روسيا منذ التدخل العسكري حتّى تنفيذ قانون قيصر

مصطفى سعد 

جاء التدخل الروسي  العسكري المباشر في سوريا عام 2015، بمثابة نقطة تحوّل أساسيّة بعلاقات روسيا الاستراتيجية مع منطقة الشرق الأوسط، وتمثّل للدور الذي تبحث عنه السياسة الروسية الخارجية كلاعب أساسي في المنطقة والعالم، فعلى الرغم من التنسيق الروسي الأميركي الواضح حول التدخل الروسي في سوريا، وهو ما ترجم في القرار 2254، وانعقاد (جنيف3) حول الأزمة السورية، إلا أنّه على الجانب الآخر بدا للجميع بأنّ روسيا تبحث عن إعادة ترسيخ نفسها كقوة أكثر تأثيراً على السياسات الدولية في مواجهة واشنطن وحلفائها، من خلال ضمان دور لها، ومشاركتها في سياسات المنطقة حاضراً ومستقبلاً. 

وعلى الرغم من وجود خطاب رسميّ روسيّ يتحدّث عن رفضها التدخلات الخارجية في البلاد التي تشهد الصراعات الداخلية، ووجوب احترام سيادة هذه الدول، إلا أنّه من الواضح للجميع أنّ السياسة الروسية كانت تبحث عن قاعدة أساسية لها في المنطقة، حيث ستحوّل سوريا إلى ما يمثّل قاعدة متقدّمة لها في الشرق الأوسط، تضمن من خلالها مصالحها في المنطقة، وإن كان بغير طريقة قطبي الحرب الباردة (الشيوعي الرأسمالي)، بل بطريقة أقرب لأن تكون شريكاً للولايات المتحدة، برؤية مختلفة قليلاً، مع وجود خطوط عريضة متفق عليها بين الطرفين، وخاصة مع تركيز خطابات الرئيس «ترامب» على الرغبة الأميركية بالانسحاب من المنطقة، والتي هي استكمال لسياسة الرئيس «أوباما»، من قبله، بالتوجّه نحو الشرق الأقصى.

هذه التغيّرات لم تكن وليدة الساعة، بل يمكننا أن نرجع عقارب الزمن إلى الوراء لنكوّن رؤية أوضح حول دور روسيا الجديد، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حقبة «يلتسن» خلق هذا الوضع الجديد انشغالاً داخلياً لروسيا على حساب همومها الخارجية، وذلك لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، فلم يعد الاتّحاد السوفياتي موجوداً على خارطة العالم السياسية والجغرافية، وتحوّلت العديد من الجمهوريات المنفصلة عنه إلى دول ضمن الناتو، وضمن الاتحاد الأوروبي، المنظومتان اللتان تمثلان كل ما هو مناوئ للتوجهات السوفياتية، وتمثلان اتجاهات لتحجيم موسكو بوتين، ويجب عدم فصل التوّجه الجديد لروسيا عن رؤى وشخصية الرئيس «بوتين» الذي اجتاح الشيشان عام 1999، ليظهر كرجل روسيا الاتحادية الباحث في التاريخ عن أمجاد القياصرة. تميّزت حقبة بوتين بالعديد من القرارات الاستراتيجية التي كانت تكشف عن رؤاه المستقبلية، فقد قام بزيادة الميزانيّة العسكرية لروسيا، واستبدال هوية روسيا الأيديولوجية والعقائدية، بأخرى تحمل روح الدولة الوطنية القوية الساعية إلى فرض سيادتها، والبحث عن تأمين مجالها الحيوي، ويحمل حلم أجداده القياصرة بالوصول إلى المياه الدافئة لشرق المتوسط. 

وللنظر بدقة إلى الدور الروسي الجديد، علينا أن نرى علاقات روسيا مع إسرائيل، وكونها مقبولة من الأطراف المشاركة في الملف السوري (تركيا ودول الخليج العربي وإسرائيل)، أكثر من إيران “الراديكالية”، وبعد غزو العراق، قام الرئيس بوتين بزيارته إلى إسرائيل ليكون أول رئيس روسي يقوم بزيارة الأراضي المحتلة، وفي إحدى زياراته الأخيرة إلى إسرائيل، عنونت صحيفة هآرتس الإسرائيلية الزيارة بالقول: “مع زيارة موسكو يؤشر نتنياهو لشرق أوسط ما بعد أميركا”، ويمكننا أن نفسر هذه العلاقة المستجدة بالتغيّر النهائي للعالم الثنائي القطبية، يمثّل كل منهما رؤية مختلفة للعالم، فالعالم الرأسمالي، وتمثّل الولايات المتحدة رأس حربة هذا المعسكر، أما على نقيضه فكان العالم الاشتراكي، وقد كانت في حينها روسيا السوفياتية تمثّل وجه هذا المعسكر.

