خرافة المكوّنات

سمير سالم

يجري الحديث مؤخراً كثيراً عن الانتقال السياسي في سوريا، وكثيراً ما تتضمن الوثائق المسربة والمعلنة التي تتضمن رؤى التغيير في سوريا لفظة “المكونات”، من خلال الحديث عن “ضمان حقوق مكونات الشعب السوري”، و ”تمثيل المكونات”، وغيرها من العبارات.

تكتسب المرحلة الانتقالية المنتظرة أهميتها من كونها تمثل مرحلة تغيير جوهري في طبيعة النظام السياسي، وفي علاقة الدولة بالمجتمع، وبالتالي ستكون مرحلة تأسيسية لمستقبل سوريا، ويتضمن الانتقال إلى الديمقراطية أبعاداً عديدة، لعلّ أبرزها تأسيس مبدأ المواطنة، وجوهره المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتوسيع نطاقها الفعلي، وهناك بعد آخر هو البعد المؤسسي، ونعني بهذا ممارسة التعددية الحزبية والأيديولوجية الحقيقية في الجسد السياسي للدولة والمجتمع، وتوسيع دائرة المشاركة فيها.

وتكمن أهمية الديمقراطية الأساسية في كونها عملية إدارة للتعدد والاختلاف في المجتمع بشكلٍ سلميّ، فمن المؤكد أن أي مجتمع – وخاصة في عالمنا المعاصر – يتضمن التنوع بين الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد، مما يؤدي إلى اختلاف المصالح والتوجهات الفكرية، ويضمن النظام الديمقراطي أن يتم إدارة هذا الاختلاف – الذي قد يأخذ شكل الصراع في لحظات معينة-بشكل سلميّ، من دون أن يشكلّ خطراً على المجتمع.

لكن في ظل الإصرار في الحديث عن “المكونات”، وحتمية الانتقال إلى نظام ديمقراطي في سوريا، ستلعب القوى السياسية السورية المعارضة دوراً محورياً في التأثير على القرار الدولي، أو عدم التأثير عليه، إلا أن من واجبها أن تتحمل جزءاً من مسؤولية ما ستؤول إليه الأمور في المرحلة الانتقالية وما بعدها. فعلى الرغم من أهمية التغيير والانتقال السياسي بحد ذاتهما، إلا أن المستقبل القريب لا يقلّ أهمية، من خلال استقطابات دولية-اقليمية-داخلية، يمكن أن تحدد الكثير من ملامح ومضامين المرحلة الانتقالية.

تعكس نظرة الغرب وروسيا في الوقت الحالي إلى البلاد العربية طابعاً استشراقياً يرى في فشل “الدولة العربية” فشلاً في قدرة الشعب على استيعاب قيم الدولة والنظام، وليس فشلاً في قدرة هذه الأنظمة على خلق دولة تنتج مفهوم المواطنة الذي يعتبر أساس الدولة الديمقراطية الحديثة. ويرى في الشعوب العربية استثناءً لا تنطبق عليه قواعد الديمقراطية الأساسية، التي تقوم في الغرب الأوروبي، وهو مكان ولادة الديمقراطية الحديثة، على مبدأ “ديموقراطية المواطن” وليس على مبدأ “ديموقراطية المكونات” التي أنتجتها فرنسا في لبنان 1943، والولايات المتحدة في عراق 2003، وتريد الآن روسيا، متعاونة مع الغرب الأميركي-الأوروبي، فرضها على سوريا القادمة عبر دستور يشبه دستور بول بريمر بالعراق. وبالتالي فإن أطراف خارجية ترى في زعم وجود فراغ في مفهوم المواطنة لدى الشعب السوري ما يدفع إلى ديمقراطية تشاركية تستند على المكونات، وهذا الأمر مخالف لإحدى ركائز الديمقراطية الفلسفية نفسها في أوروبا التي تستند على “مبدأ المواطنة”، لكن النظرة تختلف حين ينظر الغرب باتجاه الشرق، حيث لم يستطع العالم الغربي حتى اليوم التحرر من نظرته إلى شرق كـ “مكونات” تجمّعت بفعل خطأ تاريخي، وحيث يريد الغرب أن تتحقق عملية “لا اندماج تلك المكونات”.

