الولاية القضائية العالمية في الجرائم ضد الإنسانية

(دراسة)

تعريف الجرائم ضد الإنسانية:

جاء في المادة “7” من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

1ـ لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية “جريمة ضد الإنسانية” متى ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أومنهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم:

أـ القتل العمد

بـ ـ الإبادة

ج ـ الاسترقاق

د ـ إبعاد السكان، أوالنقل القسري للسكان.

هـ ـ السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخرمن الحرية البدنية، بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي

وــ التعذيب

زــ الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أوالإكراه على البغاء، أوالحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخرمن أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة

ج ــ اضطهاد أي جماعة محددة أومجموع محدد من السكان، لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أواثنية، أوثقافية أو دينية، أومتعلقة بنوع الجنس، على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا يأن القانون الدولي لا يجيزها.

ط ــ الاختفاء القسري للأشخاص.

ي ــ جريمة الفصل العنصري.

ك ـ الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل، التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة، أو أذى خطير يلحق الجسم أو الصحة العقلية أو البدنية. 

تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاص النظر في هذه الجرائم في الأحوال التالية:

1 ــ إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام، وفقا للمادة 4   إحالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر

    من هذه الجرائم قد ارتكبت.

2 ـ إذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.

3 ــ إذا كان المدعي العام قد بدا بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة 15.

الأصل أن تقوم أي دولة وطنية بمقاضاة مرتكبي هذه الجرائم من مواطنيها، أو غيرهم القاطنين على إقليم هذه الدولة بحسب الاختصاص الإقليمي، وأيضا الالتزام بمنع وقوع هذه الجرائم وفقا للقانون الدولي. وذلك بإصدار تشريعات وقوانين وغيرها تجرم وتعاقب هذا النوع من الجرائم بحسب الولاية القضائية التي تملكها في اقليمها، وأيضا التعاون مع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية، وعدم التذرع بأي ظروف استثنائية لتبرير هذه الفعال.

فإذا كانت الدولة التي يتبع لها مرتكب هذ الجرائم لم تنضم ولم تصادق على نظام روما الأساسي المشكل للمحكمة الجنائية الدولية ، ولم تقم بواجبها عن طريق اصدار تشريعات تجرم وتحاسب مرتكبي جرائم ضد الإنسانية ولم تتعاون مع المجتمع الدولي في هذا الامر، فلا يعني ذلك أن يكون مرتكبي هذه الجرائم بمنأى عن الملاحقة والمحاسبة، فخطر هذه الجرائم هو ضد الإنسانية جمعاء وليس هذا الأمر قاعدة من قواعد القانون الدولي فقط، بل يعتبر من القواعد الآمرة العامة في القانون الدولي، وقد اعتبرت محكمة العدل الدولية: أن خطر أفعال معينة، مثل التعذيب يكتسي طابع القاعدة الآمرة، وقد استقر قبول الدول بأن الجرائم ضد الإنسانية هي جرائم بمقتضى القانون الدولي، ينبغي المعاقبة عليها، سواء كانت مرتكبة أم لا في وقت النزاعات المسلحة وسواء كانت مجرّمة أم لا بموجب القانون الوطني.

وقد أكدت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984في الفقرة 1من المادة 4على أن تضمن كل دولة طرف أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي.

