مراحل الأزمة السورية

محمد سيد رصاص

بدأت الأزمة السورية مع مظاهرات مدينة درعا في يوم الجمعة 18 آذار\مارس 2011، وليس مع مظاهرة سوق الحميدية بدمشق في 15 الشهر المذكور. من خلال درعا كان هناك صفارة بداية لحراك اجتماعي معارض أخذ شكل مظاهرات في مدن وبلدات سورية عدة (اللاذقية – بانياس- دوما- حمص- جسر الشغور)، إضافة إلى منطقة حوران حصلت فيما تبقى من الشهر المذكور والشهر التالي ثم انضمت مدينتي حماة ودير الزور ومناطق واسعة من ريفي ادلب ودمشق في صيف 2011. كان واضحاً خلال أشهر أربعة بأن حراكاً اجتماعياً عفوياً واسعاً (ثم دخلت الأحزاب على الخط بين حزيران وتشرين أول 2011) يحمل مطالب بالتغيير السياسي من دون الوصول إلى شعار “اسقاط النظام” الذي لم يظهر سوى في بعض المظاهرات بشهر تموز\يوليو. الأزمة السورية نشأت من مشهدية الحراك المعارض في مواجهة السلطة حيث لم يستطع طرفا المشهد ايجاد تسوية بينهما، ولا أن يتغلب أحدهما على الآخر. الأزمة تكونت من هذا الاستعصاء التوازني وهي كانت داخلية في عناصرها حتى أقلمتها مع مبادرة الجامعة العربية في 2 تشرين ثاني\نوفمبر 2011.

خلال تلك الأزمة السورية الداخلية كان ملفتاً موقف الأطراف الخارجية: سعت تركية لمصالحة بين السلطة السورية و”جماعة الإخوان المسلمين” منذ نيسان\إبريل 2011. كان السفير الأميركي روبرت فورد مساهماً رئيسياً في الدفع لعقد مؤتمر لمعارضين سوريين في فندق سمير أميس في 27 حزيران\يونيو والذي نقل جلساته التلفزيون الرسمي. كان هناك تصلب فرنسي وقطري اتجه نحو القطع مع السلطة السورية منذ شهر تموز\يوليو، فيما لم يتجه الأتراك نحو ذلك إلا بعد زيارة وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو لدمشق في 9 آب\أغسطس وكذلك السعودية التي أعلنت القطيعة مع السلطة السورية خلال العشرية الأولى من شهر آب حتى وصلت الأمور للذروة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في 18 آب من خلال دعوته الرئيس السوري للتنحي وليتبعه بنفس اليوم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون. كان الموقف الإيراني واضحاً منذ الشهرين الأولين في مساندة السلطة السورية فيما لم يتوضح الموقف الروسي سوى عبر فيتو 4 تشرين أول\أكتوبر 2011 في مجلس الأمن.

هذا الاستقطاب الإقليمي-الدولي الذي نشأ  بين الشهرين الثامن والعاشر من عام 2011 على وقع الأزمة السورية ذات الايقاع الداخلي نقلها إلى مقلب آخر وحتى جعل الأطراف السورية المتنازعة تفكر في تصليب وضعها وتقويته مثل السلطة التي راهنت منذ ذاك الوقت على دعم إيراني-روسي فيما الكثير من المعارضين وخاصة بعد تصريح أوباما الذي سبق بخمسة أيام سقوط القذافي ،أصبحوا يراهنون على تكرار سوري للسيناريو الليبي عندما كان السلاح المحلي المعارض هو ذريعة لتدخل الناتو ضد القذافي بدءاً من شهر آذار\مارس 2011، وفعلاً هذا ما رأيناه عند تشكيل “المجلس الوطني السوري “في 2 تشرين أول 2011 عندما كان طلب “الحماية الدولية للمدنيين “مترافقاً مع دعم “الجيش السوري الحر “ومع اتجاه ” الاخوان المسلمون”، وهم الفصيل الرئيسي في المجلس بالتعاون مع “إعلان دمشق”، إلى تبني حمل السلاح وهو ما قرره مجلس شورى الجماعة خلال شهر تشرين أول2011. بعبارة أخرى: على وقع أزمة سورية داخلية نشأت جبهتا دعم، أي روسيا-ايران-حزب الله للسلطة السورية والولايات المتحدة-فرنسا-تركيا-قطر لـ “المجلس الوطني السوري” والمعارضة المسلحة، فيما ترددت السعودية كثيراً في خريف 2011 وبحر عام 2012 في الانخراط الكثيف بدعم المعارضة السورية بسبب هواجسها من مد الأصولية الاسلامية، بخلاف سياسات الرياض في فترة 2013-2015 عندما حاولت انتزاع “الائتلاف “من قبضة قطر وتركيا في أيار 2013 عبر ما سمي بـ “التوسعة ” ثم تعاونت مع تركية في تشكيل “جيش الفتح” بربيع 2015 مما قاد إلى سقوط  مركز محافظة إدلب ومدينتي أريحا وجسر الشغور من يدي السلطة.

