مقتطف من كتاب “الماركسية والحرية”

المفكرة والناشطة السياسية رايا دوناييفسكايا

فرديناند لاسال: اشتراكي الدولة

بعد فشل ثورات 1848 تابع ماركس تحليله وبحثه الاقتصادي، وابتعد عن أوساط المهاجرين. ومرت السنوات الخمسون الهادئة تحت ظل الأزمة الاقتصادية لسنة 1859 وفي سنة 1859 نشر مؤلفه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”. أثناء هذه الفترة قامت العناصر الشابة من ذلك الجيل بالظهور على ساحة “الاشتراكية العلمية” (الماركسية)، ومن بينهم فيرديناند لاسال. – يمكن تأطير ولادته السياسية داخل فترة التاريخ المعاصر –أي أثناء سنة 1848 في هذا الوقت، ولزمن قصير في التاريخ، ولأجل محاربة المطلقية، اجتمع البرجوازيون الديمقراطيون والثوار البروليتاريون. وقد أكدت ثورات 1848 بحروف من دم استحالة الوفاق بين هاتين القوتين الاجتماعيتين. 

وطالب لاسال بشكل مباشر الطبقة العمالية بتأسيس حزبها الخاص والمستقل. ولم يجد ماركس بدا من الانفصال عن هذه الذرية المعاقة. كما فعل عند الانفصال عن الاشتراكية الفوضوية لبرودون. لقد فرُض هذا الوضع على ماركس، خاصة وأن برودون حاول التوصل إلى وفاق بين الطبقتين، كما حاول لاسال الوصول إلى الاشتراكية عبر اختصار الطريق نحو الدولة، الدولة المطلقية للملاك البروسيين تحت زعامة بسمارك “المستشار الحديدي”. 

ولم يكن لاسال ليتوه عن طبيعة طبقة الدولة، إلا أنه بقي سجين فكرة “تخلف” العمال رغم ما سطره هؤلاء من صفحات بطولية في تاريخ القرن التاسع عشر. وعندما احتد صراع الطبقات، اعتقد لاسال أن من واجبه “ملء الثغرة بين المثقفين والجماهير”. دفعه تصرفه هذا إلى الاعتقاد بأنه المتحكم في معرفة الساعة، وأن مهمته هي تلقين هذه المعرفة إلى “غير العارف”، “الجاهل”. 

وعند محاكمته بسبب تأثيره على الجماهير، كشف في دفاعه عن تصوره الخاص لدور المثقفين: “كيف حصل أن أضحت الطبقات البورجوازية تخاف من الشعب؟ تذكروا شهري مارس وأبريل من سنة 1848، هل نسيتم ما كان عليه الوضع آنذاك؟ لقد كانت قوات الشرطة عاجزة، وملأ الشعب الشوارع، وأصبح الناس والشارع تحت سلطة رعاع مشاغبين عديمي المسؤولية (…)، جاهلين، أنتجتهم العاصفة (…) أين كان المثقفون؟ أين كنتم أيها السادة؟ (…) كان عليكم أن تشكروا هؤلاء الذين يعملون من أجل ملء الثغرات”. بين المثقفين والجماهير، لهدم الحواجز بين البرجوازية والشعب 27 كذا كان تصوره للجماهير، كما لم يختلف في تصوره للعمل قط عن هذه الفكرة التي ألح عليها برودون، الذي –وللتذكير-قال بضرورة “نهب” العمال لرأسمال البرجوازية. واقترح لاسال أن يقوم العمال بإنشاء تعاونيات للمنتجين “بدعم من لدن الدولة”. 

وهذا ما قد يدفع إلى اعتبار الدولة البروسية المطلقية كحيوان بدون طبقات، على أساس أن لاسال لم يظن أبدا هذا. وظل لاسال غير معترف باستطاعة العمال التغلب على وضعيتهم في العمل، معتقدا أن ماركس كان “جد تجريدي” وأنه لم يفهم “السياسة الحقيقية” لأنه آمن بالإبداع التاريخي للعمال. 

أقنع لاسال نفسه، بقدرته، وبسهولة، على إجبار بسمارك على القبول بأفكاره، وقد حمله إدراكه للواقعية السياسية على البح ث ع ن مساع د ف ي شخص كارل روبيرتوس، وهو رجل اقتصاد “اشتراكي” في خدمة الحكومة البروسية. وفي البداية حصل فعلا على موافقة روبيرتوس في شأن مشروعه حول تعاونيات المنتجين المدعمة من لدن الدولة، إلا أن روبيرتوس لم يتصور إمكانية تحقيق تحول اشتراكي إلا بعد خمسة قرون على الأقل، بينما كان لاسال مستعجلا، يود الوصول “بسرعة” إلى الاشتراكية، إن أمكن بعد سنة واحدة. لكن الأواصر التي تربط بين المثقفين الداعين إلى نظرة خاصة إلى العمل كانت جد قوية لدرجة أن عجلة لاسال توافقت وحكمة روبيرتوس، مما مكنهما من التعاون لبعض الوقت. 

