الدكتور جون نسطة
الشيوعي القديم المدمن…
في السنوات 56 و 57 من القرن الماضي توسع حزبنا، صاحب التنظيم الحديدي والمنظم جيداً، توسعاً كبيراً في كافة أطراف سوريا، ومن ضمنها الحركة الطلابية.في مدرستنا الغسانية في مدينة حمص، بلغ عدد الطلاب الشيوعيين 80 رفيقاً او اكثر بقليل، وكانت اجتماعات الفرق الحزبية تجري أسبوعياً، وكان علي ان احضر عشرة اجتماعات في الأسبوع أو أكثر بقليل، حيث كنت في قيادة منظمة المدرسة، التي تتبع اللجنة الفرعية، المسؤولة عن كل المنظمات الحزبية في كل مدارس حمص، وكنت اتصل مع ممثلي اللجنة الفرعية الرفاق فيصل عجمي، الذي كان فنانا تشكيلياً وأصبح فيما بعد أستاذا بكلية الفنون التشكيلية في دمشق، بعد ان تخلى عن شيوعيته، وكذلك أتصل بالرفيق بشير الخطاب، الذي حافظ على شيوعيته وإن كان خارج التنظيمات الحزبية، الى اخر يوم في حياته الخاصة والنضالية في مناهضة الاستبداد والديكتاتورية الاسدية.
في بداية الوحدة مع مصر في 22 من شهر شباط 1958 عمت المظاهرات الشعبية والطلابية كافة أنحاء المدينةَ، ولم نكن نحن في قواعد الحزب الشيوعي السوري على موقف متحفظ من الوحدة في البداية. أذكر أننا في هذا اليوم خرجنا من مدرستنا في مظاهرة تأييد للوحدة طافت شوارع المدينةَ إلى أن وصلت إلى دار الحكومة ،وكنا نحن الشيوعيين لا نشكل اقلية فيها بل عل العكس تماماً، وجرى تكليفي بالقاء كلمة المظاهرة، فوقفت على درجات البناء والقيت كلمة قلت فيه على ما أذكر، هذا يوم مدعى فرحنا وسرورنا وقد تسلمت أمورنا وقيادتنا أيادي بيضاء في مقارعة الاستعمار والامبريالية ومشاريعها وفي المقدمة مشروع حلف بغداد، وتحترم مطالب الشعب العامل والفلاحين….الخ.
كانت هذه أخر مظاهرة خرجنا بها في أيام الوحدة. بعدها علمنا بأن الرفيق خالد بكداش تفادى حضور جلسة مجلس النواب للمصادقة على الوحدة وسافر بنفس اليوم بالطائرة الى موسكو، وكان ذلك مؤشرا واضحا على عدم موافقة القيادة على الوحدة الاندماجية مع مصر، وعليها تحفظات موضوعية على البنود التي قامت عليها.
في شهر آب عام 1958، وقف الرفيق خالد بكداش على منبر مؤتمر الحزب الشيوعي البلغاري وألقى خطابا عرض فيه النقاط الثلاثة عشر للحزب، المتضمنة ضرورة مراعاة الظروف الموضوعية المختلفة لكلا القطرين المصري والسوري، والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية للشعب السوري والطبقة العاملة، والى ضرورة الحفاظ على الصناعة السورية وإلى متابعة الطريق لتطوير العلاقات مع الإتحاد السوفياتي وبقية دول المنظومة الاشتراكية لما فيه من فوائد لكلا القطرين الشمالي والجنوبي، وبالإضافة الى نقاط أخرى لم اعد اتذكر تفاصيلها، والتي كانت جميعها تصب في اصلاح الوحدة للمحافظة عليها وليس إلى معاداتها أو الدعوة لإسقاطها على الاطلاق.
لكن النظام هاجمها هجوماً ظالماً وشديد اللهجة، وتوتر الوضع في الشارع السياسي السوري.
أذكر أنني تشابكت بالنقاش مع طالب من ال السطلي لم أعد أذكر اسمه الاول، بعثيا، ناصريا، متعصبا، وتطور الامر للتشابك بالأيدي، ووجهت له ضربات قاسية، وتوعدني بالذهاب إلى دائرة المباحث، وهو الاسم الجديد الذي أطلقه النظام المصري بدلا عن المكتب الثاني القديم المعروف.
