بدائل السياسة

عمقت الأزمة السورية من الشرخ السياسي والاجتماعي – الاقتصادي القائم في سوريا، والذي قام على أطياف متنوعة من أشكال السياسة، وطرق التعامل مع الواقع، حيث بقي بعض هذه القوى والشخصيات في خانة الرغبوية السياسية، أو في خانة ممارسة اللعبة السياسية بدلالة الآخر. فعلى الرغم من السنوات التسع للأزمة السورية التي استنفذت فيها البلاد القسم الأكبر من مواردها البشرية والمادية في صراع مسلح يبدو محض عبث لا طائل منه. صراع مسلح تم تقسيم الحدود الحمراء داخله بدقة، ولا يسمح لحملة السلاح الآخرين بتجاوزها. إلا أنه ما زال هناك قسماً كبيراً من أصوات السلطة السورية – إن لم تكن السلطة بأكملها- تنادي بخطاب يتمحور حول محاربة الإرهاب القادم من بقاع الأرض في “الحرب على سوريا”، وإن كانت هذه السلطة نفسها قد تخلت بشكل تدريجي عن محاربة الإرهاب بوصفه السبب الأساسي في ضرورة وجوده. وما زال هناك قسماً من المعارضة السورية لا يخرج من حلم إسقاط النظام عن بعد، وإن كان لا يدرك أي طريق قد يقوده إلى ذلك الحلم، ولا يهم إن كان ذلك الحلم سيتحقق على ظهر الدبابة الأجنبية، أو بقوة السلاح المموّل من الخارج بالضرورة. خلقت الأزمة السورية مفهوم للقادة الذين يقفون خلف الجماهير، يبحثون في المعاجم عما يشفي غليل هذه الحشود، ولا يهم إن كان ما يشفي غليل هذه الحشود قابل للتطبيق، أم مجرد كلام ينتمي إلى خانة الرغبات التي لا تملك ما يسمح لها بالتحول إلى حقائق.

السلاح في مقابل السياسة:

في الفترة التي امتدت من 1979 إلى 1982 شهدت سوريا تجربة مسلحة قام خلالها الجناح العسكري للإخوان المسلمين بارتكاب مجازر وأعمال انتقامية أدت إلى أحداث أليمة، وقام النظام بحجتها بضرب الحياة السياسية والأحزاب على امتداد سنوات طويلة حتى ربيع دمشق 2001 الذي لم يدم طويلاً، ويمكن اعتبار حياته القصيرة بمثابة دليل على عدم وجود رغبة أو إمكانية داخل النظام لإصلاح آلياته، وبعده إعلان دمشق 2005. إلا أن النبض السياسي لم يعد إلى الشارع السوري علناً وفعلياً حتى عام 2011، مع الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي. وما كان ضرباً للحياة السياسية في عقود مضت، تحول إلى ضرب الحياة السورية على جميع المستويات، ودخلنا المستنقع السوري الذي لم نستطع الخروج منه إلى الآن، وسط انقسام في صفوف المعارضة السورية على آليات حل الأزمة السورية، وحلم النظام بعودة عقارب الساعة إلى الخلف، حتى بعد 9 سنوات غيرت كل ملامح الهوية السورية، وانحدر الواقع السوري بحدة لم يتوقعها أكثر المتشائمين.

ومع ذلك إلى ساعة كتابة هذه السطور ما زال البعض ينظّر للسلاح كأداة وحيدة لإسقاط النظام، قد يكون السلاح امتداد للسياسة في بعض الحالات التاريخية. إلا أننا هنا في حالة اختبرنا فيها السلاح على مدار سنوات طويلة، على الرغم من رفض قوى سورية معارضة للسلاح منذ بداية الحراك السوريّ، على رأسها هيئة التنسيق الوطنية وأحزابها التي لها تاريخ طويل في مواجهة استبداد النظام السوريّ. ولا يعود رفض السلاح كوسيلة للتغيير السياسي، لأسباب أخلاقية فحسب، بل إيماناً من هذه القوى بأن السلاح غير قادر فعلياً على إسقاط النظام، وهو ليس ملكاً لحامله بل ملكاً بالدرجة الأولى لمنتجه والجهة التي تمدّ المسلحين به. بالإضافة إلى أن تسلح الحراك سيجره إلى ملعب لا يمكنه أن ينتصر داخله.

وعلى الرغم من أن ما أطلق عليه “الطريق العسكري لإسقاط النظام” قد أثبت عبر السنوات الطويلة فشله في زعزعة النظام فعلياً، وخصوصاً على صعيد المكانة الدولية، فهذه الدول لم تعمل جدياً على إسقاط النظام، على الرغم من خطابها الذي استمر لسنوات، والذي تحدث عن ضرورة إسقاط النظام السوري كسبيل وحيد إلى التغيير. وإن كانت بعض الدول والجهات قد ساهمت في إذكاء النار السورية بالتسليح والتمويل، إلا أن كل من هذه الدول، كانت تمارس لعبتها الخاصة على الأراضي السورية، وفق رؤى عديدة متباينة بين هذه الدول التي لديها طموحات مختلفة.

