هل العروبة رابطة قومية أم هوية حضارية عمادها الإرادة الموحدة والمصير المشترك؟

حبيب حداد

تفاقمت مخاطر أزمة المجتمعات العربية، منذ مطلع هذا القرن، وبخاصة في البلدان التي شهدت انتفاضات التغيير الشعبية فيما سمي بالربيع العربي وتحول بعضها الى حروب أهلية مدمرة. وقد كان أخطر مظاهر هذه الأزمة، كما هو ماثل الآن، ما تعلق منها بصراع الهوية وصيانة مقومات الوجود والوحدة الوطنية، الذي يمثل بلا ريب في أبعاده وبكل ما يترتب عليه، معركة استعادة الذات للشعوب العربية واستعادة طاقاتها وقدراتها المعطلة، من أجل تجاوز حالة التخلف والتشرذم وكبح عوامل الإعاقة والارتداد، على طريق التقدم والتحضر ومواكبة مسار العصر. 

فإلى أي مدى كان يخطر في بال أجيالنا السابقة والحالية وكل نخب الأمة الفكرية والسياسية والثورية والإصلاحية أنّه سياتي مثل هذا الزمن الصعب الذي نعيشه الآن حيث يتعرض فيه العديد من أقطارها الى مخاطر الانقسام والتفتت، والذي يشهد تنازع أطراف وتيارات شتى من كل قوى ومكونات الأمة حول حقيقة هويتها، وحول أهمية امتلاكها لوعي عقلاني تاريخي لماضيها وحاضرها، ولرؤية سديدة وإرادة موحّدة لصنع المستقبل المنشود؟

من وجهة نظرنا، هناك عاملان اثنان يفسران إلى حد ما هذا الوضع المأزوم الذي وصلنا إليه والذي يندر أن تواجهه شعوب اخرى في عالم الْيَوْمَ: أولهما أنّ البلدان العربية منذ أن أحرزت استقلالها الوطني، بإنهاء الوجود الاستعماري المباشر، قد أخفقت حتى يومنا هذا في بناء دول مدنية ديمقراطية حديثة، تكرّس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية دون أي تميز أو تهميش أو إقصاء. 

وثانيهما هو عصر العولمة، هذا الذي تعيشه البشرية منذ ثلاثة عقود من الزمن، عصر العولمة بكل ايجابياته وسلبياته وبكل تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على مختلف الدول والمجتمعات. فإلى جانب عملية الترابط المالي والاقتصادي والتكنولوجي والسياسي، وإلى حد ما الثقافي، التي وحدت قارات كوكبنا الأرضي، والتي كانت في حصيلتها، وكما كان منتظراً، لصالح الدول الأكثر تطوراً، كان هناك في الوقت نفسه انتعاش وازدهار للقيم المتعلقة بحقوق الإنسان- الفرد -المواطن وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقوق المكونات والجماعات القومية والثقافية والدينية.

كما تناولت بعض الاتجاهات الفكرية التي ترافقت مع العولمة، مسألة الحدود والموازنة بين الحرية الفردية والمصلحة العامة وجوهر الحقوق والواجبات التي تربط ما بين المواطن ومجتمعه، والتي اعتبرت امتدادا لأفكار وقيم تلك المرحلة التي سميت مرحلة ما بعد الحداثة. وكانت نتيجة ذلك أن هذه الاتجاهات الانسانية الخيرة في مراميها وغاياتها طرحت على مجتمعات متخلفة مثل مجتمعاتنا العربية، مجتمعات غير مهيأة بعد للتفاعل السليم معها، لأنّها لم تبلغ في تطورها المستوى الذي يوفر لها المناعة والوحدة الوطنية والمجتمعية المطلوبتين لمواجهة مثل هذه التحديات، الأمر الذي أدى لأن تكون نتائج تفاعل هذه المجتمعات معها سلبية في معظم الحالات.