وخوفا من الاعتقال، قررت السفر إلى بيت تابع لمشاريع ري الأراضي الزراعية من نهر العاصي، قريباً من قرية تومين التابعة لمحافظة حماه، ويعمل شقيقي المرحوم لبيب نسطه على إدارته. وبقيت مختبئاً فيه لمدة ثلاثين يوماً كاملا، حتى توضحت الأمور، بأن المباحث لا تبحث عني.
كنت خلال هذه الفترة أنام النهار واسهر الليل حتى لا يراني أحد ويفسد علي. في هذه الفترة دعا شقيقي أحد معارفه من بدو بني خالد للسهر معي، وهذا الرجل البدوي واسمه أبو خالد، كان شاعراً نبطياً ويعزف على الربابة، ويغني بصوته الرخيم قصائد العرب المشهورة، والتي تروي غالب معارك العشائر البدو من العصور الاولى لدخول العرب المسلمين الى بلاد الشام حتى تاريخه. وسلسل لي كافة أصول القبائل العربية، والتي حسب معلوماته، ترجع كلها إلى الإمام الحسن.
كانت ليالي ممتعة واخبارها جديدة علي، تعلمت منها الكثير وحفظت بعض قليل من اشعارها.
وهناك وبالقرب من بيت الري، كما كنا نسميه،خيم الشاعر الحمصي الكبير، بل شاعر حمص وصفي القرنفلي، الذي كان يعمل مساحاً للأراضي الزراعية، يرافقه عاملاً واحداً يساعده.
كنت اعرف الشاعر وصفي القرنفلي من خلال جلساته الأدبية والشعرية التي كان يعقدها في مقهى الروضة الشهير في حمص والذي كان يعج بحضور الأدباء والسياسيين من كافة الإتجاهات، وكان يسمى بمطبخ السياسة، ومن ثم انتقل إلى مقهى الفرح المجاور للروضة، وكنت أسمع أخباره وعن طباعه، من ابن اخته صديقي من آل القرنفلي أيضاً.
كان مثلا لما يجلس في المقاهي في حمص أو دمشق، التي كان يزورها كثيراً، ويلتم حوله مجموعة من محبيه ومعارفه، لا يسمح لأحد أن يدفع قرشاً واحداً من قيمة المشروبات التي يتعاطوها، ويدفع عن الكل.
واذكر حادثة طريفة تعبر عن أخلاقه المتزمتة، قمت بزيارته في خيمته الجارة لبيت الري، الذي كنت أقيم فيه، وبيدي صحيفة او جريدة، فسألني ان كانت حديثة، قلت نعم وهي تحت تصرفك، فأجابني، بأن عليه أن يدفع لي ثمنها أولاً ومن ثم يقرأها. كان حنيفاً، صارماً مع نفسه ومع كرامته.
وصفي القرنفلي يستحق أن أقف عنده قليلاً. كان شاعراً رومانسياً، غنى للحب والطبيعة، ودعى في أشعاره إلى النضال ضد الإستعمار الفرنسي، وضد النظام الإقطاعي السائد، ودعى الى انصاف العمال وإعطائهم حقوقهم كاملة، بل إلى الثورة الإشتراكية.
وفي بيت من قصائده يقول:
أن الشيوعية الحمراء في دمنا… نار تصبح رويداً تطلق اللهبا
كان شيوعياً، درس الماركسية جيدا واعتنقها، وعروبياً بنفس الوقت يقول في إحدى قصائده:
سبح الصبح ان راءنا وانتشى… الدرب يوم همت خطانا
عرب نحن والعروبة إنسان شريف يستنكر العدوانا
وفي بيت آخر يقول:
قل للندنا إن غص السؤال بها… الريح شرقية والشام في السحب
مرض الشاعر الكبير وصفي القرنفلي، وهو من أدخل إلى الشعر العربي اضافات هامة مشهودة له من كافة النقاد ولم يعتني بنفسه، في العام 1965، وأحيل الى التقاعد، وبدأ جسده بالذبول، واصبح خيالاً، وتوفي وحيداً، وهو لم يكن متجوزاً، يرعاه شقيقه وشقيقاته وأولادهم.
