نقد الأيديولوجيا
ولد مفهوم الأيديولوجيا أو “علم الأفكار” منذ بداية القرن التاسع عشر، كمصطلح، على أيدي مجموعة من اللغويين الفرنسيين، وتحديداً، في عمل دستيو دي تراسي “عناصر الأيديولوجيا” في سنة 1801.
لكن مما لا ريب فيه أن هذا المفهوم قد تعرض لتحولات هامة بفضل القارات المعرفية الجديدة التي تم اكتشافها على أيدي ماركس، ونيتشه، وفرويد، حيث لا يمكن لأي باحث رصين القفز فوق القطوع التي تركها حفرهم المعرفي.
لكن ضرورات الحفر المعرفي تستلزم المزيد من البحث والتنقيب بما يتعدى المصطلح وتاريخه الى البحث في ظاهرة الأيديولوجيا ودورها التضليلي في تنضيد مستويات البنية الاجتماعية على نحو متراكم يبعدها عن محورها السياسي المحرك.
يصعب على الباحث الموضوعي أن يحصر علّة التضليل هذه في “الخبث الطبقي”، سواء للتحالف الطبقي المسيطر او للفئة المهيمنة فيه.
لا ريب ان مصالح الجماعات تنعكس في خطابات متنوعة ومتحيزة، لكنها ايضا مقنّعة بقناع التسامي أو الإعلاء كقيمة اجتماعية تضفي على الخطاب مشروعية أخلاقية.
هكذا يبدو العمل المشترك لـ ماركس وانجلس “الأيديولوجيا الالمانية” في سنة 1845، والاعمال اللاحقة لكل من كارل مانهيم “الأيديولوجيا والطوباوية” سنة 1929، ومدرسة فرنكفورت (خاصة: ماكس هوركهيمر، هربرت ماركوز، وثيودور أدورنو، وإريك فروم)، في ستينات وسبعينات القرن الفائت، إضافة الى مقالات لويس ألتوسّر “فرويد ولاكان” سنة 1964، و” من أجل ماركس” سنة 1965، و” الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجيا” سنة 1970، سلسلة من المقاربات في الاتجاه الصحيح.
لقد عمّقت هذه الاعمال فهمنا للأيديولوجيا بتخصيبه بمفهوم اللاوعي الفرويدي ولاحقاً باللاوعي الجمعي عند يونغ، وأخيرأً مفهوم “الحس التاريخي” النيتشوي المعادي لكل فهم متافيزيقي وأنثروبولوجي للذاكرة، لأن التاريخ الحقيقي هو ذاكرة مضادّة تسخر من كل الأقنعة، مهما علا شأنها، في كرنڨال الحقيقة. لقد فضح نيتشه زيف القيم البرجوازية كقناع مضلِّل يخفي أنانيتها وإرادة السلطة في أعماق سلوكها.
يبدو أنّ التزييف كوظيفة أساسية للأيديولوجيا يتطابق مع ظهور العناصر الاولى للّاوعي الجمعي، بدءاً بالديانات البدائية، كالطوطمية، والسحر، والوثنية، التي تستغرق طوري الوحشية والبربرية السابقين على عصر الحضارة.
هكذا يكون تاريخ تكوّن الأيديولوجيا هو تاريخ تكوّن اللّاوعي الجمعي في إعلاءاته الأولى لقوى الطبيعة العمياء التي لا يمكن “مواجهتها ” الا بطقوس “الخارق” تماماً كما في الأحلام حيث كل شيء مستحيل فيها ممكن، حتى مواجهة الموت.
لم تتكلّس عناصر الأيديولوجيا هذه في بنية إلا مع عصر الحضارة، وتحديداً مع تركّز الحرفة والتجارة ونشؤ المدن.
هنا بالضبط، ولأول مرة نشأت تلك العلاقة من التضايف بين حجم فائض الانتاج وحجم الكتلة البشرية المتفرغة للإنتاج الفكري. وهنا لافرق إن كان الفائض منهوباً من الداخل او الخارج الإمبراطوري، لأن الحضارتين اليونانية والرومانية أينعتا على جماجم العبيد.
الأيديولوجيا والمأسسة
لا يمكن لأية أيدلوجية مهما علا شأنها أن تهيمن إلا بقوة المأسسة، ولا يمكن لأية طبقة او تحالف طبقي مسيطر الاستمرار في السلطة إلا بالهيمنة عبر مؤسسات الأدلجة المؤلفة: من الكنائس والمساجد، إضافة الى المدارس الرسمية والخاصة، والعائلة، والمؤسسات الحقوقية، مع الأحزاب السياسية المختلفة والنقابات، وأخيراً المؤسسات الفنية ووسائل الإعلام المكتوب والمسموع والمتلفز(2)، ونحن نضيف المعولم.
هذا الفهم للأيديولوجيا قدمه ألتوسّر مستنداً الى أعمال غرامشي، وخاصة “رسائل من السجن”، حيث يتجاوز مفهوم الدولة كجهاز قمع على وجه الحصر ليكشف عن وظائف “مدنية” أخرى تقوم بها مؤسسات تابعة لها كالكنيسة، والمدارس، والنقابات، أي ما يسمى “المجتمع المدني”.
لكن هذه المقاربة كتبت بعد مئة وإحدى وثمانين سنة من الثورة الفرنسية (1789)، في مجتمع بلغت فيه البنية الاجتماعية زمان تطورها، وتحققت فيه العلمانية بشكل ناجز فقط في السنوات الأولى للقرن العشرين وذلك بالفصل الكامل للدين عن الدولة.