لقد تبلورت العروبة بوصفها هوية مميزة لشخصية هذه الأمة، بكل مكوناتها القومية والإثنية والثقافية والدينية، في خضم الكفاح التحرري منذ بدايات عصر النهضة أي منذ منتصف القرن التاسع عشر في مواجهة الاحتلالين العثماني والغربي والمشروع الصهيوني، وفي خضم معركة التحرر لتجاوز وضعية التخلف والتجزئة والتبعية، واللحاق بالعالم المتقدم استجابة للسؤال المركزي الذي طرحه رواد مرحلة التنوير والنهضة آنذاك، وهو لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب والمسلمون؟ 

وكانت الهوية العروبية منذ أن طرحت هوية علمانية حضارية جامعة لشعوب وكيانات هذه الأمة، دون أية هيمنة من مكون على أخر ودون أي إلغاء أو تهميش لدور أي قطر على حساب آخر، وذلك في مواجهة الدعوات والاتجاهات التي عملت على تطويق وعزل الكيانات القائمة كأنّما هي أمم نهائية قادرة بذاتها على الاستمرار والتقدم في عصر التحديات الكبرى.

إذ في مقابل ذلك وتأكيدا لحقائق التاريخ والجغرافيا، وتجسيدا لإرادة المصير المشترك كانت العروبة على الدوام، وباستيعاب دروس الماضي القريب والبعيد، الحافز الموجه لكيانات هذه الأمة نحو المزيد من روابط التعاون والتنسيق صيانة لأمنها الجماعي والمزيد من الخطوات العملية نحو التكامل والتوحد وفق ايّة صيغة تجسّد إرادة شعوبها في عصر ينحو صوب التجمع في تكتلات وكيانات كبرى تخدم مصالحها المشتركة، هذا. بغض النظر عن طبيعة مواقف الانظمة الحاكمة ومدى استجابتها لإرادة شعوبها.

وعندما طرح رواد عصر النهضة قبل قرن ونصف من الزمن شعار الدين لله والوطن للجميع، تعبيراً عن المضمون العلماني الإنساني الحضاري لهوية هذه الأمة لم يكن يخطر في بالهم أن يأتي بعد هذا الزمن كله، معارضون سوريون حاليون لنظام القهر والاستبداد، وحلفاء متحمسون للتيارات الاصولية الجهادية، وبعض ممن ينسب نفسه لاتجاهات التقدم واليسار والعلمانية، ليعلنوا أن هذا الشعار يشكل تحدياً صارخاً لمقومات هوية الشعب السوري الدينية والقومية والإثنية، وليعتبر من وجهة نظر آخرين تجاوزًا وتنكرًا لهويته الدينية وتراثه الإسلامي الأصيل!

وإذا كانت مقومات الهوية وبالتالي ماهيتها، بالنسبة لأي شعب أو أمة، تغتني وتتجدّد باستمرار في مسار التطور الخاص بهذا الشعب والمسار التاريخي الإنساني الأشمل، أي أنها تكتسب عناصر ومقومات جديدة وتستغني وتتجاوز عناصر ومقومات عفا عليها الزمن، فإنّ المقومات المكونة لهوية العروبة وما تجسده من شخصية واحدة مميزة، وتخصيصا في نسختها السورية أو الشامية، قد تعاقبت وتكاملت عبر آلاف السنين.

إنّ الهوية الوطنية السورية، التي هي الْيَوْمَ سلاح السوريين لإنقاذ وطنهم من مخاطر الازمة المصيرية التي يعيشها، هي في ماهيتها وأبعادها التاريخية والمستقبلية جوهر الهوية العروبية الحضارية لشعبنا. فإذا تمّ قطع اواصر الوطنية السورية عن عمقها وجذورها التاريخية من جهة، وعن آفاقها وبعدها المصيري والحضاري العروبي من جهة ثانية، فكيف يمكن لنا أن نتصوّر أن تظل هوية جامعة وحية مجسدة لإرادة شعبنا السوري الواحد بكل مكوّناته وأطيافه؟ 

وإذا كانت هوية أيّة أمة من الامم أو أي شعب من الشعوب في عالمنا، لا تبنى وتتوطّد على أساس الوعي الموحد لماضي وتاريخ هذه الأمة وهذا الشعب، وعلى الرؤية الموحدة لصورة المستقبل، فكيف يمكن أن ينتصرا في معركة التحدي الحضاري ومواصلة عملية البناء والتقدم.

