ثورة 1905 والاتجاهات السياسية في روسيا بعد 1905

رايا دوناييفسكايا

لقد حطمت ثورة 1905 الأطروحة الرهيبة القائلة بتخلف العمال، وعدم قدرتهم على بلوغ الاشتراكية دون مساعدة “الطليعة”. فالبروليتاريا الروسية “المتخلفة ” تجاوزت كثيرا من خلال أدائها الأطروحات الأكثر جرأة عند منظري الطليعة. وقد هتف لينين بظهور “الجماهير كقوة”، بينما أعلن بكتابه “ماالعمل؟” في 1902: بأن العمال لا يمكنهم بواسطة الحماس وحده سوى الوصول إلى الوعي النقابي؛ فكتب سنة 1905 “إن الطبقة العاملة تعتبر فطريا وتلقائيا اشتراكية ديموقراطية” بعدما كان قد كتب في 1902 بأن الاشتراكية لا يمكنها إلا أن تكون مستوردة من خارج نضال طبقة البروليتاريا، أكد في1905 على أن “الظروف التي تعيش فيها البروليتاريا داخل مجتمع رأسمالي، تجعل العمال يتطلعون إلى الاشتراكية، وفي جميع المراحل الأولى للحركة يلتحقون تلقائيا وبحماس بالحزب الاشتراكي “. 

غير أن لينين في 1902 أراد أن يكون الحزب عبارة عن تجمع مغلق، يتشكل من عدد قليل من الأعضاء يتم اختيارهم وفق معايير صارمة جداً، وكان في 1905 يرى وجوب إدماج العمال “بعشرات الآلاف في صفوف تنظيم الحزب”. إن هزيمة الثورة أعقبتها مرحلة من القمع تعتبر الأكثر قتامة في التاريخ حتى ذلك الوقت. وعلى مستوى التنظيم، كان من الواجب العمل من جديد في السرية على شكل مجموعات صغيرة مؤطرة بشكل عتيد، الشيء الذي يدفع إلى الاعتقاد، إلى حد ما، أن لينين عاد إلى أطروحة الطليعة التي وضعها في 1902، كما يشهد كذلك بعجزه عن التمييز بين الشروط الموضوعية التي يعيش في إطارها كل تجمع ديموقراطي مرغما على الاشتغال تحت قمع النظام القيصري، وبين الطموحات والأهداف التي تحرك المجموعة الماركسية، وتساعدها على الاستمرار في عملها في ظل الظروف غير الملائمة، الشيء الذي جعله مقتنعا بأنهم كانوا يعرفون كيف ينضمون وفي الوقت المناسب إلى العمال أثناء الثورة. 

وقد أرغمت البروليتاريا على اكتشاف طريقتها لكي تثبت خصوصيتها، وهي النشاط الثوري؛ فالهجوم البشع للطبقة الرأسمالية، وانسجام المثقفين مع الضرورات الموضوعية للطبقة الخصم هو الذي يدفع إلى كل ذلك. فمنذ نشأته خلال الثورة الفرنسية الكبرى، اكتشف عامل المصنع بأن نمط تفكيره البروليتاري يمر عبر نشاطه الذاتي. وعند منعطف القرن استطاع أن يجسد ذلك من خلال العمل السياسي؛ أي على مستوى الحزب. وهذا ما كان يمثله الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، والأممية الثانية على ما يبدو. وعندما تصدى لينين للاقتصاديين معلنا بجرأة أنه يعارض العمل الاقتصادي، ويؤيد الممارسة السياسية بالنسبة إلى الحزب، حيث يتبين أنه في تقليد كبير للحزب الاشتراكي الديموقراطي، بمعنى أنه في تقليد تام للماركسية القائمة، لكن ذلك في الحقيقة يتشابه إلى حد ما، مع إعلان متأخر، إذ لا مناص من تكراره، فقط، لأن الوضع في روسيا كان متأخرا.

إلا أنه في روسيا حيث يوجد هذا التأخر كانت جميع النقابات مستقلة أو بالأحرى كان كل حزب سياسي ماركسي ممنوعا، فاستلزمت الممارسة السياسية بالضرورة اللجوء إلى العمل السري اللابرلماني. وهذا ما غير المسألة بشكل مفاجئ. وعلى غرار شخص عادي، يتصرف العبقري في الغالب بطريقة غير واعية، مدفوعا بقوى جبارة وموضوعية، وباندفاعات جديدة نقلت إليه عبر الشرائح العميقة للساكنة. هكذا يتوجه لينين وبطريقة تجريبية نحو بناء حزب ماركسي في ظل الظروف الروسية. في سنة 1902 لم يحقق لينين سوى صيغة النظرية التي تعبر عن المجهودات الفطرية، وعن الحاجة الأولية. ويبقى الوضع الجديد الذي تمتعض منه البروليتاريا، هو استئناف العمل السياسي لمعرفة النشاط الثوري إن صح التعبير، وليس الظاهرة البرلمانية. لقد حملت الطبقة العاملة على عاتقها مهمة تفجير ثورة 1905، وهو الشيء الذي لم يستطع لينين ملاحظته في 1902 عندما ألف كتابه “ما العمل؟”. 