ويجب أن نعترف بأن ممثل العمال هذا لم يكن اشتراكي الصالونات، بل كان مناضلا، لم يقتصر على الكتابة فقط، بل ساهم في تأسيس أكبر حزب مستقل للبروليتاريا الألمانية، للضغط على الدولة البروسية لإجبارها على منح مساعدات مالية للعمال الذين سيؤسسون معاملهم الخاصة.

وبذلك كان من الواجب التحريض على الحركة في أوساط العمال. وهذا ما قام به فعلا بواسطة ندائه التالي: “على الطبقة العمالية أن تنتظم في إطار حزب مستقل، وعليها أن ترفع شعار وراية: الاقتراع المباشر المساوي للجميع، فهو الأداة الوحيدة التي ستمكن الطبقة العمالية من أن تصبح مشغلة ذاتية، كما سيقصى القانون الطاغي والقاسي المجمد للأجور في حدها الأدنى، وعندما ستصبح الطبقة العمالية مشغلة ذاتية سينجلي الفارق بين الأجور والأرباح، ومن واجب الدولة أن تخدم لصالح هذه القضية العظمى”.

استجاب آلاف العمال لهذا النداء، فتكونت الجمعية العامة للعمال الألمان رسميا في مايو 1863. وفي يونيو، وبدون مشاورة العمال –وكان ذلك شيئا عاديا- بعث لاسال إلى بسمارك بالقوانين المنظمة التي تم الاتفاق في شأنها، مرفقة بالكلمات التالية: “قد يكفيك هذا لتتأكد بأن الطبقة العاملة مستعدة ضمنيا لقبول الدكتاتورية، إذا كانت هذه الأخيرة ستعمل لضمان مصالحها”. 

لم يكن لاسال خائنا ولا من الذين تشترى ضمائرهم. لقد ناضل من أجل مبادئه ودخل السجن لأجل ذلك، كما لم يستطع أبدا أن يستسيغ إمكانية أخذ العمال بزمام الأمر، فبالنسبة إليه كانوا يمثلون “الرعاع”، وذلك ما ظنه سنة 1844 عندما ثار عمال النسيج بسليسيا، وكان آنذاك ما يزال طالبا، إلا انه اعتقد جازما في وجوب تدخل الدولة لضمان النظام. واستمر في نفس الاعتقاد سنة 1848 حين تجاوز العمال مرحلة مهاجمة الآلات إلى ضرب النظام البرجوازي. 

ورغم دفاعه عن انتصارات الطبقة العمالية إلا أنه ظل يعتبرهم “رعاعا” مستلبين من لدن “مشاغبين عديمي المسؤولية أنتجتهم العاصفة”. ولم تتغير نظرته قط عندما ناشد الجماهير بإنشاء حزبهم الخاص والمستقل سنة 1862 ، ولم يفرق بين مناشدته هذه وهدفه الأساسي : “أن يكون هو على رأسهم”. لقد كان العمال كتلة ضعيفة وعليلة، بينما كانت الدولة قوية، وكان بإمكانها أن تحقق “لكل واحد منا ما لا نستطيع أن نحققه لأنفسنا”. 

وأحس لاسال بضرورة “تزعم” الجماهير، فهو المسير وهي المستمرة في العمل، كما ستعمل على ترشيحه لمجلس البرلمان. يقول في شأنه ماركس “إنه كان يتصرف كدكتاتوري عمالي للمستقبل، مستقيا عباراته من القاموس الماركسي”. فقد حل إشكالية الأجر ورأس المال ” ببساطة وتلاعب” [كذا]. وبذلك كان على العمال أن يتحركوا من أجل المطالبة بالاقتراع المباشر وأن يرسلوا إلى مجلس البرلمان أشخاصا مثله “يتوفرون على السلاح الأبيض، سلاح العلم”. 

وبعدها سيؤسسون ورشات عمالية ذات رأسمال . مدعم من الدولة، بعدها ستنضم هذه المؤسسات شيئا فشيئا إلى البلد كله … إذا كتب ماركس كل هذا، فليس لوعيه بالمؤامرة بين لاسال وبسمارك، ولكن لأنه كان متأكدا من اعتقاد لاسال في تخلف العمال. لقد كان لاسال ضحية سراب عصره؛ “ليس في العلم طبقية”، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد وبشكل طبيعي في أنه يمثل؛ “العلم والعامل” لأن العلم بالتأكيد متضمن في المثقف الزعيم. 

رفض ماركس بالضرورة هذه “الصبيانيات”، وبما أنه رفض الفكرة البرجوازية القائلة بأن الفترة المعاصرة هي فترة “العلم والديمقراطية”، فقد رفض النظرية المجردة “للعلم والعامل”، بقوله العلم متضمن في الآلة وفي الواقع، كما أن الديموقراطية متضمنة في البرلمان البرجوازي. لقد كان لحلم لاسال في أن يكون زعيم العمال، لقاء مع أوهام البرجوازيين، وذلك ببقاء العمال في المعامل.

من العدد ٣٨ من جريدة المسار