فإذا لم تقم الدول الوطنية بواجبها بهذا الصدد ولم تتحرى وتحاسب وتحاكم المتورطين في هذه الجرائم سواء أكانوا من مواطنيها أم لا، فإن من حق الأفراد والجماعات الواقعة عليهم هذه الجرائم التقدم بالشكوى ومطالبة بعض الدول الوطنية الأخرى النظر في هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها ومحاكمتهم، وبالفعل فقد قبلت بعض الدول الأوروبية ادعاء بعض اللذين تعرضوا وارتكبت بحقهم جرائم ضد الإنسانية، وقد اعتمدت هذه الدول أساس قبول هذا النوع من الدعاوى على مبدأ معروف بالقانون الدولي ويسمى الولاية القضائية العالمية، الذي يعتبر من الادوات الرئيسية التي تضمن منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني والتحقيق فيها، وهذا المبدأ يمنح كل الدول حق متابعة ومحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة وجرائم الحرب، والجرائم ضدالإنسانية، أينما وجدوا، وبغض النظرعن مكان ارتكاب الجريمة أو جنسية المرتكب ،أو جنسية الضحية ، ويمكن تلمس هذا المبدأ في معظم اتفاقيات جنيف لعام 1949التي تحض على التزام الدول الأطراف بالبحث عن المشتبه في اقترافهم مخالفات جسيمة وهي الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني أيا كانت جنسياتهم و مقاماتهم أو تسلمهم، ويؤكد البروتوكول الاضافي لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف هذا الالتزام ليشمل المخالفات الجسيمة المحددة فيها، ويشمل تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية على محاكم الدول الموقعة على بعض المواثيق، منها اتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح وبروتوكولها الثاني لعام 1999، واتفاقية 1984 المناهضة للتعذيب، والاتفاقية الدولية لعام 2006 بشان حماية الأشخاص من الاختفاء القسري، والقاعدة 157من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للقانون الدولي الإنساني العرفي. وقد صدر بيان عن رئاسة مجلس الأمن بتاريخ 12/2/1999طلب بموجبه من الدول تعديل تشريعاتها المحلية، لدمج مبدأ الاختصاص القضائي العالمي في قوانينها من أجل معاقبة مخالفي القانون الإنساني، وتقدم الأمين العام للأمم المتحدة لنفس الطلب في تقريره بشأن حماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة في 8 أيلول 1999.

فمن الدول من أدخل تعديلات على تشريعاتها في الشأن ومنها من تحفظ على ذلك، وبالفعل فقد قامت بعض الدول الأوروبية بمنح المام الولاية للتصرف بملاحقة هذا النوع من الجرائم حتى لو كان الشخص المطلوب محاكمته أو الضحية غير مقيم أو غير مواطن في هذه الدولة. فألمانيا والسويد والنرويج هي من الدول الأوروبية الوحيدة التي لها ولاية قضائية عالمية خالصة على جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والابادة الجماعية.

فالسويد: اعتمدت في عام 2014 “قانون المسؤولية الجنائية عن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”و هذا القانون ينظر بأثر رجعي قبل نفاذه بالجرائم التي ارتكبت بصفتها جرائم ضد القانون الدولي بحسب قانون العقوبات السويدي، فالقانون السويدي ينظر بهذه الجرائم حتى لو ارتكبت خارج السويد ولم يكن الجاني أو الضحايا مواطنين سويديين أو مقيمين على أراضي السويد، أما في ألمانيا فقد اعتمدت قانون الجرائم ضد القانون الدولي في عام 2002، فهذا القانون يعطي الحق للسلطات الألمانية صلاحية التحقيق في الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة بالخارج حتى لو لم تكن لهذه الجرائم صلة بألمانيا.

فرنسا: المادة698/1ـمن قانون الإجراءات الجنائية تنص على أنه “في ظل الاتفاقيات الدولية المشار إليها أدناه، يلاحق ويحاكم أمام المحاكم الوطنية الفرنسية، من كان موجودا في فرنسا، أي شخص متورط بارتكابه بعض الجرائم الدولية المذكورة في هذه المادة وذلك في حال ارتكاب هذه الجرائم خارج أراضي الجمهورية الفرنسية.

فقرة 2 ـ الاتفاقيات التي تستلزم إعمال الولاية القضائية العالمية، ومنها اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984.

بلجيكا: أتاح قانون 1993 ممارسة الولاية القضائية العالمية من أجل ملاحقة مرتكبي انتهاكات اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الملحقين بها، وكذلك جرائم ضد الإنسانية<التعذيب>

يمكن ملاحقة المتهم في أي مكان يوجد فيه، حتى في حال عدم وجوده في الأراضي البلجيكية، ولاتشكل الحصانة عائقا أمام ملاحقة وتوقيف المتهم.

تعديلات جديدة: لا يمكن الملاحقة الا بطلب من النائب العام الذي له صلاحية تقديرية لإقامة الدعوى في حين كان للمتضرر قبل هذا التعديل إقامة الدعوى مباشرة أمام المحكمة دون انتظار موافقة النائب العام، وعدم وجود المتهم أو المشتبه به على الأراضي البلجيكية يشكل عائقا أمام تحريك الدعوى وقبول الشكوى، وتم تفعيل مبدأ الحصانة للضيوف والدبلوماسيين الرسميين والعاملين في المنظمات الدولية في بلجيكا.

