كارلوس شهاب يساجل سيد البدري: في معنى الهيمنة

كارلوس شهاب: كاتب وباحث عراقي.

أود أن أضع نقطة أبدأ منها، وهي منظور ماركس للمنظومة الرأسمالية كان منغلقاً على جغرافية واحدة والتغيرات من داخل هذه الجغرافية دون النظر إلى تشابك العلاقات مع جغرافيات أخرى، أفضى هذا المنظور إلى جعل عملية “التراكم الأولي” حدثاً لتغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في كل جغرافية على حدة، أي إنها ليست مرتبطة بصيرورة الاستعمار الأوروبي ونشوء الاقتصاد العالمي والبرجوازيات الأوروبية التي تبلورت من تجارة العبيد واستعمار “العالم الجديد” فيالقرن الخامس عشر، وحتى “التراكم الأولي” للرأسمال الصناعي الذي تنبه فيه ماركس إنه يحتاج ضرورياً إلى المستعمرات والهيمنة عليها، فإن الاستعمار يمثل مرة أخرى “حدثاً” ويختفي لاحقاً بعد انتهاء هذه المرحلة وتواصل الدورة ذاتياً.

نقر بأن هذا المنظور الذي يطرح إن النظام الرأسمالي تام بذاته منغلق على جغرافية واحدة وينبع من تغيرات داخلية هو مقولة ماركس المتمركزة أوروبياً لمن يفهم معنى التمركز قادت بدورها إلى مسائل شائكة في الطبقة والثورة والإمبريالية. 

أنهي هذه النقطة وأضع بموازاتها نظرية سمير أمين حول “المركز والأطراف” والتي تمثل إعادة صياغة للماركسية بانطلاقها ليس من الصفر إنما من لب ماركسي، هذا اللب الماركسي فرض على سمير أمين أن يفسر نشأة الرأسمالية بنفس تفسير ماركس المتمركز أوروبياً، فأمين يقر إن الرأسمالية نشأت في الإقطاع الأوروبي الذي يعتبره طرفياً أمام المراكز “الخراجية” بسبب مرونة هذا النظام، أي أن أمين أحال نشأة الرأسمالية هنا إلى أسباب داخلية النمو ذاتية الدفع، لا يظهر فيها أي دور للاستعمار مطلقاً. وبدورنا نسأل ماذا تختلف هذه النظرة في تفسير نشأة الرأسمالية عن نظرة ماركس، إذا لم تكن هذه النظرة متمركزة أوروبياً فماذا يمكن أن نسميها؟!.

وعملية إعادة الصياغة هذه -سواء التي نفذها أمين أو غيره -لا تجعل النظرية مكتملة في كل لحظة، فيتطلب الأمر جهوداً أحدث لإعادة صياغة النظرية، ومن هنا نتفهم مشاكل نظرية “المركز والأطراف” مثل مسألة القطيعة الاستعمارية التي يقر بها أمين باستحالة قيام مراكز رأسمالية أخرى، فبماذا نفسر قيام الصين الرأسمالية؟

أو تفسيره المتمركز أوروبياً لعدم ظهور الرأسمالية خارج أوروبا في القرن الخامس عشر والذي يرجعه إلى أسباب ذاتية متعلقة بالأيديولوجيا والثقافة، ولكن ما هو دور الاستعمار التخريبي والتفتيتي والحابس للتطور؟

لا يوجد أي شيء. للحقيقة فإن القول بأن نظرية المركز والأطراف بحاجة إلى إعادة صياغة مستمرة هو إنقاذ. فلو اعترفنا بأنها حُسمت فقد حكمنا عليها بالموت نظراً لهذه الإشكاليات.