وإذا كان البعض يرى، فيما عرضناه، موقفاً توفيقياً، أي لا يتفق مع واقع التنوع والتعدد في فسيفساء مكونات مجتمعاتنا العربية ومنها مجتمعنا السوري، فإننا نود أن نؤكد حقائق التاريخ القريب والبعيد، وفي مقدمتها أن حركة القومية العربية، برغم ما شاب مسيرتها من بعض الاتجاهات والانحرافات الشوفينية والعصبوية المدمرة، التي لا تعبر عن جوهرها من قبل بعض الأحزاب والحركات القومية التقليدية ، كانت على الدوام حركة كفاح تحرري لشعوب مضطهدة ومقهورة ومجزأة، وكانت على الدوام جزءا من حركة التحرر الإنساني الأشمل الهادفة لممارسة الشعوب لحقها في تقرير مصيرها، وانتصار قيم الحق والعدل والسلام في عالمنا.

لقد كان الأمر الطبيعي أن يشهد الفكر السياسي العربي عمليات مراجعة وتجديد في ضوء النكسات والهزائم التي منيت بها حركة لتحرر العربية منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، 

فالعروبة ليست هوية القومية العربية بمفهومها التقليدي، كما أنّ الأمّة العربية ليست أمة مكوّن واحد في نسيج أي من مجتمعاتها.

إنّ كيان الامة العربية يقوم ويتأسّس على مقومات مادية روحية في مقدمتها الأرض والثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة والمصير الواحد. ومفهوم الأقلية والأكثرية على أساس عرقي أو إثني أو ديني غير وارد في الدول الديمقراطية الحديثة بل إنّ هذا المفهوم يرتبط بحجم التيارات والأحزاب السياسية، وهو وضع غير ثابت يتغير من حين لآخر بفعل الارادة الشعبية المعبر عنها عن طريق الاستفتاءات والانتخابات الدورية.

إنّ ما ينبغي توضيحه في عملية تجديد الفكر العربي ما يتعلق منه بضرورة التمييز بين رابطة القومية العربية والرابطة القومية لكل من المكونات القومية والثقافية الاخرى في مجتمعاتنا العربية من أمازيغ وكرد وآشوريين وكلدان وأرمن وتركمان وشيشان وشركس و… من جهة، وبين هوية العروبة الثقافية الحضارية الانسانية المعبرة عن المصير الواحد والمصلحة المشتركة لكل شعوب الأمة العربية بكل مكوناتها من جهة اخرى، فالعروبة من وجهة نظرنا لا تتطابق من حيث ماهيتها مع مفهوم وكينونة القومية العربية، والأمة العربية مثل بقية أمم العالم الاخرى لا يمكن قصرها في أن تكون أمة مكون قومي واحد من مكوناتها مهما بلغ حجمه بل هي أمة المجتمع بكامله وبكل مكوناته القومية، وهذا هو المفهوم المعاصر لكل أمة أي الدولة – الأمة، المفهوم النظري والواقعي الذي يفتح الأفق أمام كل أمة كي تنتقل من حيّز القوة والإمكان إلى حيّز الفعل والوجود عندما تنجح أجزائها وكياناتها المتعددة ببناء دولة المواطنة الحديثة التي تكرّس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية في الحقوق والواجبات دون أي تمييز.

العروبة إذن ليست رابطة قومية لأحد مكونات الأمة، بل هي هوية جامعة ورسالة حضارية لشعوب وكيانات أمّة مجزّأة هي الأمة العربية، وهذه العروبة لا يمكن أن تكون في موقع التناقض والتضاد مع الهويات الوطنية القطرية، إذا كانت هذه الهويات تعبر عن إرادة شعوبها في تكوين دول مدنية ديمقراطية حديثة مواكبة للعصر، فهذا هو المسار السليم والموضوعي لتكامل مشروعات التنمية والتطور والتعاون المشترك، واستعادة بناء مقومات النظام الإقليمي العربي لمواجهة كل التحديات التي تواجهها الأمة. 

إنّ صراع الهويات، واشتداد نزعات وإعصار الروابط والعصبيات ما قبل الوطنية، الذي تشهده الآن معظم البلدان العربية، وفي مقدمتها سورية، وما يرافقه من حرب شعواء في دلالات المفاهيم والمصطلحات على صعيد النخب الفكرية والسياسية ليس إلا نذيراً صارخاً عن غياب المشروع الوطني الديمقراطي الواحد والجامع في كل منها، وهذا الغياب إن هو إلاّ تعبير عن أزمة الثقافة والوعي في مجتمعاتنا التي هي بدورها الجانب الأشد خطورة، والثمرة الاقسى مرارة في الأزمة الشاملة لتلك المجتمعات.

نشرت في العدد ٤١ من جريدة المسار