وحضر، قادماً من بيروت، حفل تأبينه، الشاعر السوري الكبير نزار قباني، حيث القى كلمة مؤثرة وهامة، موجودة على الإنترنت لمن يرغب بالإطلاع عليها، ودفن في مقبرة مار اليان في حمص القديمة.
وقبل أن أنهي كلامي عن الشاعر المتميز وصفي القرنفلي أحب أن أروي هذه المعلومة التي تدل على شهامة نفسه وتعاليها.
كان عندما تقاعد يسافر إلى دمشق العاصمة في فصل الصيف ويجلس لتعاطي الاركيلة، في مقهى الكمال الصيفي، وهناك يجلس مساءا أيضاً على طاولة متجاورة من طاولته شاعر العرب الكبير مهدي الجواهري. وكان الاثنان يعرفان بعضهم بالسمع، ويقدر الشخص الآخر ويحترمه. ولكن مضت سنين ولم يتقدم منهما الى طاولة الآخر، ولم يتقابلان على الاطلاق.
بالعودة إلى السياسة، عندما رجعت إلى المدينة وأعدت اتصالاتي مع منظمتي الحزبية في أواخر العام 1958، ولكنني كنت متواري عن الأنظار بالقدر المطلوب، عمدت إلى تشكيل فرقة حزبية من أطفال صغار، من طلاب المدرسةِ الغسانية، من محبي الحزب وانصاره، سميتها فرقة المراسلات، لأنها كانت تقوم بنقل رسائلي الخطية إلى الرفاق الآخرين وتنقل رسائلهم لي، كانوا أعضاءها نشيطين ومتحمسين ولا يلفتوا نظر أحد، ومن اعضاءها أذكر اسم زهير جبور ومحسن عبود وشقيقه مرشد عبود وغيرهم.
انقطعت طبعا عن المدرسة ولكني كنت حولها.
في 14 كانون أول 1958 على ما أذكر قدم المبعوث الاميركي الى الشرق الاوسط ويليام راونتري، حاملاً معه مشروعه لحل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، وزار القاهرة، لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر. عندها عمل حزبنا الشيوعي بتنظيم حملة تواقيع على عرائض تندد بالزيارة وعلى مشروعه ،وعلى استقباله من قبل الرئيس.
وكنت أحمل إحدى العرائض واجمع تواقيع عليها من قبل الناس في الشوارع، وإذا بمجموعة من رجال المباحث السريين يلقون القبض علي ويذهبون بي الى مكتب رئيس فرع المباحث المجرم عبدو حكيم.
دخلت المكتب ولم أرى أية وسيلة من وسائل التعذيب من عصي أو أجهزة كهربائية الخ، فاطمأن قلبي.كان مكتبا أنيقا ،يجلس على طاولة كبيرة عبدو حكيم الذي قام باستقبالي على صفعة شديدة على خدي الأيمن، ثم قام بقراءة العريضة وتمزيقها أمامي، وسألني… ولا.. أنتم تريدون ان تعلموا جمال عبد الناصر الوطنية، أجبته نعم… ونحن الشيوعيين أشد المناضلين ضد الإمبريالية الأميركية وأصلبهم. كان الطقس باردا وفي مكتبه مدفأة تعمل على المازوت ولم تسترعي اهتمامي وكنت أقف إلى جانبها، واذ به يقوم بانتزاع بنطلوني وما تحته إلى الأرض ويجلسني عليها بحركة سريعة جدا وخاطفة. بعدها أطلق سراحي ولم يعتقلني. وكنت اشعر بألم شديد، واستطيع السير. بقيت وقتاً طويلاً أعاني من الألم، لم أعلم أهلي بما جرى.
في ليلة عيد رأس السنة 1959، وكنا مجموعة من الرفاق والاصدقاء، نسهرفي بيت رفيقي وصديقي المحبب عون جبور، جاءنا خبر يحمله احد الرفاق الطيبين، بأن عملية اعتقال واسعة من قبل مباحث حمص شملت عدداً كبيراً من قيادات الحزب وكوادره.
