بعد ضياع فلسطين، عام 1948، انتعش الاتجاه القومي العروبي، بفرعيه البعثي والناصري. وبعد وصول الفرعين إلى السلطة في القاهرة ودمشق وبغداد، كانت هزيمة حرب حزيران 1967 إيذاناً بفشل المشروعين في ما يخصُّ «تحرير فلسطين» و «الوحدة العربية»، ثمَّ كانت نتائج «التنمية والتحديث» فاشلة في البلدان الثلاثة، وفي مرحلة «ما بعد بغداد 9 نيسان 2003» و «ما بعد الربيع العربي» ظهرت الوحدة القطرية في البلدان الثلاثة هشَّة ومزعزعة.
كان انحسار التَّيار العروبي منذ السبعينيات مرفقاً بانتعاش تيَّار الإسلام السياسي، ثمَّ بدأت عملية انحسار الإسلاميين وتيارهم إثر سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر بعد سنة أولى حكم بين 30 يونيو 2012 و 3 يوليو 2013، ليكون عند الإسلاميين ما كانه سقوط الكرملين السوفياتي أواخر عام 1991 على الحركة الشيوعية العالمية، حيث تبع زلزال سقوط مرسي توابع في طرابلس الغرب وتونس وصنعاء، وفي المعارضة السورية تم اضعاف نفوذ الإسلاميين.
الآن هناك فراغ فكري ــ سياسي في الساحة العربية، يصاحبه انفجار للبنى الداخلية في بلدان عديدة. أيضاً، جميع التيارات الفكرية ــ السياسية الرئيسية: العروبيون، الإسلاميون، الليبراليون، الماركسيون متساوون في الفشل، ولو أنّ الماركسيين لم يجربوا الحكم سوى في عدن ومارسوا «الحكم الخلفي» من وراء ستارة عبد الكريم قاسم في العراق 14 تموز 1958 ــ 8 شباط 1963.
لم ينجح العروبيون في إنشاء بناء فكري ــ سياسي يطوِّر أو يتجاوز ميشال عفلق أو النتاج الناصري الفكري الموجود في «فلسفة الثورة» و«الميثاق»، ولم يستطع الإسلاميون تجاوز حسن البنا وسيد قطب، ولم يقدِّم الماركسيون حتى الآن مراجعة تتجاوز «الماركسية السوفياتية»، فيما كانت «الليبرالية الجديدة» التي نشأت عربياً مع غزو العراق من قبل الأميركان عام 2003، وكان معظم طاقمها الفكري ــ السياسي من سقط متاع الشيوعيين والماركسيين السابقين، مرتبطاً بواشنطن مثلما كان الليبرالي القديم مصطفى النحاس زعيم حزب «الوفد» مرتبطاً بلندن التي أجبرت دباباتها المقتحمة لقصر عابدين يوم 4 فبراير 1942 الملك فاروق على تعيينه رئيساً للوزراء المصري.
لم ينبثق حتَّى الآن تيَّار فكري ــ سياسي ينافس هذه التَّيارات الأربعة التي سادت الساحة الفكرية السياسية العربية منذ العشرينيات. ويبدو في المدى المنظور لا يوجد جنين لذلك، وكان لافتاً للنظر أنَّ الدعوات التي أطلقت في ربع القرن الماضي في مرحلة «ما بعد السوفيات» لأحزاب بلا أيديولوجيات، تقوم على البرنامج السياسي فقط، أو تنظيمات سياسية متعدِّدة الألوان الأيديولوجية وذات برنامج سياسي واحد قد فشلت جميعها، سواء في مصر أو سوريا أو لبنان.
الآن مع انفجار البنى الداخلية، هناك انتعاش لأفكار فئوية سياسية، عند إثنيات مثل الأكراد في العراق وسوريا واستغلال من قبلهم لأوضاع انفجارية داخلية في البلدين لتحقيق الأجندات الكردية، وعند طوائف مثل سُنًّة العراق لتعديل صيغة عراق «ما بعد صدام حسين أيضاً.
تطرح الآن، ولو بشكل خجول، في العراق وسوريا، صيغ لـ«ديموقراطية توافقية» تقوم على تقاسم الكعكة بين «المكونات» على طراز ما تمّ بين بشارة الخوري ورياض الصلح في صيغة لبنان عام 1943 التي انفجرت في 13 نيسان 1975، ثم عدلت ولم يثبت نجاحها أيضاً بربع القرن الماضي الذي أعقب «اتفاق الطائف”.
من الواضح في ظل هذا الوضع الراهن أنَّ صيغة «الدولة الوطنية» التي انبنت على رابط العروبة في العراق (80% من السكان عرب و18% أكراد وفي سوريا (90% عرب، وفق «روزنامة العالم 2010»، طبعة نيويورك، ص 842)، هي في مرحلة مراجعة.
العروبيون، وهم ليسوا فقط في البلدين بعثيون وناصريون، بل هناك عروبيون ماركسيون وليبراليون وإسلاميون، في وضع دفاعي أمام الفئويين من أنصار «دولة المكونات»، وأمام الطائفيون، وأمام المد السياسي للنزعة الإثنية الكردية.