على الأرجح أن هذا الاستقطاب الدولي – الاقليمي لم يقد فقط إلى انتفاء محلية الأزمة وإنما قاد أيضاً إلى استحالة نجاح أقلمتها وبالذات الشكل العربي للأقلمة متمثلاً في مبادرة الجامعة العربية التي كانت ذات نفس اصلاحي- تغييري للواقع السوري وليست ذات نفس ينحو إلى ما ذهب إليه “المجلس” نحو “اسقاط النظام “،وقد كان هناك تعاون كبير بين أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي وبين قياديين من “هيئة التنسيق الوطنية” في كتابة مسودة المبادرة منذ آب 2011. كانت أقلمة الأزمة من خلال تعريبها بداية لنقل الأزمة من أيدي السوريين ،ولكن كان ملفتاً للنظر هنا أن اللاعب الإقليمي الأكبر في الأزمة السورية أثناء أقلمتها (2 تشرين ثاني 2011-21 آذار 2012 عندما بدأ تدويل الأزمة مع صدور البيان الرئاسي من مجلس الأمن بتأييد مبادرة المبعوث الدولي كوفي عنان) لم يكن العرب بل تركية وايران.فشلت مبادرة الجامعة العربية لأن العرب لم يكن لهم اليد الطولى في أزمة عربية، كما كانت مصر والسعودية في الأزمة اليمنية 1962-1970، ولأن (الدولي)، أي واشنطن وموسكو،كان أقوى في الأزمة من أنقرة وطهران إذا لم نقل بأن أنقرة كانت مخلب واشنطن في سوريا كما كانت فرنسا ساركوزي رأس حربة للأميركي ضد القذافي وهذا ما قاد إلى طريق سالك نحو تدويل الأزمة السورية التي أصبحت أزمة بثلاثة طوابق: سورية- اقليمية- دولية ثم انضاف لها طابق رابع منذ 9 نيسان\إبريل 2013 مع تأسيس “داعش”ليصبح الطابق الرابع هو المنظمات العابرة للحدود وإن كان وجود “جبهة النصرة “منذ اعلانها في 23كانون ثاني \يناير 2012 هو الاسم الكودي ل”دولة العراق الاسلامية” بزعامة أبوبكر البغدادي و ل”تنظيم القاعدة “الذي كان يتبع له البغدادي حتى تأسيس “داعش” مادام الجولاني مرسلاً من البغدادي لسوريا في عام 2011.

هنا تدويل الأزمة السورية كان حصيلة للانخراط الروسي الفعلي في الأزمة السورية والذي كانت قمة جبل جليده هما  فيتو 4تشرين أول\أوكتوبر2011وفيتو4شباط\فبراير2012،وهوما منع تكرار السيناريو الليبي عبر أردوغان في سوريا وخاصة بعد ارسال الروس لأسطول البحر الأسود إلى الساحل السوري في أواخر تشرين ثاني\نوفمبر2011.الملفت للنظر هنا أن قمة اتفاق الأمريكان والروس حول نص  تدويلي للأزمة السورية مثل (بيان جنيف1)في 30حزيران\يونيو2012لم تعقبه خطوات عملية نحو الحل السياسي  بل بقي حبراً على ورق في ظل انخراط أميركي فعلي وواضح المعالم  نحو دعم المعارضة السورية المسلحة ومع دعم  أميركي لداعمي الأخيرة نحو تغيير الواقع على الأرض من خلال عمليات أمنية (تفجير خلية الأزمة- 18 تموز 2012، اقتحام مبنى الأركان العامة للجيش في قلب دمشق- 26 أيلول 2012) أو عمليات عسكرية قادت لتغييرات على الأرض لصالح المعارضة المسلحة (الأحياء الشرقية لمدينة حلب وأغلب أحياء ديرالزور في تموز2012) أو عمليات عسكرية حاولت إحداث تغييرات على الأرض (هجوم المعارضة المسلحة على مدينة دمشق المنطلق من ريفها نحو المطار وطريق المطار والأحياء الشرقية لدمشق بدءاً من يوم 7 تشرين ثاني\نوفمبر 2012 حتى أواخر العام).كاد الروس أن ينحنوا من خلال تصريح ميخائيل بوغدانوف أمام الغرفة الاجتماعية الروسية: “فيما يتعلق بالاستعدادات لانتصار المعارضة فلا يجوز استبعاد ذلك بالطبع. يجب النظر إلى الوقائع.

هناك توجه إلى هذا المسار”(جريدة “الحياة”،13\12\2012)، وكان هناك مراهنات أميركية بأن التشاؤم الروسي حول الوضع السوري سيؤدي إلى تغييرات عند الكرملين في النظرة للوضع السوري وهو ما سارعت موسكو لنفيه بعد الضجة التي أحدثتها تصريحات بوغدانوف (جريدة “السفير”،15\12\2012). 

