سوريا بلد في مهب الريح

مصطفى سعد

درسنا في كتب التاريخ المدرسية كيف افتتح نابليون بونابرت أول خطاب له بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) عند غزو بلاده لمصر، في الحملة التي امتدت من 1798 إلى 1801، كما أنّه عندما هزم نابليون الجيش البروسي في 15 أكتوبر 1806، دخل ألمانيا فاتحاً وأول عمل قام به هو زيارة الشاعر غوته.

منذ إعادة الملكية لانكلترا عام 1660، انتشرت الثقافة الفرنسية في قصور المملكة الانكليزية (بريطانيا هي نتيجة توحد انكلترا واسكوتلاندا عام 1707)، مما جعل من ذلك التفوق الثقافي نقطة لصالح فرنسا تعوّض فيها ضعفها العسكري الواضح مقابل الانكليز (ثم البريطانيين)، فعلمت البشرية أسلوباً جديداً في الغزو والاحتلال، متغيراً بحسب الضرورة والخصوصية.

فكانت تغزو بطابع تبشيري وثقافي معتمدة على مشارب عدة كما تقتضي الحاجة، تتبنّى تارة أفكار الثورة الفرنسية معتمدة على أفكار بعض الفلاسفة، أمثال أوغست كونت ومن كان معه من أتباع هنري دو سان سيمون، وفي أحيان أُخر، من النزعة الراديكالية التي مثلها صاحب نداء “أنا أصنع الحرب” الزعيم القوي جورج بنيامين كلمانصو، أو من أفكار الوضعية (رينان) أو من اليسوعية، وحتى من بعض الأفكار الكاثوليكية.

وكما هي عادة أي محتل غالباً ما كان يعمل على ضرب السلم الأهلي وتأجيج الفتن الدينية أو القومية أو المذهبية، لكن بأسلوب خاص وبصمة واضحة، فيدعم هويات ثقافية، خصوصاً من كانت منها تحمل فكراً غير تقليدي ويميل للتغريب، وغالباً أقلوية، لتقف في وجه غيرها من الهويات الثقافية في البلد المُحتل.

ونراها في لبنان كيف اعتمدت على الموارنة دون باقي الطوائف، وفي الجزائر البربر ضد العرب، وفي الفيتنام لم تخرج عن سياستها تلك.

إذن هذا الأسلوب التي تفردت به فرنسا مقارنة مع باقي الدول الاستعمارية التي اعتمدت على القوة المباشرة، لكنها في الوقت نفسه لم تكن “الأم الحنون” إلا لبلد يسمى لبنان، كانت هي من أوجدته على الخارطة كبلد مستقل منذ مئة عام عندما أعلنه الجنرال غورو عام 1920 (دولة لبنان الكبير)، كما وعدت البطريرك الماروني إلياس الحويك، وليس مصادفة أن يأتي الرئيس الفرنسي لزيارة بيروت بعد قرن تماماً من هذا الإعلان في  الأول من أيلول 2020.

الجدير بالذكر، ذريعتهم للمجيء إلى سوريا عندما قالوا: (جئنا لحماية المسيحيين)، ورفض الزعيم الوطني فارس الخوري لتلك الحماية، أما في لبنان فالوضع يختلف عن جارتها سوريا.

اللبنانيون، يشعرون بالامتنان لفرنسا التي أوجدت بلادهم بشكله الحالي، وقسم كبير منهم يتغنى بهوية فينيقية على عكس القوميين واليساريين الذين يؤكدون على انتمائهم العربي.

القسم الأول، وغالبية الطوائف المسيحية لديهم هوى باريسي وثقافة فرنسية. فالثقافة الباريسية لها حضورها الواضح والجلي في بيروت، معظم المدارس الفرانكفونية تابعة للكنائس الكاثوليكية، كما أنّ المعهد الفرنسي في بيروت يعتبر من أهم الممولين والداعمين للأنشطة المسرحية والحركة الفنية عموماً، بالإضافة لوجود قامات فكرية وأدبية من لبنان تكتب باللغة الفرنسية لتترجم أعمالهم إلى العربية، أمثال الكاتب أمين معلوف الذي يعد أول لبناني ينتخب في عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية.

بعد مظاهرات لبنان 2019، ونزول الناس للساحات وإفلاس الطبقة السياسية الحاكمة ويأس شعبي وغضب، حاولت القيادات المهترئة لملمته، جاء انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من شهر آب الماضي، ليسقط ورقة التوت الأخيرة عن ساسة لبنان وزعماء طوائفها.