يبقى إن لسمير أمين ملاحظات مبعثرة هنا وهناك يخالف بها الماركسية الغربية (بضمنها ماركس) مثل رفضه لمقولة التجميع الأولي كحدث سابق على الرأسمالية، كذلك رفضه لتمرحل التاريخ بالمراحل الخمسة ويعتبرها متمركزة، لكنه في ذات يستخدمها لوصف المضمون الطبقي للمجتمعات الطرفية، كذلك يدين سمير أمين المفكرين الأوروبيين – بما فيهم الماركسيين -الذي يغفلون الجانب التخريبي الوحشي للاستعمار الأوروبي، لكنه بذات الوقت يقر بأن هنالك جانب “إيجابي”. وإذا كانت حدود التنمية الرأسمالية في الأطراف غير مكتملة عند أمين وهو يخالف ماركس بهذا، إذاً ما الجانب “الإيجابي” للاستعمار؟، لا يجيب هنا بأي شيء. كذلك هو يدين المفكرين الذين يعتقدون بصحة رأي كارل ماركس في الهند ويعتبرهم يبتعدون عن روح الرأسمالية، ولكن رأي ماركس نفسه يتحدث عنه أمين بشكل مبهم. 

فهذه الملاحظات لا يمكن اعتبارها نظرية تقطع مع المركزية الأوروبية والحقيقة إن سمير أمين نفسه لم يتحدث عن إن لديه نظرية مضادة للمركزية الأوروبية بل دعا إلى تحرير الماركسية من سيطرة المركزية الأوروبية، وأظن إن نظريته عن المركز والأطراف تقع ضمن هذه الدعوة، وكل ما هو غير هذا هو تقوّل على سمير أمين. 

نخلص من كل هذا إلى الرد على النقاط التي وضعها الكاتب:

أولا: القول باستقطاب الصراع على مستوى العالم بين مركز رأسمالي وشعوب مضطهدة هو ليس أخذ ببعض نظرية أمين وترك بعضها، ومن يقول بهذا سوف نعذره على محدودية معرفته النظرية. ليس من ابتداع أمين حيث بل موجودة عند مدارس عديدة منها القومية اليابانية، ففي كتاب المفكر القومي كيتا أكّي الصادر عام 1924 “خطوطٌ عامة لإعادة بناء اليابان”، يطرح هذا المفكر إن النظام العالمي قد أنتج فوارق طبقية على مستوى الأمم فهناك أمم عبارة عن بروليتاريا (الأطراف) وهنالك أمم عبارة عن برجوازية وملاك أراضي (المراكز)، وبالتالي يصبح الصراع من هذا المنطلق لتعديل الفوارق الطبقية على مستوى العالم. كذلك نجده في المدرسة الإسلامية في محاضرات محمد باقر الصدر في حوزة النجف في الستينيات والسبعينات “نحن بنظرتنا المنفتحة يمكن أن نبصر ذلك التناقض وأن نضع إصبعنا عليه لأننا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي، بل قلنا إن جدل الإنسان يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي. فذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل (الأوروبي والأمريكي) أن من طبيعة هذا التناقض أن يتحالف مع العامل، ومع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطباً في هذا التناقض، فلم يعد التناقض تناقضاً بين الغني الأوروبي والعامل الأوروبي بل إن هذين القطبين تحالفا معاً وكوّنا قطباً في تناقض أكبر بدأ تاريخياً منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدث عنه ماركس. أما ما هو القطب الآخر في هذا التناقض؟ فهو أنا وأنت وهو: الشعوب الفقيرة في العالم أو ما يسمى بشعوب العالم الثالث؛ شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. فهذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض”. ونحن إذا عذرنا الكاتب على محدودية معرفته فإننا لن نعذره على إطلاقيته التي يرى فيها إن مدرسته هي مدرسة الفكر الناجي والناس تأخذ منها أفكارها.