وفي يوم الرابع عشر من شهر شباط عام 1959 علمنا باستشهاد رفيقنا اللامع والمحبوب، معلم المدرسةِ وعضو قيادةٍ المعلمين، سعيد الدروبي ابو طاهر، على يد المجرم السفاح عبدو حكيم رئيس مباحث حمص.
أثار هذا الخبر المؤلم مشاعر أهل المدينةَ كلها، وظهرت علائم الاستنكار والغضب على وجوه الناس. فعمد المجرم عبدو حكيم إلى الادعاء بأن سبب موته تعود الى انتحاره، وليس إلى التعذيب، وطلب معاينة الجثة من قبل الطبيب الشرعي الدكتور أمين طرابلسي، ضاغطاً عليه ومهدداً له، بأن يكتب على تقريره، بأن سبب الوفاة تعود إلى الانتحار، رفض الطبيب طرابلسي الرضوخ لتهديداته وكتب بأنه توفي بسبب التعذيب الواضح الأثر على الجثة، مبرهناً على نزاهة عالية، ومحافظاً على شرف المهنة. وهذا الموقف النبيل لا يزال الى اليوم مطبوعاً على ذاكرة قدامى السن من الشيوعيين وأصدقائهم.
في اليوم التالي لاستشهاده تجمع الآلاف من أهل المدينة وبعض القرى امام منزل الشهيد وساروا خلف نعشه المحمول على الأكتاف، متوجهين من مركز المدينة، حيث يقع منزله، إلى شرق المدينة، لمقبرة خالد بن الوليد.
يقدر عدد المشاركين بالجنازة بحوالي ثلاثين ألفا،تحولوا الى ما يشبه المظاهرة.اصطف على طول الطريق على الصفين العساكر مع أسلحتهم الكاملة،ولم يتدخلوا ولم يستفزوا أحداً من المتظاهرين.
وصلنا إلى المقبرة بعد مسيرة طويلة، وتجمعت الناس حول القبر، حين صعد على مرتفع قريباً منه، رفيق يلبس على رأسه طاقية تغطي كامل وجهه، ولا تظهر إلا العينين من خلال ثقبين فيها. وألقى كلمة الحزب بتأبين الشهيد إبن حمص البار وابن عائلة وجيهة ومعروفة جداً، وكان أول شهداء الحزب الشيوعي السوري على يد المخابرات السلطانية السراجية. وفيما بعد علمنا أن من ألقى كلمة تأبين الشهيد، كلمة الحزب الشيوعي، كان الرفيق رياض الترك، الذي لم يكن اسمه معروفاً في أوساط الحزب في ذلك الوقت.
فيما بعد علمنا أن المباحث طلبت من ستوديو شكري عواد في شارع الدبلان، تصوير من شاركوا بالجنازة، ولكنه رفض هذا التكليف، لأنه هو من أنصار الحزب، وأولاده وبناته أعضاء نشطين في الحزب الشيوعي أيضاً.
فقامت المباحث بتكلبف ستوديو آخر بهذه المهمة القذرة وقبل، وقام بعملية التصوير. ولهذا قمت وبعض الرفاق الاخرين للدخول الى تحت الأرض، كما يسميه البعض، وإلى التخفي السري، كما نسميه نحن. وأرسلت رسائل الى الغرق الحزبية بضرورة الحذر الشديد، وأن يختفي، من يظن نفسه مهدداً بالاعتقال، بشكل كيفي وخاص، لأن الحزب لا يملك بيوتاً سرية كافية لكل الرفاق ومن ضمنهم أنا أيضاً. وجرى هنا سماع بعض الآراء من بعض الرفاق يقول: “كيف يدخل الحزب هذه المعركة مع النظام، دون أن يكون مستعداً لها، وكيف يخطب الرفيق خالد بكداش من منصات الخارج في صوفيا وموسكو، متمتعاً بالأمان، متحدياً النظام، ونحن نترك لوحدنا، دون حماية بيوت سرية، وخطة انسحاب، لمواجهة الاعتقال”.
انا شخصياً توجهت إلى بيت خالي وإلى بيت خالتي واختفيت هناكَ.
وكنت عندما أخرج للضرورة، ولمقابلة أحد الرفاق، أرتدي عباءة زرقاء من الجوخ، ورثتها من جدي، أغطي فيها رأسي، فاتحاً فجوة فيها للتنفس والرؤية فقط.