المملكة المتحدة: تمارس المحاكم البريطانية اختصاص الولاية القضائية العالمية ضد مرتكبي الجرائم الدولية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984وذلك بملاحقة مرتكبي جرائم التعذيب في دول أجنبية أمام محاكمها الوطنية، وذلك وفقا لقانون العدالة الجنائية مادة134لعام 1988 مع تفعيل مبدأ الحصانة المنصوص عليه في المادة14/1 من قانون الحصانة العامة لعام 1987، ولكن بعض الضغوطات من المنظمات الحقوقية، صار من الممكن اصدار مذكرات توقيف أو قبض حتى مع وجود مبدأ الحصانة، إذا كان هناك أدلة كافية، من قبل أي قاضي بريطاني، دون انتظار موافقة النائب العام، وانما هذه الموافقة مطلوبة بشكل لاحق لمتابعة الإجراءات.<قضية الديكتاتور التشيلي بينوشيه:ألقي القبض عليه عام 1998لمسؤوليته عن أعمال التعذيب وسمح له بالمغادرة لأسباب صحية، وقدجاء قرار مجلس اللوردات الصادر في 24 أذار 1999:التعذيب هو جريمة ضد المجتمع الدولي الذي يتمتع أطرافهالأعضاء باتفاقية الامم المتحدة لمناهضة التعذيب، بالحق في ممارسة ولاية قضائية عالمية، وإن أي رئيس سابق لأية دولة لا يمكن أن يتمتع بحصانة في حال ارتكابه مثل هذه الجرائم

ألمانيا: أتاحت المادة السادسة فقرة 1و6من قانون العقوبات ممارسة الولاية القضائية العالمية، حيث تسمح هذه المادة للمحاكم الألمانية، محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، وذلك في حال وجود أي اتفاقية دولية تلزم ألمانيا بذلك، وقد اعتمدت ألمانيا ممارسة الولاية القضائية بعد حزيران 2002، بعد اعتماد قانون مكافحة الجرائم بالقانون الدولي العام، وتم بموجبه ادخال كل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية في التشريع الألماني ويمكن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم بغض النظرعن جنسية الفاعلين أو مكان وتاريخ وقوع الجرائم

معوقات أمام استخدام مبدأ الولاية القضائية في ألمانيا: النائب العام الفدرالي يجب أن يمتنع عن فتح تحقيق في حال عدم انتظار أو عدم توقع حضور المشتبه به، وألا تكون القضية قيد البحث والتحقيق من قبل أي محكمة أو هيئة قانونية أخرى، وعدم ممارسة الولاية القضائية العالمية ضد الأشخاص الموجودين في ألمانيا بناء على دعوة الحكومة.

اسبانيا: تقاضي اسبانيا مرتكبي أعمال التعذيب خارج حدودها منذ التصديق على اتفاقية مناهضة التعذيب في عام 1987، وقد تأكد ذلك أيضا باجتهادات المحكمة الاسبانية العليا، أما بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية الأخرى فيجرمها القانون الاسباني منذ عام 2004، وقد اشترط القانون 2009/1 لعام 2009 مناجل ممارسة الولاية القضائية العامية وجود المشتبه به في اسبانيا، أو ضرورة أن يكون الضحايا من الرعايا الاسبانيين.

سويسرا: أصدر المجلس الوطني السويسري في أذار 2001 القانون يهدف إلى تعزيز ممارسة الولاية القضائية العالمية في سويسرا، وذلك بجعل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بمثابة قانون وطني، من أجل تعزيز مبدأ عدم الإفلات من العقاب لكل مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، ولا تتدخل سويسرا إلا في حالة عدم قبول تسليم مرتكبي هذه الجرائم الدولية، وأن يكون العمل المرتكب مجرَّم في كل من سويسرا والدولة التي وقع فيها<مبدأ التجريم المزدوج>.

هذه بعض الأمثلة عن الدول التي تطبق في قوانينها مبدأ الولاية القضائية الدولية، وهناك توسع في الأخذ بهذا المبدأ وتوجد الكثير من التحقيقات بهذا النوع من الجرائم وهناك بعض المحاكمات ما تزال جارية ويمكن اصدار أحكام ضد مرتكبي هذه الجرائم من المحاكم التي تنظر بها، ومن مختلف أطراف النزاعات، وتطبيق هذا المبدأ وان كان على نطاق ضيق وبشكل خجول ولكن يمكن اعتباره رسالة موجهة الى مرتكبي مثل هذه الجرائم مفادها ان الإفلات من العقاب لن يحصل مهما طال الزمن ومهما كانت الثغرات في الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد.

من العدد ٤٠ من جريدة المسار