في هذا الإطار كان تزعم واشنطن لمؤتمر أنطاليا الذي أنشأ قيادة جديدة لـ “الجيش السوري الحر”، استبدل فيها رياض الأسعد بسليم ادريس، ضمن هذا الانخراط الأميركي في دعم المعارضة السورية المسلحة، وإذا كان هذا قد تزامن في الأسبوع الثاني من كانون أول \ديسمبر 2012 مع القرار الأميركي بوضع “جبهة النصرة“ ضمن قائمة المنظمات الارهابية، فإنه على ما يبدو كان يعبر عن جهد أميركي لتغليب “المعتدلين“ على “المتطرفين“ في المعارضة المسلحة وخاصة مع استبعاد “جبهة النصرة “ و ”كتائب أحرار الشام“ من تشكيلة مؤتمر أنطاليا الذي حضرته مع أميركا وتركيا كلاً من فرنسا وقطر والسعودية. بالتأكيد فوجئ الأمريكان في مؤتمر “أصدقاء سوريا “بالمغرب في 12\12\2012 رئيس “الائتلاف “معاذ الخطيب مدافعاً عن “جبهة النصرة” ورافضاً القرار الأميركي قبل ان يلحقه في ذلك  نائبه جورج صبرة، ولكنهم على الأرجح قد فوجئوا أكثر عندما ظهرت “النصرة “ و ”أحرار الشام“ بوصفهما أقوى من تشكيلة أنطاليا عندما سيطرا على مطار تفتناز (11\1\2013) وعلى بلدة مورك شمال حماة وعلى بلدة الشدادة جنوب الحسكة (شباط)وعلى مدينة الرقة(3\3\2013). 

كان باراك أوباما قد اعترف بـ “الائتلاف” كـ “ممثل للشعب السوري” في خطوة اعتبرها الروس نقضاً لبيان جنيف الذي يقول بحل توافقي بين السلطة والمعارضة وعلى ما يبدو أن الرئيس الأميركي قد اقتنع بالحل التوافقي الذي يمثله بيان جنيف “بعد أن أصبح مقتنعاً بأن سيطرة الإسلام الراديكالي على المعارضة المسلحة ستجعل البديل للنظام السوري هو دولة إسلامية متطرفة”(جريدة “نيويورك تايمز”،27\4\2013).

من هنا ذهاب وزير خارجيته جون كيري لموسكو وعقده اتفاق 7 أيار\مايو 2013 مع لافروف لتفعيل بيان جنيف وعقد مؤتمر جنيف2 الذي أتى وفق القرار 2118(27 أيلول 2013)الذي وضع النص الكامل لبيان جنيف في سياقه ولو أنه كقرار أتى حصيلة لتوافق أميركي- روسي لنزع السلاح الكيماوي الروسي حيث كان الاتفاق المذكور حصيلة للتدويل الأميركي- الروسي الذي أنتج (جنيف 2) و (جنيف3) ومابينهما أتى التدخل العسكري الروسي لسوريا في 30 أيلول 2015 حصيلة لتوافق أميركي- روسي ثم القرار 2254.

يمكن أن يكون هنا، تاريخ 30 أيلول 2015 مرحلة جديدة في مسار الأزمة السورية لأنه أنتج مفاعيل جديدة منها التقارب الروسي – التركي(منذ 9 آب 2016) ومسار أستانة (الأسبوع الأخير من عام 2016) ومؤتمر سوتشي الذي أنتج اللجنة الدستورية بتوافق روسي مع الأمم المتحدة في الشهر الأول من عام 2018، كما أنه أنتج تحالف موسكو- طهران- أنقرة عبر قمة سوتشي في تشرين ثاني\نوفمبر2017.على الأرجح أن اتجاه الروس لتحالفات في سوريا غير مرضي عنها أميركياً مع أنقرة وطهران هي التي دفعت الأمريكان  منذ عام2016 ،ومن أجل الضغط على الروس ولموازاة وجودهم، نحو بناء تواجد عسكري في قواعد بمنطقة شرق الفرات من خلال استخدام الفرع السوري لحزب عبدالله أوجلان كمظلة سورية لهذا التواجد العسكري الأميركي.التحالف الروسي-التركي سمح لأنقرة بالسيطرة على خط جرابلس-الباب-إعزاز عام 2016 وعفرين عام 2018 وخط تل أبيض-رأس العين عام 2019 وهو الذي وضع سقوفاً لمعركة محافظة إدلب الأخيرة من خلال اتفاق 5آذار\مارس2010في موسكو بين بوتين وأردوغان.

جريدة “الأخبار” 20 آذار 2020

نشرت في العدد ٣٩ من جريدة المسار