جاء أحد أصدقاء خالي ويدعى أبو الخير طليمات وهو رجل متعاطفاً مع حزبنا، ذكياً، حاذقاً، وقال لي: “تنقل با جون، ولا تبقى في مكان واحد طويلاً، لأن للجدران عيون وآذان”.
سمعت بنصيحته وبدأت أبحث عن بيت آخر للاختباء فيه، فذهبت إلى بيت صديق حميم، شيوعي سابقاً، اسمه اسبر بيطار، من قرية مشتى الحلو سابقاً، رجل صادق ومخلص، وأمين وكريم، بقيت عنده فترة طويلة، أختبئ بمخدع خاص، عندما يأتي لعندهم بعض الزوار. وتطبيقا لنصيحة ابو الخير طليمات، بدأت مع صديقي اسبر نبحث عن بيت أخر، فتكلم مع صديق له، لي معرفة سطحية معه، بموضوع استضافتي، فرحب وقال أهلا وسهلاً. يدعى ألبير، نسيت إسم عائلته القادمة من الجزيرة السورية.
كان يسكن وعائلته في بيت عربي، لهم غرفة معيشة ومطبخ، وغرفة ضيوف، تشرف كلها على أرض الدار الواسعة، وكان يسكن في نفس الدار عائلات مستأجرة أخرى في غرف منفردة أيضاً. استقبلني استقبالا حاراً، علما بأنه منظم في حزب البعث العربي الاشتراكي، وأكرمني اكراماً لا يوصف، واسكنني في غرفة الضيوف منفرداً، كان علي أن أنام في النهار، واسهر معاه في الليل، مسدلاً لستائر الغرفة بشكل محكم تماماً، حتى لا يراني أحد من الجيران. سهرنا ليال جميلة جداً، نتحدث بالسياسة، وبأمور حياتية أخرى، وتوضدت معه أواصر صداقة حارة ومتينة.
في احدى الليالي، وعلى ما يبدو أكيداً نسينا ان نسدل الستائر بشكل محكم، طرق باب الغرفة أحد الجيران، حوالي الساعة الثانية صباحاً، وكان ذاهباً إلى المرحاض في أرض الدار، ورآني من فجوة الستائر، وكان يعرفني شيوعياً نشطاً، وطلب من ألبير ان يخرجني فوراً من الدار، وإلا سيكون مضطراً لأخبار المباحث. كان موقفاً حرجاً لي ولمضيفي. خرجت من البيت تحت التهديد، مع أسف واحراج صديقي ألبير، ولكن لم أكن أعرف إلى أين.
كان هذا ظرفاً من أصعب الظروف التي مررت بها في حياتي.
قررت أن أسير، مختبئاً بعباءة جدي، بشوارع المدينةَ القديمة، حتى تدب الحركة في المدينةَ، وأطرق باب أحد اصدقائي من البعثيين الشرفاء، ولا أرغب الآن ذكر اسمه لأنه لا يزال على قيد الحياة، فاستقبلني استقبالاً حاراً أيضاً، رغم معرفته بأنني ملاحق من قبل رجال الأمن، بقيت عنده بضعة أيام، بعد أن أقمت صلة برفيق سري، اسمه أبو مكسيم من قرية قطينة المجاورة لمدينة حمص. وكان على ما يبدو عضواً في اللجنة المنطقية لمحافظة حمص، المشكلة حديثاً، أي بعد حملة الاعتقالات الشاملة، والتي طالت أغلب القيادات الحزبية. تشكلت اللجنة المنطقية السرية الجديدة من رفاق مناضلين سريين ورفاق كانوا مهملين حزبياً، ولكنهم ظلوا أوفياء للحزب بقيادة المناضل، العامل، راتب جبنة. وربما كان، كما علمت من وقت قريب، من عدادها الرفيق صبحي انطون، ومناضل فلاحي آخر يدعى أبو جون من قرية الوريدة.
بعد فترة قصيرة جرى إعلامي بتوصية الرفيق راتب جبنة لي، بأن علي السفر الى لبنان، سراً طبعاً، لأنني وجه طلابي معروف من قبل عديد من الناس، ومن أجهزة المباحث، ولا أصلح، لذلك، للعمل السري.
