاد) و (الاجتماع) و (الإدارة) و (الثقافة) من أجل التغيير في كل منها. من هنا لم نكن نؤمن بـ (النضال الاقتصادي المطلبي) كطريق مجدي في ظل أوضاع من الاستبداد السياسي وغياب الديموقراطية، وكان رأينا أن من كان ينادي بذلك منذ سبعينيات القرن العشرين، من شيوعيي “الجبهة الوطنية التقدمية”، كان يبرر بذلك تبعيته للسلطة القائمة ويبرر ويغطي عدم رغبته بالتغيير السياسي للأوضاع السورية القائمة.نحن نؤمن بـ (النضال المطلبي الاقتصادي) في ظل أوضاع ديمقراطية ونحن نعتبره نضالاً طبقياً ضرورياً من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية للكادحين بسواعدهم وأدمغتهم ومن أجل تثبيت مكاسب قانونية وتشريعية لهم ومن أجل زيادة وعيهم الطبقي والنقابي وربط هذا الوعي بالعمل السياسي.

هذا يمكن تحقيقه في ظل أوضاع ديمقراطية،أما في ظل (رأسمالية الدولة) المقترنة مع (الاستبداد السياسي) فنحن نرى أن الممر الوحيد والمجدي هو (التغيير السياسي) كمدخل اجباري إلى التغيير الاقتصادي-الاجتماعي، فنحن لا نؤمن بأن (الفساد) هو ظاهرة معزولة عن (الاستبداد السياسي)، كما أننا نرى بأن (السلطة) هي التي تصنع (الثروة) في (رأسمالية الدولة) وهي – أي السلطة – التي تنزع (الثروة) إن أرادت.

في سورية الآن هناك رأسمالية جديدة أنتجتها رأسمالية الدولة في فترة 1974-2020 ولدت من رحم الأخيرة في انعطافات أعوام 1974 و 1991 و 2004 و 2011. هناك انقسام طبقي واضح المعالم الآن في سورية لم يكن بهذا الوضوح في سورية ما بعد جلاء الفرنسيين عام 1946. كما في كل تجارب (رأسمالية الدولة) التي شهدها القرن العشرون، التي كانت مقترنة دائماً مع (الحزب الواحد)، فإن المنتهى يكون في (رأسمالية السوق) و (الديمقراطية). في سورية الراهنة فإن الرأسمالية الجديدة لاترى مصلحتها في (الديمقراطية) حتى الآن .

الآن، نحن نرى بأن الأوضاع السورية الراهنة والقائمة منذ انفجار الأزمة السورية في عام 2011 وحتى الآن هي نتيجة تراكمية لسورية ما بعد 8 آذار 1963. أصبح هناك انقسام كبير بين السوريين، وأصبحت هناك مناطق جغرافية من البلد منعزلة عن بعضها البعض. هناك احتلالات وهيمنات خارجية. أصبحت القوى الخارجية من دولية واقليمية هي التي تتحكم بمسار الأزمة السورية. الأولوية الآن هي اطفاء نيران الأزمة السورية عبر حل سياسي (ولو كان هذا تحت رعاية دولية-إقليمية) يقود إلى انتقال ديمقراطي نحو نظام سياسي جديد تتيح حرياته الديمقراطية المجال أمام السوريين من أجل خوض نضال وطني نحو تضميد جراح الأزمة وخوض الكفاح من أجل استعادة السيادة الوطنية السورية ضد كل أشكال الاحتلال والهيمنة والوصاية، وحيث تكون الديموقراطية منصة لخوض نضال اقتصادي-اجتماعي لصالح طبقات وفئات الكادحين والفقراء في بلد يعيش 80% من سكانه تحت خط الفقر.

من العدد ٤٦ من جريدة المسار