تأسيس الأممية الثانية وتأسيس النقابات والمنظمات السياسية العمالية

كانت الديموقراطية الاجتماعية الألمانية أكبر حزب ضمن الأممية الثانية، وكانت أول منظمة عصرية جماهيرية وذلك بالنظر إلى أهميتها العددية وبالنظر أيضا إلى مواقفها النظرية. أسست سنة 1875 باتحاد أتباع لاسال مع الماركسيين. وترأسها كل من ويلهيلم ليبنيخت وأوغست بيبيل وقد أضحى كارل كاوتسكي وبسرعة منظرها الأساسي. ففي سنة 1887، سنتين قبل إنشاء الأممية الثانية، نشر كاوتسكي مؤلف “النظريات الاقتصادية لكارل ماركس”، والذي أضحى المؤلف الأساسي والتقليدي لنشر الماركسية. وبذلك حجمت المبادئ الاقتصادية الماركسية إلى مجرد دعوة عقائدية تقوم عليها، وعوض ذلك الفراغ بمقولات جدلية  أفرغت من القاعدة الفلسفية عامة. 

جعل أعضاء الأممية الثانية من أنفسهم ورثة رسميين لمؤلفات كارل ماركس وإنجلز، على أنهم لم ينشروا أبدا “مخطوطات ماركس الاقتصادية والفلسفية”، بينما أصبح تأليفات كاوتسكي التحجيمي مرجعاً أساسياً لكل من يود “البحث الموضوعي” في الفقر والمراهقة الفوضوية وغيرها من جرائم الرأسمالية.

وفي سنة 1892 نشر كاوتسكي برنامج إرفورت، الذي أضحى بدوره مرجعا لكل الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية عند إعدادها لبرامجها واستراتيجياتها السياسية. كان العنصر الأساسي في النظرية كما هو في التطبيق، هو التأكيد على التنظيم أولا وأخيرا. لذلك ركزت الديموقراطية الاجتماعية الألمانية قواها لتحقيق الحاجيات الأولى حسب متطلبات العصر، تاركة الأهداف الأساسية للاشتراكية إلى ما بعد. وإذا كان بالإمكان الانتظار في هذا النطاق، فإن الحاجة كانت ملحة للنضال التطبيقي والذي سيمكن من الإحراز على انتصارات معتبرة. 

وخلال الإثنى عشر عاما لوجودها، كان على الديموقراطية الاجتماعية الألمانية أن تواجه عقبة القوانين المعرقلة والمضادة للاشتراكية والتي وضعها بسمارك عام 1878 ثم أزيلت عام 1890، فمنعت الاجتماعات والمنشورات كما تم التضييق على الزعماء، بل سجنوا في كثير من الأحيان. ومع ذلك تم طبع المنشورات في الخارج وأدخلت خلسة إلى ألمانيا. لقد حاول بسمارك تحويل أنظار العمال عن الاشتراكية وذلك بإعلانه عن مقتضيات وقوانين ذات بعد اجتماعي كالتأمين عن المرض والشيخوخة، ورغم ذلك فقد ظل العمال عازمين على إنشاء منظمتهم الخاصة وبوسائلهم الذاتية. وناضلوا من أجل تحديد ساعات العمل اليومي والزيادة في الأجور والتعليم لفائدة الجميع وحرية الصحافة. ورغم التضييق والقمع فإن الحركة العمالية لم تتوقف عن النمو. 