يبدو أيضاً في البلدين أنَّ «النزعة العراقوية» و«النزعة السورية»، سواء الآتية من أنطون سعادة أو غيره، لن تفضي إلى أكثر من الصيغة اللبنانية لعام 1943 يتم فيها «تقاسم الجبنة» وفق تعبير الرئيس اللبناني الأسبق فؤاد شهاب، كما أنَّ البلدين لا يملكان رابطاً وطنياً خاصاً يقود إلى لحمة متينة مثلما هي مصر تاريخياً. لم تنجح الصيغة اللبنانية، ومحاولات تقليدها الخجولة المستترة في عراق ما بعد صدام حسين كانت فاشلة أيضاً.
تدلُّ الكثير من المؤشِّرات، ومنها مسار عراق ما بعد 9 نيسان 2003، على أنَّه ليس هناك من خرائط جديدة موضوعة دولياً للمنطقة، وليس هناك إقليمياً سوى إسرائيل التي تريد تغيير الخرائط باتجاه إنشاء دول على نموذجها، وقد أصبحت تل أبيب في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في وضعية تناقص الأهمية عند الغرب الأميركي-الأوروبي، ولم تعد ذلك المخفر الغربي المتقدم الناجح كما كانت في حروب 1956 و 1967 و 1982 الإسلام أثبت كرابطة جمعية أنه فاشل في تجربة الدولة العثمانية وفي باكستان، وفي ثلث القرن الماضي تحلُّل إلى طوائف وكان تقسيمياً للمجتمعات والأفراد في المنطقة الممتدة من كابول إلى بيروت ومن اسطنبول إلى عدن.
لا يقوم بلد على رابط وظيفي، بل على هوية ثقافية حضارية تعطي وطنيته لوناً خاصاً، وهذا موجود حتى في مجتمعات مهاجرين مثل الولايات المتحدة حيث الهوية الأنكلوـساكسونية هي اللاصق الوطني منذ عام 1776، ولو قام ذلك المجتمع رغماً وضد سلطة لندن.
في بلدان مثل روسيا (الروس 80%) وإيران (الفرس 51% والآذريون 24%) تجتمع القومية مع الدين في تشكيل الهوية الثقافية الحضارية للبلد، وفي تركيا (الأتراك 80%) حاول أتاتورك إقامة الهوية الثقافية الحضارية من خلال جمع النزعة القومية التركية مع التغريب وفشل، فيما يحاول أردوغان منذ 2002 جمع القومية التركية مع الإسلام في رابطة مرنة وربما يحاول قريباً جمع أوجلان معه في رابطة «ما» كما كان الأكراد في الزمن العثماني، وكما هو مسعود برزاني تحت الجناح التركي، فيما جلال الطالباني لم يخرج من تحت الخيمة الإيرانية منذ الثمانينيات.
عند العرب، الهوية الثقافية الحضارية تقوم على تمازج «ما» بين العروبة والإسلام، مثل العلاقة التي هي بين القومية الروسية والأرثوذكسية، وهو شيء لم تستطع أن تهزه التجربة الشيوعية السوفياتية أو تتجاوزه، أو العلاقة بين القومية الصربية والأرثوذكسية، أو القومية الكرواتية والكاثوليكية. هذا رابط ثقافي ــ حضاري يولد إحساساً بهوية «ما»، اضطَّر ستالين الجورجي في عام 1941 أمام تقدُّم هتلر باتجاه موسكو ليقول في خطاب بذكرى ثورة أكتوبر، وعند ضريح لينين: «فلتلهمكم في هذه الحرب صور الرجولة التي كان يتحلَّى بها أسلافنا العظام: ألكسندر نييفسكي، ألكسندر سوفوروف، وميخائيل كوتوزوف…» (إسحق دويتشر: «ستالين»، ص 488، دار الطليعة، بيروت1972) .
لا يوجد رابطة جامعة ــ منقذة في هذه البقعة الجغرافية التي اسمها «الهلال الخصيب»، الممتدَّة بين البصرة واللاذقية، والتي هي من أكثر البقع الجغرافية توليداً للحضارات والأفكار خلال السبعة آلاف سنة الماضية، غير”العروبة”، ولا يوجد لاصق وطني آخر لا «النزعة العراقوية» ولا «السورية» ولا «النزعة المشرقية».
من خلال دمشق وبغداد أخذ الإسلام بعده العالمي وليس من أي مكان آخر، والعروبة ولدت هنا قبل ومع عالمية الإسلام، وعندما ماتت دولة «الجامعة الإسلامية» مع العثمانيين لم يكن للعرب سوى العروبة.
أثبتت تجربة ما بعد عام 1918 أنَّ العروبة هي الرابطة الجمعية الأقوى، العابرة للأديان والطوائف والمناطقية الجهوية، وهي يمكن (ويجب) أن تكون غير شوفينية بخلاف التجارب السابقة، وأن تصبح المظلة للإثنيات الأخرى، رغم فشل الناصرية وحزب البعث في تحقيق مهمات تحرير فلسطين والوحدة العربية والتنمية والتحديث وبناء داخلي متين، بالقياس إلى «الوطنية المحلية» التي لا يمكن أن تتجاوز «دولة المكونات» التي ستكون «اتحاداً لمتوزعي الجبنة» أو «فيدرالية طوائف وإثنيات»، أو الإسلام الذي أثبتت التجربة أَّنَّه عندما يتحوَّل إلى «إسلام سياسي»، فإنَّه لا يستطيع أن يكون «إسلاماً عاماً»، بل «سنية سياسية» أو «شيعية سياسية».