مصطفى سعد
الحظ العاثر هل يأتي إلينا عند قدومنا للحياة مترافقاً مع الشقاء، أم أنّ الحظ العاثر تكون نسبه مرتفعة أم منخفضة حسب الدولة التي نولد بها؟ هل الجغرافيا تنتقم أحياناً وتنعم في أحيانٍ أُخر؟ أسئلة بسيطة جداً لكن مختلف عليها دائماً. الحظ العاثر منذ القدم وإلى يومنا هذا، وعلى الرغم من هيمنة العولمة على هذا الكوكب المنفتح بعضه على بعض، تبقى أهدفنا وطموحاتنا وأحلامنا وقدراتنا رهن الزمان والمكان المتواجدين فيه.
هنا في سوريا، مثلاً، لا نحتاج دراسات محلية أو إقليمية أو دولية، ولن نستشهد بإحصائيات معينة أو تصويت شعبي، لندرك أنّ الأغلبية من الشباب يرغبون في الهجرة والغربة البعيدة عن عادات ومقاييس وأحكام وماء وهواء الوطن.
في الحديث مع أي مجموعة من الناس، على اختلاف طبقاتهم وهوياتهم الفرعية، نسمع الرغبة في السفر، وأنّهم اليوم في حالة سعي لإنهاء مرحلة دراسية أو مهنية لأجل البحث عن ذواتهم وآمالهم خارج قضبان البلاد، غير آسفين على ياسمين وطنهم وزرقة سمائه.
شعب بأغلبيته يجد نفسه في محطة لا يأتي لها أي قطار مهما كانت وجهته، حتى ولو كانت إلى الخلف، ليستقر به في خمسينيات القرن الماضي، شعب بأغلبيته يرى حظّه عاثراً وغير جيد بما يكفي.
أذكر تماماً موقف تكرّر عشرات المرات مع أصدقاء وصديقات وزملاء، يعبّرون ليلاً ونهاراً وفي المجالس الخاصة والعامة وأماكن العمل، عن يأسهم وسخطهم وانعدام الأمل واللاجدوى، وبعد أيام قليلة نجدهم عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي “يشعرون بالسعادة” في اليونان وقبرص وتركيا وألمانيا وهولندا، وحتى في السودان.
عند تسجيل دخولنا للغرف الافتراضية، نرى على الجدار غزل الأقلام الإلكترونية بعذوبة الغربة وجمال الوصول إليها مع بعض النوستالجيا، وعلى جدار مقابل أقلام تتحدّث عن صعوبة الفيزا والسفر ومخاطر السفر بطرق غير شرعية، وتتردد بعض الأسئلة مثل: لماذا لا نستطيع التحليق بكل سهولة بعيداً عن الوطن؟
هذا السؤال يتردد على أدمغة الناس قبيل نومهم، لكن السؤال الأهم: لماذا الناس لا يجدون سبباً واحداً للبقاء في وطنهم بدلاً من إيجاد أسباباً عديدة للسفر؟
على الرغم من أنّ أحلامنا كبرت، وتجاوزت الكهرباء والماء، فقد أضفنا إليها أحلاماً وردية جديدة، كرؤية الحمراء الطويلة القديمة والجديدة، والحمراء القصيرة الورق والكرتون والحمراء البيضاء. وهنا سؤال آخر: لماذا أصحاب الأكشاك ومحلات بيع الدخان في الوطن، يعلقون أوراقاً كُتب عليها لا يوجد لدينا دخان “وطني”؟ البلاد التي عرفناها رحلت، والتي أردناها ستأتي ربما بعد أن نرحل، لكنها حتماً ستأتي. ستأتي بعد أن نستبدل سؤال متى سنرحل؟ بسؤال آخر، كيف سنبقى؟ بإيمان أنّ هذه البلاد لأهلها وشعبها، بالعمل السياسي المنظم بين القوى السياسية الديمقراطية واتحادها على أهداف وطنية جامعة، أولها الانتقال السياسي وبناء نظام ديمقراطي يعمل وفق أسس دستورية وقانونية تقوم على أساس المواطنة، وترفض الهيمنة الخارجية وجميع التواجد الأجنبي على الأراضي السورية.