السمة الأهم للديمقراطية التشاركية هي تعاون زعماء قطاعات المجتمع المختلف في ائتلاف واسع لحكم البلاد، وفي بعض نماذج الديمقراطية التشاركية الأوروبية تعدّ هذه الخطوة بمثابة عملية دمقرطة للديمقراطية التقليدية القائمة على أساس المواطنة المتساوية وسيادة القانون، فالأنماط المختلفة للديمقراطية التشاركية ترتبط بالبنية الاجتماعية والسياسية والثقافة السياسية السائدة في أوساط الفاعلين السياسيين في كل دولة. أما في حالة البلاد التي تفتقد إلى حياة سياسية فاعلة في ظل تعدد طائفي وقومي، فستتحول مراكز القوة تلقائياً إلى زعماء للطوائف، لكي تنتج توافقيات متعددة، هي بمثابة كارتيلات للحكم، وقد تنتج نموذجاً سورياً أكثر تشويهاً من النموذج القائم إلى يومنا هذا.

وأهم ما يميز التجربة التوافقية حسب “آرنت ليبهارت” هو:

1 – حكومة ائتلاف أو تحالف واسعة (تشمل حزب الغالبية وسواه).

2 – مبدأ التمثيل النسبي (في الوزارة، في الإدارة، والمؤسسات، والانتخابات أساساً).

3 – حق الفيتو المتبادل (للأكثريات والأقليات لمنع احتكار القرار).

4 – الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة.

إذاً لا تعدّ الديمقراطية التشاركية في الحالة السورية سوى خطوة إلى الوراء، على الرغم من أولوية الانتقال السياسي بعد عقدٍ مرير من الدم بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من السوريين، فالديمقراطية التشاركية التي ترتكز على مفهوم المكونات وليس الشعب – والذي يقصد به كمصطلح عند أصحاب “ديموقراطية المكونات” هو مجموع المكونات الطائفية والإثنية – ستعد انتقالاً من تحاصص طائفي مستتر لدى النظام السوري في العديد من مفاصله ومراكزه، إلى حرب أمراء طوائف تبتلع كل مكوناتها غير “الأرثوذوكسية” سياسياً، والخارجة عن ملّتها السياسية والاجتماعية التي ستتبلور. وسننتقل من الخطاب السلطوي الذي يرفض ذكر أي شيء يتعلّق بالطوائف علناً إلى انتاج نسخاً سورية من الهذيان الطائفي الذي شاهدنا أمثلة عديدة عنه في لبنان والعراق، الأمر الذي سيحوّل المجتمع المأزوم بعد سنوات الأزمة الطويلة وما يتضمنه من طوائف إلى قطعان سياسية ستنتج طبقة أوليغارشية جديدة تستخدم الطوائف كمطية لتحقيق مصالحها الاقتصادية، وستغطّي الصراع الطبقي بنزاع مختلق بين مصالح الطوائف لن يرى أفرادها إمكانية تلاقي مصالحهم في وجه الطبقة المسيطرة الجديدة خلال فترة قصيرة. وستنتج استبدالاً لمفاهيم الديمقراطية المواطنية من حرية وتعددية، بمجتمعات صغيرة تمارس رقابتها الذاتية على أفرادها، وحالات استقطاب مُفتعلة تُستخدم لغايات انتخابية، وللمحافظة على مراكز القوى القائمة.

ومن خلال ملاحظة النموذجين اللبناني والعراقي، نلاحظ تحوّل الطبقة الحاكمة إلى طبقة تسيّر صفقات تضرّ مصلحة المواطنين جميعاً، فيما يعيدون لعبتهم المكررة في اللعب على وتر الطائفية عند الحاجة إليه ليظهروا بمظهر المدافع عن مصلحة الطائفة في وجه “الآخر” المتخيّل، وقد يتدنى الوضع ليلامس حدود المهزلة، فعلى سبيل المثال في عام 2017 عرقلّ الوزير جبران باسيل توظيف 106 من حراس الغابات لعدم وجود سوى 17 مسيحياً بينهم فقط. إلا أن العهد الرئاسي الذي يقوده الوزير وتياره السياسي شهد سقوط لبنان بأكمله في أسوأ انهيار اقتصادي شهده طوال تاريخه بعد الحرب الأهلية.

في ظل هذه الجزئية التي تعكس تناقض نظرية الديمقراطية التشاركية القائمة على المكونات في المجتمعات التي لم تعش التجربة الديمقراطية إلى الآن، مع مفاهيم الديمقراطية أساساً، علينا إدراك مدى خطورة مفاهيم مثل المكونات والحكم الذاتي، والتي قد تؤدي إلى خلق كيانات مفتتة مستترة أو رسمية تزيد من فشل “الدولة العربية”، وتزيد من صعوبات النهوض الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي في المنطقة، وعلينا ألا ننسى أن أحلام الغرب في شرق أوسط جديد يتناحر إلى ما لا نهاية، لتفريغ المنطقة فعلياً من أي إمكانية للنهوض، ومن قدرتها على تشكيل كيانات مستقلة وقوية، لم تُكتب نهايتها بعد.