قمت، متخفياً طبعاً، بمغامرة الذهاب إلى بيتنا في حي المحطة، لوداع أمي التي كنت أحبها حباً جنونياً، واعلمتها بنيتي بمغادرة حمص إلى لبنان. سمع اخي لبيب برغبتي هذه، وكان رجلاً شهماً، محباً، يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل فرد من أفراد الأسرة، وقال لي انه سيرافقني في رحلتي السرية هذه.
وفي اليوم التالي استأجر سيارة يثق بسائقها، وتوجهنا بها الى حدود لبنان من جهة معبر العريضة، قبل المعبر نزلنا من السيارة، التي عادت الى حمص، وسرنا في الليل الدامس باتجاه نهر الكبير الجنوبي. كان لبببا خبيرا في الأرض فكان بين الفينة والأخرى ينبطح على الأرض واضعاً أذنه عليها، لسماع اهتزازاً ناتجاً عن سير إحدى الدوريات العسكرية عليها المحتملة. وصلنا إلى ضفة النهر وكان علينا اجتيازه إلى الضفة الأخرى الواقعة في أرض لبنان. كان الوقت في أوائل شهر نيسان من العام 1959. ولم يكن النهر عميقاً، إذ وصل الماء الى وسط أجسادنا لا غير.
تنفسنا الصعداء، وغاب عنا الخوف والهم، وشعرت بالأمان بعد أشهر من الرعب عشتها في العمل السري.
أوقفنا بعد فترة وجيزة باصا متجها إلى مدينة طرابلس، حيث بحثنا عن فندق متواضع، يناسب وضعنا المتواضع. نام شقيقي لبيب هذه الليلة معي، وفي اليوم التالي غادرني الى حمص متوجها لعمله، بعد أن زودني بمبلغ محترم من المال، في حينه.
خرجت من الفندق، بعد نوم عميق وطويل، لأتعرف على بعض شوارع المدينة، التي لم أكن أعرفها، وابتعت بعض الثياب الداخلية والخارجية، وبحثت عن مطعم بسيط، فوجدته في أطراف المدينة، يشوي لحماً ويقدم بعض أطباق المقبلات من حمص ومتبل وسلطة ومخلل الخ. وأصبحت من زبائنه، يومياً لوجبة وحيدة في اليوم.
بعد فترة قصيرة تواصلت، برسالة سرية، مع رفيقي وصديقي المحبب عون جبور، وأعلمته بوجودي في طرابلس، مع عنوان الفندق. سائلاً إياه إن كان يرغب بالانضمام لي، وكان مختبئاً أيضاً في بيت أخواله من آل الصباغ في حمص.لم يمضي وقتاً طويلا حتى قدومه، فتونست به كثيراً. ولم يمض أيضاً وقتاً طويلاً حتى جاءني رفيقاً وجاراً أخر يدعى أسعد دلاور، كنت قد ذكرت إسمه سابقاً.
في طرابلس لي أقارب، أولاد خال والدي من بيت عبود، منهم سامي عبو، صاحب متجر كبير لبيع الجوخ والخياطة أيضاً، رحب بي وبرفاقي، ترحيباً طيباً، وكان يدعونا إلى بيته دعوات متعددة ومتكررة لتناول الطعام والسهر. كانت عائلته مؤلفة من عدة أولاد وبنات وزوجة كريمة محبة، تشعرنا بالدفء العائلي، الذي كنا نفتقده كثيراً في مغتربنا الجديد.
وكان له شقيق، يعمل في شركة نفط العراق بدرجة ممتازة، يدعى أسعد عبود، ما إن سمع بوجودي في طرابلس، واسكن مع رفاقي، حتى جاءني معاتباً عتاباً شديداً، ومؤنباً أيما تأنيب، كيف أسكن في فندق ولي بيتا، طبعا يقصد بيته، في طرابلس.
أنزل حقائبنا، نحن الثلاثة إلى سيارته، متوجهاً إلى بيته، في حي الزاهرة، كما أتذكر، وكان في استقبالنا سيدة من ألطف ما عرفت من الزوجات في حياتي. قامت بتجهيّز مائدة عامرة بأطيب الأطعمة، التي كنا نشتهيها، بعد غياب عن أسرنا وأمهاتنا.