كان يجب على لينين ألا ينسى هذا الدرس، وذلك على عكس العديد من المثقفين الآخرين الذين لجأوا بتأثير من الثورة المضادة، إلى البحث عن الإله في إطار “التيار التطهيري”. وقد رد لينين مثل ذلك مستعملا ما توفر لديه من أسلحة؛ على أنه من خلال تحليله العميق الذي يتمثل في المادية ونظرية نقد قيمة العلم، أو من خلال تلك المتعمقة والصارمة التي تخص العلاقة بين الاتجاهات السياسية والحركة الموضوعية، حافظ على موقف متشدد. في 1910 قام بتلخيص المدلول التاريخي للنضال في إطار الحزب في روسيا، وكان يعارض تصريح تروتسكي الذي يقول إنه: “من الوهم الاعتقاد أن انشقاق المناشفة والبلاشفة له جذور في أعماق البروليتاريا “؛ ذلك أن جوهر المسألة لا يقف عند هذا الحد؛ ف “فلسفة التاريخ” عند تروتسكي تتلخص في تحليله للاختلافات المعارضة لهذين الاتجاهين (مما يبين أنه لم يكن منتميا إلى أي منهما). 

أكد تروتسكي على أن كل ذلك ما هو إلا “نضال من أجل كسب النفوذ على البروليتاريا التي يعوزها النضج السياسي”. فأجاب لينين “ذلك نموذج للجمل الطنانة، والجوفاء حيث التفوق فيها لصديقنا تروتسكي. في الواقع يجب البحث عن أصول التباين والاختلاف بين المناشفة والبلاشفة ليس فقط على مستوى “أعماق البروليتاريا”، لكن على مستوى المضمون الاقتصادي للثورة الروسية. وبإنكار هذا المضمون لم تتح لمارتوف وتروتسكي إمكانية إدراك المدلول التاريخي للنضال داخل الحزب في روسيا. ولا يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كانت العبارات النظرية حول هذه لاختلافات تتحدد في نعم أو لا، والتي تخترق “بشكل عميق “هذه الشريحة أو تلك من البروليتاريا.ويبقى جوهر المسألة هو أن الشروط الاقتصادية لثورة 1905 كان لها دور في إثارة العداء بين البروليتاريا والبورجوازية الليبرالية، وذلك ليس فقط بسبب قضية تحسين وضعية العمال، لكن كذلك بسبب المسألة الزراعية، وبسبب جميع القضايا السياسية للثورة، إلخ. إن الحديث حول نضال مختلف الاتجاهات في الثورة الروسية مع وسم كل منها ب “الطائفية” أو “اللاثقافة”، إلخ، بالإضافة إلى الصمت تجاه المصالح الاقتصادية للبروليتاريا، والبورجوازية الليبرالية، والفلاحين الديموقراطيين، يماثل النزول إلى مستوى الصحفيين من العيار الأدنى”. 

وقد لاذ الكثيرون بالفرار على إثر أول ضربة من قبل الثورة المضادة؛ منهم بلاشفة ومناشفه، وخصوم الفروع أو النظام البرلماني، بينما بالمقابل لذلك لم يزدد لينين إلا خبرة وحنكة؛ حيث أنه انطلاقا من مؤتمرات الثورة، انهمك في بناء أطروحات جديدة على ضوء الأحداث، ومنذ ذلك الحين أصبح التصور القائم على أساس أن البورجوازية الليبرالية يمكنها الاضطلاع بدور فعال في السير نحو التقدم، ما هو سوى ضرب من الوهم، بل هو، أكثر من ذلك، نوع من الرجعية. إن دور البروليتاريا وعلاقتها بالفلاحين هو ما يتوجب أن نخلص إليه بشكل دقيق وواضح. وهو ما أسماه لينين “الديكتاتورية الديموقراطية الثورية للبروليتاريا وللفلاحين “. من جهتهم يؤكد المناشفة على أنه بعدما كان الأمر يتعلق بالثورة البورجوازية، فإن البورجوازية هي التي كان يرجع إليها أمر الإدارة والتسيير. وبالنسبة إلى لينين، ليست فقط هذه الأطروحات “العملية ” هي التي لا قيمة لها، بل كذلك الشأن بالنسبة إلى “الثورة الدائمة ” عند تروتسكي. 

فحسب هذه النظرية، لا تتوقف الثورة عند الطور البورجوازي، لكنها تذهب مباشرة حتى تبلغ الاشتراكية، وحتى تصل إلى “ديكتاتورية البروليتاريا”. بينما يقول لينين بأن المسألة ليست هي دور البروليتاريا في الثورة الاشتراكية، لكنه دورها في الثورة البورجوازية في بلد فلاحي بالأساس “إن كل من أراد الوصول إلى الاشتراكية عبر طريق آخر غير طريق الديموقراطية السياسية، فهو محكوم عليه بالاصطدام مع نتائج عكسية ورجعية سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي”.

وكتب يقول بأن من ينكر أن المضمون الاقتصادي للثورة بروسيا كان بورجوازيا، فإنه يوالي البورجوازية .ومن يجهل عن علم بأن المنهج لن يكون في أقله سو ى منهجا بروليتاريا، فإنه عاجز عن التعريف بعلاقة الحزب الماركسي بالحركة الثورية. كما أن كل من لا يدرك بأن الثورة لا يمكن إلا أن تكون حركة ديموقراطية تشمل الملايين من الناس، لها من المدى والحمولة والعمق ما يجعل البورجوازية تتخبط في عجز مطلق، فإنه حينها يحكم على الحزب بالعزلة، وعلى الثورة بالفشل والهزيمة. إن ثورة 1905 والثورة المضادة التي تلتها، قد هيأتا الجماهير الروسية لإنجاح ثورة 1917، وهذبتا من فكر لينين؛ فظل دوما إلى جانب الجماهير الروسية، وأصبح لا يتصور أبدا أن الحزب هو بمثابة نخبة بالمعنى المعاصر للكلمة.

من كتاب “الماركسية والحرية” (مؤسسة بوكمان، نيويورك 1958)

نشرت في العدد ٣٥ من جريدة المسار