وفي سنة 1890 وبانتهاء صلاحية القوانين المضادة للاشتراكية أضطر المستشار الحديدي إلى الاستقالة. وعند أول انتخابات حرة حصلت الديموقراطية الاجتماعية على 1427000 من الأصوات، أي 20 بالمائة من الأصوات المعبر عنها. وفي سنة 1905 صوت 25 بالمائة من الألمان للاشتراكيين، ومكنوا 81 برلمانيا من الديموقراطية الاجتماعية من الصعود إلى البرلمان (الرايخستاغ). وفي سنة 1914 كان الحزب يضم مليوناً من المنخرطين، كما كان يؤيده ثلاثة ملايين من أعضاء النقابات المختلفة. لقد كانت الديموقراطية الألمانية أول حركة اشتراكية تقوم بإعداد منظمة محكمة ومتطورة؛ فهناك الحزب السياسي الجماهيري، زد على ذلك عددا من المنظمات النقابية والتعاونيات وحركات الشبيبة وجمعيات النساء، كما كانت تنشر عددا من الصحف والدوريات والكتب والمناشير الخاصة، وأضحت عالما في حد ذاتها، بخلقها لتقاليد “اشتراكية” خاصة بمناسبات الزواج والولادة والوفاة؛ وكانت تمول جمعياتها الرياضية والرحلات والأنشطة الموازية لدرجة ظن فيها البعض من أعضائها أن القوة التنظيمية للديموقراطية الاجتماعية قادرة بذاتها، وفي حد ذاتها، على منع الحرب الرأسمالية، وضمان السلطة الديموقراطية الاجتماعية. وعندما اندحرت الرأسمالية بشكل آلي وحتمي، كما كان يؤما، ظن البعض بأن زعماء الحزب سيأخذون بمقاليد الأمور، وسيعوضون الزعماء الرأسماليين الذين “أساؤوا تسيير” قوى الإنتاج، ودخلوا في متاهات الاستعمار وأثقلوا كاهل الشعب بالمصاريف العسكرية. 

لقد أضحى هذا الإيمان الأعمى بالقوة التنظيمية القادرة على الدفع الآلي بعيدا بكل خطر حربي، السمة المميزة ليس فقط بالنسبة إلى الديموقراطية الاجتماعية الألمانية بل أيضا بالنسبة إلى الأممية الثانية بكاملها. وعليه قام كير هاردي، المؤسس للحزب العمالي المستقل لبريطانيا والذي تميزت مواقفه النضالية بالاتجاه اليساري دائما، “بإعلان إضراب عمال المناجم البريطانيين، ظنا منه أن ذلك كاف في حد ذاته لإيقاف الحرب.” ونفس الشيء ظنه أدلير أحد الممثلين النمساويين حيث آمن بقوله إن “جريمة الحرب” ستؤدي بشكل “آلي” إلى نهاية الحرب. لقد كان مصطلحا “الآلية” و”الحتمية” الأكثر شيوعا في قاموس الأممية الثانية، على أن الكامن وراء ذلك كان هو النظام والتنظيم أولا وأخيرا. 

لقد أضحى انعدام النظام الوصف الأكثر احتقارا، كما أشار إلى ذلك إرنست فيشر ضمن مؤلفه: “يصبح العامل غير المنظم نوعا متخلفا من الجنس البشري”. وأصبح الأساس هو “رأسمالية منظمة” اعتبرت “كمرحلة انتقالية ضرورية نحو الاشتراكية”. بينما احتقر كل المقاولين الصغار والجماهير القروية الكبرى والصناع التقليديين والعمال غير المنظمين، لدرجة أن الاستعمار الذي حورب رسميا لم يلحقه نفس الاحتقار الذي لحق كل من “لا يعتبر منظما”.لقد كان موقف الأممية الثانية كالتالي: “على النقابات تنظيم وتعبئة البروليتاريا على الصعيد الاقتصادي، وعلى الأحزاب تنظيمها وتعبئتها على الصعيد السياسي، بينما تنظم الشبيبة على أساس معارضة الحرب والنظم العسكرية. وعندما نحصل على ما يكفي من الأصوات سنمتلك العالم”. 