وكان خوف هيئة التنسيق الوطنية أن التسلح قد يقود إلى استبدال النظام الدكتاتوري الأمني، بنظامٍ آخر لا يحقق ما يرضي تطلعات الشعب السوري بالانتقال إلى نظام ديموقراطي عادل، لذلك كان حل هيئة التنسيق الوطنية منذ البداية حلاً تسووياً، مع تأكيدها على رفض العنف والعسكرة، والتدخل الخارجي العسكري، والطائفية. كما أن موقف الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، رأى حينها أنه لا يمكن إسقاط النظام بالسلاح لأن سوريا تختلف عن العراق، وليبيا، وتونس، ومصر، ليس لاختلاف كبير في الوقائع الموضوعية في سوريا عن غيرها فقط، بل لأن القوى الإقليمية والدولية لها حسابات مختلفة في سوريا، فلا بديل عن الحل التسووي. وما اعتبره بعض الأطراف حينها موقفاً طوباوياً في وجه النظام السوري، أثبت أنه كان نظرة واقعية إلى المستقبل. 

بين اللجنة الدستورية واللا حل:

في 23 أيلول 2019، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تشكيل لجنة دستورية سورية، تضمّ ممثلين عن النظام والمعارضة والمجتمع المدني لـ “مراجعة الدستور” على أساس القرارات الدولية ذات الصلة وخاصة القرار 2254، وذلك سعياً إلى إيجاد حل سياسي في سوريا، معرباً عن اعتقاده الراسخ أن “تشكيل لجنة دستورية يتولى السوريون أنفسهم تنظيمها وقيادتها، يمكن أن يشكّل بداية طريق سياسية نحو حل”. إذاً يمكننا القول إن اللجنة الدستورية كانت خطوة طبيعية كبداية لطريق الحل السياسي في سوريا، حلّ يقوم على معطيات جديدة دولية وإقليمية، تستند بدورها على استعصاء الأزمة السورية وتكلفتها الباهظة. لاقت اللجنة الدستورية منذ انطلاقتها الكثير من العراقيل، من جهة النظام الذي اعتبر فجأة أن وفده، هو “وفد مدعوم من الحكومة”، ليعلن عملياً أنه لن يوافق بالضرورة على ما ينتج عن لقاءات هذه اللجنة. بالإضافة إلى ما سرب عن مطالب لا تتعلق بالدستور تم طرحها من قبل وفد النظام، وهي ما بدا بمثابة اتجاهاً واضحاً لتعطيل عمل هذه اللجنة، وإن كان أحداً لا يملك إجابة عن فائدة هذه الخطوة فعلياً بالنسبة إليه. ومن جهة بعض الأصوات المعارضة، فإنها انتقدت اللجنة الدستورية منذ الساعة الأولى لتشكيلها، واعتبرتها خطوة تضفي “الشرعية” على النظام، وأنها خيانة لأحلام الحراك، وما إلى ذلك من شعارات لا تمثل الواقع الأليم الذي يمرّ به السوريين كل يوم، وهو أكثر ألماً بكثير من الاكتفاء بمشاهدته والتعليق عليه. فالسوريون يبحثون عمّا يوقف أو يخفف من آلامهم.

مهما كانت نتائج عمل اللجنة الدستورية، فإنها تمثل انطلاقة لمسار الحل السياسي في سوريا، ومن الصعب اليوم إنكار أن الحل السياسي هو أفضل الاحتمالات المتبقية بلا منازع، فسيناريوهات الحل الأخرى – إن أمكننا تسميتها سيناريوهات حلّ-كحلول التقسيم، أو المجلس العسكري، فهي سيناريوهات نرى أنها ستتسبب بزيادة عمق الجرح السوري. وستجعل المستقبل السوري بمزيد من الأزمات والتي ستحتاج منه وقتاً أطول للتعافي. 

ليس التغيير في سوريا مساراً اختيارياً، بل هو مساراً حتمياً، فكما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس: “لا يخطو الرجل في نفس النهر مرتين أبداً”. فالحل السوريّ سيأتي لا محالة، مهما كانت العوائق التي تعترض طريقه. فعقارب الساعة السورية لن تعود إلى ما قبل 2011، ولن تبقى عالقة في السنوات التي عاشها السوريين بشقاء، بل الأعوام المقبلة ستعيد رسم الخارطة السورية بالمعنى السياسي والاقتصادي-الاجتماعي – ونأمل ألا تعيد رسمها بالمعنى الجغرافي -، لتخلق سوريا بمعايير جديدة ومعطيات جديدة، على جميع القوى السورية باختلاف إمكاناتها وفاعليتها، التأقلم معها وإخراج أفضل ممكناتها، والتكلفة التي دفعها الجسد السوري بكل أجزاؤه وعلى كل الأصعدة، مهما كانت باهظة فقد تم دفعها، إلا أن الحلّ السياسي وحده قادر على إيقاف التكلفة عند حد معيّن، وتأمين السبيل الأفضل لتحقيق ما يحقق مصلحة غالبية السوريين وأحلامهم في الحرية والعدالة.

سمير سالم