أما بعد الانهيار فقد تحول العالم سياسياً واقتصادياً إلى عالم بقطب واحد، تمثّله الولايات المتحدة وحلقات قوية على الصعيد العالمي تحت قبة هذا القطب، مثل الصين التي تصعد بقوة ساعية للحصول على دور منافس لأميركا، على الأقل، في الشقّ الاقتصادي، وروسيا كقوة إقليمية عظمى، فتحوّلت القوى الثلاثة إلى قوى رأسمالية الفكر، وإن كانت التجارب الصينية والروسية الاقتصادية يمكن وصفها برأسمالية الدولة، مقابل أميركا النيوليبرالية، ولأنّ الوضع الاقتصادي الروسي لا يسمح لها بمقارعة أميركا باستخدام ما يمكن أن نسميه بالقوة الناعمة، كما الصين، فإنّ سياسة روسيا الخارجية تعتمد على عدة عوامل، منها مخزونها العسكري الهائل، وإرثها الدولي السابق كقطب كبير، وانكفاء أميركا عن التواجد في منطقة الشرق الأوسط، بعد ما صنّفته بتجربة فاشلة في العراق

فكان تدخل روسيا العسكري المباشر في الأزمة السورية، عام 2015، نقطة تحوّل في تاريخ المنطقة وعلاقات روسيا الخارجية، وكان الروس يرون التدخل كخيار وحيد في ظل هذا الفراغ للقوة، وخصوصاً، بعد التجربة الليبية السابقة، وخسارتهم امتيازاتهم والعقود الموقعة مع نظام معمر القذافي، بعد محاولتهم لعب دور الوساطة بين نظام معمر القذافي والمجلس الوطني” بقيادة «مصطفى عبدالجليل»، وتقوم الرؤى الروسية في الحالتين على إرادة الإصلاح لا التغيير، أي بمعنى آخر تبحث عن الاستقرار في المنطقة، بغضّ النظر عن نوعية هذا الاستقرار، وارتكزت في كل هذه القرارات على توافقية بنسبة معيّنة مع الشرائع الدولية فلم تصطدم بمصالح الأطراف المشاركة في الأزمة السورية، وتعتبر أنّها قد نالت شرعيّة الدخول بمجرد أنّها دخلت بناءً على طلب من حكومة دمشق في المشاركة، فهي ترى الحل في سوريا يجب أن يرتكز على لجنة دستوريّة، ومؤتمر سوتشي، لا على بيان جنيف والقرارات الدولية.

ولا تتعامل روسيا مع كل قضية من القضايا التي تشارك بها على حدة، فهي بتدخلها الصريح والمباشر في القضية السورية، إلى جانب الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، كانت تسعى إلى درء المخاطر عن مصالحها الحيوية، كما في دعمها انفصال أجزاء من جورجيا وأوكرانيا وضمها لجزيرة القرم، فهي اليوم تتعامل مع كل قضاياها دفعة واحدة، فقضية أوكرانيا، وكذلك ما يجري في ليبيا (روسيا مقابل تحالف تركي_أمريكي)، لا يمكن فصلهما عن القضية السورية (أمريكا مقابل تحالفات روسية_تركية)

ولا يمكن فصل هذه القضايا، أيضاً، عن الأبعاد الاقتصادية لروسيا التي تمتلك شركات حكومية متخصصة في مجال الطاقة الغازية والنفطية، فصراعها على مناطق من جورجيا وأوكرانيا يتضمن فعلياً تأمينها لخطوط نقل الغاز إلى روسيا من مناطق الاستخراج، وفي دراسة بعنوان “الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط” يرى عدد من الباحثين: “تملك روسيا مصالح مهمة اقتصادية، وأخرى تتعلق بالأعمال في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط، يتراوح من الطاقة النووية إلى النفط والغاز. شركاتها التي تملكها الحكومة، مثل غازبروم (Gazporm) وروزاتوم (Rosatom)، تحتفظ بمصالح مهمة في مجال الطاقة ويشمل ذلك أسواق استهلاك رئيسة، وحقول نفط وغاز، وزبائن للبنية التحتية من الطاقة النووية في بلدان، مثل إيران والعراق وتركيا، بالإضافة إلى إقليم كوردستان وشرق المتوسط.

إن تقلّب أسواق الطاقة العالمية، مترافقاً مع اعتماد روسيا المتزايد على عائدات النفط نتيجة للتباطؤ الاقتصادي، لديها وللعقوبات الاقتصادية الغربية، ألقى بضغط أكبر على موسكو وراء مكاسب في أسواق الطاقة الشرق أوسطية، ومع الأزمة الاقتصادية العالمية، بسبب انتشار فايروس كورونا، التي امتدت بقوة لتؤثر على موسكو وبعدها البدء في تنفيذ قانون قيصر _وقع الرئيس الأميركي عليه في يوم 20 كانون أول 2019 لتحويله إلى مرسوم تنفيذي على أن يبدأ تنفيذه في شهر حزيران 2020_ والذي يُعتبر من قبل الكثير من الدارسين والأخصائيين الاقتصاديين، أنّه يؤثر على روسيا في المقام الأول، لصعوبة تنفيذ العقود المبرمة والاستثمارات المتفق عليها مع الحكومة في دمشق، واستحالة البدء بإعادة إعمار سوريا قبل الوصول لحلّ سياسي ينهي الأزمة السورية في جنيف، وليس في الشمال أو الشمال الشرقي السوري.

قانون قيصر زيت يصب على النار التي يكتوي بها السوريون، وبحسب جميع المصادر الرسمية، في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس الغاية منه إسقاط النظام، بل تغييره، وهذا متفق عليه ومرحب به، بين كل من واشنطن وموسكو، إن كان عبر قرار جنيف1، والقرار 2254. فهل وصلت الأزمة السورية لمرحلة أصبحت بها عبئاً على القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وأصبحنا على أبواب الدفع لبدء حلّ سياسي حقيقي في سوريا عبر مسار اللجنة الدستورية يمهد لرسم مستقبل، كل من سوريا وليبيا، وإلى حدّ كبير إيران؟

الحلّ السياسي سيأتي مهما تأخر، لكن علينا أن ندرك أنّ هذا الحل، وبأحسن صوره، سيكون لهيمنة الخارج على الداخل، وأنّ على السوريين جميعاً العمل لبناء وطن حرّ ومستقلّ تسوده قيم المواطنة والديمقراطية.

The levant news

من العدد ٤٢ من جريدة المسار