قدموا لنا غرفة مع ثلاثة أسرّة وثيرة للغاية. وأحضر لي دخاناً أو سجائر من ماركة شوستر فيلد، تكفي لأسبوع كامل. كانت زوجته توقظنا بنعومة، حاملة معها الى أسرتنا، أكواب كبيرة من عصير البرتقال، ومن ثم تدعونا لتناول طعام الفطور الفاخر، الذي لم نعتاد عليه في بيوت أهلنا، وفيما بعد الى طاولة الغذاء، ثم العشاء، وهكذا دواليك لفترة أسابيع عديدة. كان وما يزال، اسعد عبود وزوجته، من أكرم الناس الذين قابلتهم بحياتي الزاخرة بمعرفة البشر. حلمت لسنين طويلة أن أرد بعض الجميل إليه، بعد عودتي الى الوطن وتحسن أوضاعي المادية، ولكن الموت قد سبقني باستضافة سيد من أسياد الكرم، إلى أعلى عليين.
استطعنا أن نقيم صلة مع منظمة الحزب في بيروت وطلب الرفاق هناكَ أن نحضر إلى بيروت. ودعنا اقاربي على مضض وسافرنا، الرفيق عون وأنا إلى هناك، بعد أن كان الرفيق أسعد دلاور قد رجع إلى حمص، للأنه لم يستطع فراق أهله، واشتد عليه الشوق وغادرنا. وصلنا الى بيروت ونجحنا بسرعة أن نعثر على بيت الرفيق الحمصي معلم الكهرباء جورج خزام من حي الحميدية، حسب العنوان الذي أعلمونا به.. كان لقاءً حاراً شابه الذكريات الحزينة للملاحقات الأمنية وفراق الوطن.
في اليوم التالي توجهنا، مع الرفيق عبد الكريم نادر الى كمب حاجين، وهو حي قديم، فقير، ضيق الطرقات، مزدحم بسكان كلهم من الأرمن، ذوي الاتجاهات التقدمية، من أعضاء وأنصار وأصدقاء حزب الطاشناك الأرمني، وبعض الشيوعيين. هناك قابلنا مسؤول حزب الطاشناك وعرفناه على أنفسنا، وقام هو بدوره بالترحيب بنا كسكان جدد في هذا المخيم، شارحاً بسرعة تاريخ الحي معرجاً إلى كونه شارك في الحرب الأهلية عام 1958 ضد كميل شمعون ومن أجل طرد الأسطول الأميركي عن السواحل اللبنانية، وكيف أن عدد من المقاتلين الأرمن الشباب، رفضوا تسليم أسلحتهم، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وظلوا يقومون بأعمال عنفية تجاه رجال الأمن، وتجاه الأرمن الطاشناك، وأحياناً كثيرة تجاه مواطنين عاديين، بغرض فرض خوة، ومن التجار والأغنياء على وجه الخصوص.
ومن أبرز قادة وزعماء أو أمراء حرب هذه المجموعات، ومن سكان هذا الحي أسماء كبيرة يعرفها كل سكان بيروت…أرتين الأسمر، ومماس. وقال لنا لا يمكنكم مساءا دخول الحي، بالسيارة، إلا بعد إرسال شيفرة ضوئية معينة، وإلا سوف ينهال عليكم الرصاص من كل جانب، والشيفرة تتغير من وقت لآخر.
وقال ان الرفيق أرتين الأسمر أقل شراسة وعدوانية من مماس. ووعد بترتيب موعد قريب مع الرفيقين. ثم قام بقرع أجراس بيت قريب جداً من موقعنا، فخرج منه رجلا أربعيني طويلا مفتول العضلات، وتكلم معه وأخبره باننا سننضم إلى رفاق سوريين بالسكن في بيته، فسلم علينا بحرارة وأدخلنا إلى غرفة واسعة نسبياً، وجدنا فيها رفاق نعرف بعضهم، والبعض الآخر لا نعرفه .
جرى السلام والعناق والترحيب، ثم غادرنا الرفيق عبد الكريم نادر. وهو رجل لا أستطيع إلا التوقف عنده.