عن الأزمة اللبنانية

محمد سيد رصاص

جريدة “الأخبار” 26\11\2019

لم يهتز نظام اتفاق الطائف اللبناني لعام 1989 في يوم 17 تشرين أول 2019 بل الذي اهتز بذلك اليوم هو نظام الطائف كما أصبح في مرحلة ما بعد الوقائع الجديدة المفروضة من خلال اتفاق الدوحة بحكم ما جرى في يوم 7 أيار 2008.كان الرئيس رفيق الحريري بين عامي 1992-2004 هو أقوى طرف لبناني في ظل الوجود العسكري السوري والتقاسم الوظيفي بين (قريطم) و (عنجر). في مرحلة ما بعد الدوحة أصبح السيد حسن نصر الله هو أقوى طرف لبناني. 

ما جرى من اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011 أظهر ضعف (الحريرية السياسية) في مرحلة ما بعد الدوحة وقد كان قبول الحريري بالتسوية الرئاسية في خريف 2016 تأكيداً لهذا الضعف وليس العكس حيث برزت ثلاثية في الحكم اللبناني مع انتخاب الرئيس ميشال عون: حزب الله-التيار الوطني الحر-تيار المستقبل، كان واضحاً من خلالها خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن الحريري هو الأضعف في تلك التركيبة الحاكمة. الأزمة اللبنانية تأتي من عدم قدرة حزب الله والتيار الوطني الحر على الاستمرار بوضع ما بعد 31 تشرين أول 2016 في مرحلة ما بعد 17 تشرين أول 2019 ومن عدم قدرة خصومهما في الشارع المتحرك أو في القوى السياسية الأخرى على الترجمة السياسية المؤسساتية لما جري على الأرض مثلهم أجري عام 2008، كما تأتي الأزمة من عدم قدرة الطرفين على انتاج تسوية جديدة بفعل الدينامية الذاتية.

هنا الانفجار اللبناني الذي حصل ويحصل بدءاً من يوم 17 تشرين أول 2017 ليس ناتجاً عن عامل خارجي، بل كان هذا الانفجار ناتجاً عن حصيلة  أداء اقتصادي ليبرالي متطرف في ليبراليته لا يراعي مصالح الفئات الوسطى والفقيرة هو موجود عند التيار العوني مثلما هو موجود عند الحريرية السياسية منذ عام 1992 ولكن ما منع حصول الانفجار في فترة 1992-2016 استمرار لبنان في وظيفيته كمصرف للخليج ومصيف لهوه أمر انتفى في السنوات الثلاث الأخيرة مع اعتراض الخليجيين على التسوية الرئاسية لعام2016،ثم زادت الأمور اللبنانية تفاقماً مع العقوبات المالية التي فرضتها إدارة ترامب ضد حزب الله في السنتين الأخيرتين والتي وجهت أساساً ضد النظام المصرفي اللبناني. 

كان تدفق المال الخليجي على لبنان والسواح يتيح بحبوحة اقتصادية يستفيد منها اللبناني من الفئات الوسطى ،كما تحويلات اللبنانيين في الخارج وخاصة الخليج، بينما قاد انقطاع هذا المال الخليجي  وانخفاض التحويلات مع عقوبات أميركية وتقييدات طرحت النظام المصرفي اللبناني أرضاُ بعد منعه من أن يكون وفق قواعد الاقتصاد الحر إلى انكشاف الاقتصاد اللبناني وانهياره كنظام يعتمد أسلوب النظام الخدماتي وليس الانتاجي، وهو ما جعل اللبناني من الفئات الوسطى ينزل تحت خط الفقر بزمن قياسي السرعة.

هنا، لو كان الاقتصاد اللبناني انتاجياً لمحصل هذا الانهيار السريع اقتصادياً، ولما كانت الاجراءات الأميركية والخليجية تأخذ هذا المفعول السريع اقتصادياً. بعبارة أخرى لم تخلق الاجراءات الأميركية-الخليجية الانفجار اللبناني الذي أنتج الأزمة الراهنة بل سرعته فيماهناك حطب لبناني جاف كثير قابل للاشتعال في المجتمع نتيجة السياسات الاقتصادية-الاجتماعية وهناك في المستوى السياسي متضررون من التسوية الرئاسية وأطراف تريد الانفضاض منها (تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية).

الآن يدفع حزب الله ضرائب تحالفاته مع العونيين.معسكره، أي حزب الله-التيار الوطني الحر-حركة أمل، في أضعف حالاته منذ اتفاق الدوحة والحريري الآن في وضع قوة لم يشهدها بالسنوات الأحد عشر ونصف الماضية سواء قام بترؤس الوزارة اللبنانية القادمة أم لا. لا يستطيع حزب الله أن يقلب الطاولة الآن كما فعل في 7 أيار 2008 ضد مشهد ما بعد 14 آذار 2005 بل هو مضطر إلى تسوية سياسية مؤلمة لم تتضح أبعادها بعد، وإلى الانزياح كثيراً بعيداً عن مشهد تحالفه مع العونيين الذي بدأ في شباط 2006.

لا يمكن في هذا الصدد عزل لبنان عن المشهد الاقليمي: هناك صراع أميركي-ايراني بدأ في 8 أيار 2018 مع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع طهران ينعكس في كل ساحات الاقليم الملتهبة (سوريا-اليمن) أو القابلة للاشتعال والالتهاب (لبنان والعراق). لا يوحي ما جرى في الصيف الماضي باتجاه أميركي نحو حرب عسكرية مع ايران، بل على مايبدو هناك تفضيل أميركي لاستغلال اشتعال النار تحت أرجل حلفاء طهران في العراق (بدأت المظاهرات في العراق بيوم 1 تشرين أول 2019) ولبنان من أجل تعديل أو تغيير الوضع الذي جعل ايران هي “الدولة الاقليمية العظمى”وفق تعبير الجنرال رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري الايراني عام 2009. الاقتصاد اللبناني بدأت اهتزازاته في صيف وخريف 2018، كما أن احتفاظ حلفاء طهران العراقيين بالقوة الأكبر كحصيلة لانتخابات برلمان أيار 2018 قد جعل واشنطن تميل أكثر إلى سياسة انخراطية، لا انكفائية كما في عهد أوباما في الشأن العراقي من أجل اضعاف إيران أو جعل العراق المدخل الرئيسي إلى اضعاف إيران بعكس الوضع في بغداد ما بعد 9 نيسان 2003 الذي كان طريق إيران الرئيسي للقوة الاقليمية العظمى.

كمكثف: الأزمة اللبنانية من خلال تعادل قوى أطرافها الداخليين ومن تداخلها العضوي مع الصراع الأميركي-الايراني، مرشحة لأن تطول زمنيا وخاصة أنه لا توجد عوامل دفع خارجية تدفع الأطراف اللبنانية للتلاقي عبر تسوية، كما حصل في اتفاقي الطائف والدوحة، فيما كانت التسوية الرئاسية اللبنانية في 2016 حصيلة لبنانية لتلاقي أميركي-ايراني قبل أسبوع من انتخاب ترامب وبعد خمسة عشر ونصف شهر على اتفاق 14 تموز 2015 الأميركي-الايراني حول الملف النووي الايراني.

من العدد ٣٥ من جريدة المسار