ثانيا: يورد الكاتب مفهوم “القرابة الخلدونية”، وهذا مفهوم مبهم بالنسبة إلينا ولم يقل به أحد وهو هنا ملزم بإيضاح مقصده، وإذا أردنا أن نجاري عدم دقة بالمفاهيم، فإننا نظن إنه يخلط – سواء بفهم أو من دون فهم – بين قضيتين أولها؛ “القرابة”، والقرابة ليست مدرسة في التحليل إنما هي دعوة للانطلاق من الواقع الملموس الذي تشكل فيه القرابة بأشكالها الروحية والرحمية (ونقصد هنا؛ الطائفة، القبيلة، العشيرة، العائلة)، بأشكالها هي كيانات اجتماعية/ اقتصادية لها حاجة موضوعية لا يمكن القفز عليها، ولا تنتفي حاجتها هذه إلا بتوافر شروط موضوعية من خلال الانتقال إلى أنماط إنتاجية يستحيل قيامها في واقع التجزئة/الهيمنة/المخفر الصهيوني القائم بما يخدم احتياجات الرأسمالية الغربية. وثانيا؛ “الخلدونية” والتي تتمثل بالدعوة لقراءة مفهوم “الدولة” ودورة الاجتماع الخلدوني -وهنا ليس إنتاج ابن خلدون وحده بالتأكيد -والانطلاق منها للمستقبل، وهذه العودة لا تعني سلفية تاريخية أي قولبة الحاضر بفكر الماضي. وأظن أن الكاتب قد جمع تعسفياً بين هذين الدعوتين وضربهما بخلاط فأنتج مفهوم “القرابة الخ لدونية” الذي يعبر -إن أحسنا الظن -عن عدم فهم الكاتب، وإذا كان ينوي أن يطلق مفاهيم مثل هذه من عندياته وينقدها فهذا شأنه شريطة ألا يلصقها بالآخرين.

ثالثا: في النقطة الثالثة يطرح الكاتب إننا “أورو-مركزيين بالرغم من كل الصياح السابق على الأورو -مركزية”، وأود أن أنبهه إلى إن الأورو-مركزية ليست سُبة ترميها على الآخر دون أي أساس، لا يكفي أن تقول فلان أورو -مركزي وتصمت، بل عليك أن تعرض أفكاره على أسس الأورو -مركزية الأربعة، وهو لم يقل إن لدينا “تمركز أوروبي معكوس” بل قال إننا “أورو-مركزيين” وأجده ملزماً بأن يوضح للجميع كيف توصل لهذا الشيء.

ونهاية وكإجابة على أسئلة الكاتب سيد البدري التي يطرحها في خاتمته فأود أن أقتبس مبدئياً من مقال أميلكار كابرال – وهو ماركسي بالمناسبة – “سلاح النظرية”، “وهكذا نرى إن لشعوبنا تاريخها الخاص بغض النظر عن مرحلة تطورها الاقتصادي، وعندما تعرضت للهيمنة الإمبريالية، تعرضت العملية التاريخية لكل من شعوبنا للعمل العنيف. هذا العمل – هيمنة الإمبريالية على مجتمعاتنا – لا يمكن أن يفشل في التأثير على تطوير القوى المنتجة في بلادنا والهياكل الاجتماعية لبلداننا”، وهذا هو جوهر ما نقوله: إن الهيمنة الإمبريالية قد حبست تطور البنى الاجتماعية للبلاد الخاضعة وربطتها برباط رأسمالي شكلي دون أن تجعلها على صورتها، وعليه فإن التناقض قد أصبح على مستوى العالم بين شعوب مضطهدة وإمبريالية/مستكبرين ومستضعفين أو سمه ما شئت، ومثلما وحّد التراكم الطبقات في “المركز” بحلف طبقي” فإنه يوّحد الشعوب المضطهدة في تناقضها الرئيس الذي يغلب على كل التناقضات الثانوية، والقول بتلازم التناقض الرئيس مع التناقضات الثانوية من أجل بناء “الداخل” وتحصينه في مواجهة “الخارج” هو قول مثالي قاصر عن فهم الهيمنة وركائزها بجعله “الخارج” و”الداخل” كجسمين موضوعين بجانب بعض.

صحيفة ميسلون ٢٧ حزيران ٢٠٢٠

من جريدة المسار العدد ٤٢