رافق ذلك وصول “المنقذ” الفرنسي، وما جرى بعد وصوله من أحاديث تم تسريبها للإعلام عن تهديده لممثلي القوى السياسية أثناء اللقاء معهم في سفارة بلاده في بيروت، وزيارته لمنزل السيدة فيروز، ومن غير فيروز يمكن أن يجمع اللبنانيون عليه كقيمة فنية وكرمز يضاهي أشجار الأرز في جبل لبنان؟.

الشعب اللبناني لا يثق بالطبقة السياسية الحاكمة ويرغب في تغيير نظامه، ويريد دولة لا يحكمها قانون الطائف، الذي مكًن الزعماء من النهب والسيطرة لسنوات وسنوات.

بدأ المواطن اللبناني العاجز يستذكر مواقف فرنسا البطولية وأعمالها العديدة التي قدمتها كرمى لعينيه (تماماً كما يستذكر المواطن السوري العاجز مواقف روسيا أو تركيا أو إيران أو الولايات المتحدة البطولية، والأعمال العديدة التي قدمتها تلك الدول كرمى لعينيه). فيتحدث عن الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، عندما قام برعاية مؤتمرات باريس 1 و2 عام 2001، وباريس 3 عام 2007، لدعم لبنان اقتصادياً، ونجح بجمع مليارات الدولارات من الجهات المانحة، وعن وصوله السريع بعد مقتل رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، في شباط 2005. وفي عام 2018، رعت فرنسا من جديد مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان، بعد فشل الدولة اللبنانية بإنجاز الإصلاحات الموعودة في مؤتمرات باريس الثلاثة، وجمعت أكثر من 12 مليار دولار، لكن كل هذه المؤتمرات لم تجعل الاقتصاد اللبناني اقتصاد سليماً ومعافى. ليختتم بقول ماكرون: “لبنان ليس وحيداً”، ويراهن على ضغط فرنسا لخلق الدولة المشتهاة.

لكنه نسي في الوقت نفسه، أنّ فرنسا تخلت عنه في حرب أهلية دمرت البلاد، ولم تنقذه حين اجتاحت إسرائيل بيروت، ولا عندما أقامت المجازر بشعبه على أراضيه، وكذلك الأمر عند إعادة إعماره لم يكن لفرنسا أي حضور. 

هذا أيضاً ما يحصل مع المواطن السوري، وكأنّ السوري واللبناني يؤكدان خاتمة كل مقطع من رواية “أولاد حارتنا” للكبير نجيب محفوظ حين كان يقول: “آفة حارتنا النسيان”.

لذلك علينا أن نسأل: ماذا يريد ماكرون من لبنان؟

أشار ماكرون في زيارته الأولى للبنان بعد التفجير، أنّ ما يترتب عليه عمله تجاه لبنان سيكون ضمن موقف أمريكي _أوروبي مشترك، لكن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من بيروت واضح تماماً، منذ الثامن من أيار 2018، عندما انقلب ترامب على الاتفاق النووي الإيراني، فهي عادت لتكون ساحة صراع بين واشنطن وطهران، وليس من الذكاء قراءة ما يجري في المنطقة كأحداث منفصلة، فصفقة القرن وانفجار مرفأ بيروت،د وبعدها تطبيع كل من الإمارات والبحرين مع إسرائيل، وكما يقال “الحبل عالجرار”، وبالتالي تحييد مرفأ بيروت لصالح مرفأ حيفا، كمرفأ أول للمنطقة.

أما فرنسا تملك رؤية مختلفة للصراع بين واشنطن وطهران، وتعارض التصعيد مع طهران وتسعى جاهدة خلق شرعية سياسية لحزب الله بعيداً عن سلاحه، وهي كقوة ليست عظمى خرجت من الأزمة السورية بخفيَ حنين لكن تملك إرثاً استعمارياً عظيماً، تحاول إيجاد موطئ قدم لها في بلد وصفه وزير خارجيته المستقيل، ناصيف حتِي، بأنّه بلد فاشل، لكنه ضمن منطقة جغرافية تتقاسمها القوى الإقليمية والدولية بغياب أوروبي واضح، فهل ينجح ماكرون بالسيطرة على لبنان الفاشل؟.

احتمالان.. أحلاهما مر:

الأول، أن ينجح ماكرون في السيطرة على لبنان، وبالتالي بقاء البلد في حالة استنقاع لأمد غير معلوم، مستغلاً انشغال الرجل الأقوى في العالم بانتخاباته الداخلية.

الثاني، أن تستمر واشنطن وطهران باللعب خارج أراضيهما، ونفخ الرماد الذي يغطي جمر الشارع في لبنان.

ختاماً، الحال في لبنان كما سوريا، بلدٌ يفتقد للسيادة ومصيره بيد القوى الأجنبية، والمرحلة القادمة مرحلة تحرّر وطني بامتياز مسؤوليتها تقع على عاتق النخب والأحرار في البلدين.

من العدد ٤٥ من جريدة المسار