وفي سنة 1907، وفي أوج الأممية الثانية اعتمد المؤتمر التعديل المضاد للحرب والمقدم من لدن لينين ولوكسمبورغ، في حين تراءت النهاية القريبة للأممية. لقد كان مؤتمر 1907 الأول الذي انعقد بعد الثورة الروسية لسنة 1905. مما يفرض ضرورة مناقشة هذه القضايا الحاسمة، أو بالأحرى إعادة النظر في النظرية على ضوء هذه المستجدات، إلا أن ذلك لم يكن متضمنا في جدول الأعمال. ورغم قيام الثوريين اليساريين – لينين ولوكسمبورغ وتروتسكي – بتعديل نظرياتهم تباعا وعلى إثر الثورة الروسية، فإنهم لم يطالبوا أعضاء المؤتمر بفعل نفس الشيء، ولم يناقش أي منهم الصفة الأوربية لهذا التجمع العالمي، في وقت عملت فيه الطبقة العمالية على “السيطرة على الأفق”. ولم يطالب أحد بإدراج الأحداث الأخيرة ضمن جدول الأعمال. ولم يتهم أحد الغلبة النظرية والتطبيقية للأحزاب الألمانية.

ورغم اختلاف كل من لوكسمبورغ ولينين وتروتسكي جذريا فيما بينهم، فإنهم لم يبتعدوا عن الاتجاهات السياسية الأخرى، خاصة وأنهم كانوا أكثر وعيا بالإجماع الفكري الذي يقربهم من الأممية وينأى بهم عن اختلاف الرؤى الذي يبعدهم عنها. لقد استلهمت مقررات المؤتمر من روح أحداث 1905، حيث شكلت الثورة الروسية حصيلة طبيعية للحرب الروسية اليابانية عام 1904. وعليه فقد تقدم كل من لينين ولوكسمبورغ بتعديل لمشروع القانون المضاد للحرب تضمن ما يلي:

1- التعهد  بمجانبة الحرب بأي ثمن.

2-  في حال وقوع الحرب، “وجب التدخل لإيقاف النزاع بسرعة، واستغلال الأزمة الاقتصادية والسياسية الناتجة عن الحرب بأقصى ما يمكن لتأجيج الطبقات القاعدية للشعب، والإسراع بإسقاط هيمنة الرأسمالية”.

وبذلك حصل التعديل على إجماع المؤتمر. لا توجد نظرية ماركسية لا تشرك بين المرحلة الخاصة بعينها لثورة العمال والمرحلة الخاصة للتطور الرأسمالي. فلقد مكنت ثورة 1905 من ظهور شكل جديد للنظام العمالي، لم يكن معروفا حتى ذلك التاريخ، وهو السوفييت. ولا يمكن تفسير عدم الإشارة لهذا المعطى الجديد ضمن جدول الأعمال إلا بالقول بأن منظري الأممية الثانية كانوا غير آبهين بالموجات الثورية للطبقات العميقة والقاعدية للبروليتاريا الروسية، بينما كانت كل أفكار النظرية كما عاشها ماركس تخرج من أحشاء هذه البروليتاريا. 

ويرجع الفضل إلى النضالات الفعلية للعمال في قطيعة ماركس مع الفكر البرجوازي للنظرية. فعلى المثقفين أن لا يبنوا أفكارهم من لا شيء، بل عليهم أن يتبعوا الحركة العمالية التي تنتج الظروف التي تمكنهم من إعداد نظرياتهم، وعلى هذا الأساس بنى ماركس نظريته. وإذا رأينا في السابق أن ثورات 1861 و 1871 كان لها أثر عميق على الفكر الماركسي، فإن الثورة الروسية لم يكن لها أي تأثير على منظري الأممية الثانية. وبذلك أصبحت الإشارة إلى أن الأممية الثانية، كمنظمة، تبتعد عن الخط الماركسي، وعلى الرغم من أنها اعتمدت اللغة الماركسية؛ فإنها لم تتبع الفكر الماركسي.

رايا دوناييفسكايا: كتاب “الماركسية والحرية” – الكتاب صادر في عام 1958.

من العدد ٣٩ من جريدة المسار