إدراك أنّ المرحلة القادمة هي مرحلة انتقالية، وهذه، هدف كافٍ لإقامة التحالفات السياسية بين أحزاب تتبنّى أيديولوجيات مختلفة، علماً أنّ الانتقال السياسي ليس هدفاً بذاته، بل هو محطة في طريق الحل، وأنّ علينا ألا ننسى أنّ المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر لم تمت، بل هي في حلّة جديدة الآن، وأنّ الوصاية والهيمنة الغربية لها أشكال مختلفة، أولها التدخل العسكري المباشر، وليس آخرها خلق كتل سياسية وأنظمة تنفذ أجندات تلك الدول، كما أنّ مشاريعهم الدستورية المقدمة لسوريا كلها تحمل “ديمقراطية” على أساس المكونات، مرفوضة في بلدان لعالم الأول، وما تزال التجربة الفرنسية في لبنان قائمة، وتجربة الولايات المتحدة في العراق قائمة أيضاً.
الآن روسيا الاتحادية، ومعها الغرب الأوروبي والولايات المتحدة والدول الإقليمية الفاعلة، إيران وتركيا، تحاول رسم دستور لسوريا على غرار دستوري كل من العراق ولبنان (كما هو واضح في مشروع الدستور الذي قدمته روسيا كمقترح للدراسة)، وما شهدناه لمؤتمرات الطوائف ودعم لقوى كردية على حساب قوى أخرى في السنوات السابقة لا يصبّ إلا في السياق ذاته، تحويل المنطقة إلى كانتونات وشعوب وقبائل خلقت لتتقاتل. وهذا كله ليس مؤامرة طبعاً، لكنه من مصالح الإمبريالية الثلاث، كما حددها الراحل الكبير الياس مرقص، في كتابه “نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن”.
هنا أيضاً أكثر من سؤال: لماذا معظم من أيّدوا مؤتمرات الطوائف ومشاريع التقسيم بشكل واضح أو موارب، وأيدوا ديمقراطية المكونات، كانوا ضمن أحزاب تتحدث إلى فترة قريبة جداً بأبعد من سوريا، كالأمة الإسلامية أو القومية العربية أو الأممية أو الأمة السورية؟ لماذا معظم السوريين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم ومواقفهم السياسية يرفضون هذه الخواء كله؟
الآن، ستعاود اللجنة الدستورية اجتماعاتها، وسيكون العبء الأكبر على المعارضة السورية الوطنية التي عملت بعيداً عن أجندات دولية واستخباراتية، للسعي نحو إنجاز الحل السياسي، وفقاً لبيان جنيف، والقرار 2254، والعمل على دستور يضمن حقوق السوريين، كمواطنين، لا كقطعان بشرية وجماعات تحت اسم مكونات، رغم يقيننا أنّ هذا الحل ليس إلا بداية طريق طويل لاسترجاع السيادة والتخلص من التواجد الأجنبي على أراضي البلاد وبناء وطن حقيقي يتّسع لكل سكانه.
نعود إلى السطر الأول، الحظ العاثر ولعنة الجغرافيا، فالسوريون الذين خرجوا رافضين عقوداً من القمع والقهر والاستبداد، الذي لا يمكن أن يبني وطناً ولا يدحر محتلاً، أرادوا بناء وطن لكن سرعان ما تم تحييدهم، ليخوض معركتهم بالنيابة عنهم ميليشيات وتنظيمات، نسيت أنّ محاربة الاستبداد يجب أن تكون للوصول لغدٍ أفضل ولتحرير الأرض، لا لاستجلاب محتلين جدد، فاختلف تعريفهم للوطن.
هاموا في المعمورة كل يبحث عن وطنه، أولهم _كما حدّثنا الماغوط_ يرى الوطن يساوي حذاء، وأحدهم يرى الوطن يساوي مجداً، وكثيرون قالوا إنًّ الوطن يساوي شهيقاً بلا بارود، وآخرون يرون الوطن في رغيف خبز، والبعض يساوي الوطن عندهم وسادة تحت سقف (لكن غير سقف الوطن)، ومنهم من يساوي الوطن عندهم سريراً في مشفى عام، الوطن يساوي جرة غاز، الوطن يساوي فلافل، الوطن يساوي ليتر عرق، الوطن يساوي علبة دواء… إلخ.
ختاماً، المرحلة القادمة مرحلة تحرّر وطني بامتياز تتطلب العمل الممنهج المنظم، المبني على أسس علمية، وهذه البلاد قادرة بجهود عقلائها وكل أبنائها في الداخل والخارج لتكون وطناً حقيقياً للجميع، لكن إلى ذلك الحين يبقى سؤال أخير: إلى أين سأستطيع السفر ومتى وكيف؟
The Levant News