سهام مسمومة أخرى توجه إلى صميم الهوية العروبية الحضارية

حبيب حداد

خلال الأسابيع القليلة الماضية ، تناقلت بعض وسائل التواصل الاجتماعي خبر الدعوة الى ما سمي بالمؤتمر السوري المسيحي في باريس من قبل عدد من الناشطين السياسيين المقيمين الآن في فرنسا. ثم قام هؤلاء بتعديل هذه الصيغة بحيث اصبحت الدعوة الى مؤتمر مسيحي عربي!

والامر الطبيعي، بل ومن حق كل إنسان عاقل ان يتساءل عن الهدف من وراء عقد مثل تلك المؤتمرات وذلك بغض النظر عن النوايا والدوافع التي تحرك بعض الذين يمكن ان يشاركوا فيها! وعن مستوى وعي الذين يضطلعون بمثل هذه النشاطات ومن يقف وراءهم، ومدى ادراك النتائج السلبية التي تترتب عليها، وعلاقتها بمصائر ومستقبل شعوبنا الطامحة للانعتاق والتحرر من واقع التخلف بكل عوائقه وأسبابه وبناء مجتمعات متحضرة تواكب مسار العصر.

ان من حقي بل من واجبي هنا، مثل اي مواطن سوري، ان ابدي وجهة نظري الشخصية في خطورة مثل هذه النشاطات، بغض النظر كما أسلفت عن دوافع بعض الذين يتصدرونها او يشاركون فيها. اذ انني ارى فيها استمرارا أشد بؤساً للسياسات والتصرفات التي قادت الى اجهاض الانتفاضات الشعبية السلمية التي انطلقت قبل تسع سنوات في عدد من أقطار المنطقة العربية داعية الى الحرية والعدالة والديمقراطية، ووضع نهاية لانظمة القهر والتخلف والاستبداد، الانظمة السلطانية، أنظمة ما قبل القرون الوسطى.

ان الدعوات الى مؤتمرات ولقاءات تحت خيمة الهويات والروابط ما قبل الوطنية من دينية او مذهبية او إثنية او عرقية في الظروف المصيرية التي تواجهها الشعوب العربية، لن يكون حصادها إلا عاملا اضافيا في استمرار واستفحال أسباب المِحنة التي تعيشها تلك الشعوب حاليا سواء في العراق ام في سورية ام في لبنان ام في اليمن ام في البحرين ام في غيرها.. ومواصلة السير في التيه الذي دفعتنا فيه مختلف القوى المعادية: داخليا واقليميا وعالميا. 

ولعل اخطر تلك الأدوار هو ذاك الذي تسابقت وتنافست للاضطلاع به بعض معارضاتنا عندما تجاهلت طبيعة وأغراض السياسات الدولية في منطقتنا وفي مقدمتها سياسات الولايات المتحدة الامريكية والكيان الصهيوني، وعندما ارتضت لنفسها ان تكون أدوات رخيصة وواجهات مضللة لسياسات الانظمة الرجعية، أنظمة القبائل الوهابية، وجماعات الاسلام السياسي السلفية والتكفيرية.

وهكذا فلقد اصبح معروفا للقاصي قبل الداني، وفي مقدمة ذلك جماهير شعبنا التي اضحت نازحة ومهجرة ولاجئة في شتى أنحاء المعمورة، خطورة الدور الذي أدته تلك المعارضات في اجهاض وافشال انتفاضته الشعبية السلمية التي كانت مشروع ثورة تحرر وطني ديمقراطي عندما اسهمت في تفجيرها وشرذمتها عن طريق العسكرة والتطييف والتدويل من جهة، وأكثر من ذلك عندما عملت وما تزال تعمل على تعطيل امكانية قيام جبهة وطنية ديمقراطية حقيقية تجسد إرادة الشعب السوري الحرة في التغيير الجذري والتحول الديمقراطي لنظام الاستبداد والفساد القائم من جهة ثانية.

فإذا كان من المتفق عليه اليوم ان على راس الأخطار التي تتعرض لها بلادنا او التي تهدد هويتها الوطنية ونسيج مجتمعاتها هو ذاك الخطر المتمثل بتدخلات وسياسات نظام دولة الفقيه في إيران، فهل تكون مواجهة هذا الخطر الداهم بالتحالف بل بالتبعية للسياسات الامريكية وأدواتها في منطقتنا العربية وعلى رأسها الكيان الصهيوني وانظمة الخليج وبقية الانظمة الرجعية التي تلتقي اليوم واقعيا في إطار مشروع حلف موحد لتنفيذ ما يسمى بصفقة العصر تلك الصفقة التي اصبح من الواضح ان مراميها لا تقتصر على تصفية القضية الفلسطينية، وإنما تتجاوز ذلك الى رسم خريطة جديدة تتجاوز الكيانات الحالية التي أرست حدودها اتفاقية سايكس بيكو والاستعاضة عنها، اذا أمكنها ذلك، برسم حدود اخرى لكيانات مصطنعة ضعيفة ومتناحرة.

كيف يبرر هؤلاء، سياسيو آخر زمان، سياسيو مرحلة الانحطاط التي تعيشها الأمة، كيف يبررون، وفي غياب تبنيهم للمشروع الوطني الديمقراطي الذي يجسد ارادة شعبنا الحرة في بناء مستقبل أفضل، دعوتهم الدائمة والمطلوبة للتصدي للسياسات التخريبية التي يمارسها نظام الفقيه في إيران في مجتمعاتنا، وكذلك معارضتهم التدخل الروسي في شؤون بلادنا، وفي الوقت نفسه يعقدون الآمال العريضة كي تفي الإدارات الامريكية المتعاقبة بوعودها لهم، وفي الوقت الذي يواصلون فيه الاضطلاع بالدور الذي رسم لهم كأدوات طيعة ورخيصة في خدمة أنظمة الخليج، والأدهى والامر من ذلك كله ان بعض هذه الجماعات قد اصبحت الان اداة عميلة ورخيصة لنظام اردوغان واجهزة مخابراته في إطار ما يدعى بالجيش الوطني السوري، حيث تقوم بدور الواجهة للعدوان التركي في احتلال الجديد والمزيد من تراب وطنها ومحاربة ابناء شعبها ، نعم لقد اصبحت هذه المجاميع الاداة المسمومة التي تطعن بسلوكها المشين الوحدة الوطنية السورية في الصميم ، والصوت الذي لم يعرف تاريخنا القريب والبعيد شبيها له، الصوت الذي يهلل صباح مساء بالنصر الدائم للمحتل التركي يبارك طوال الوقت عدوانه ،ويطفىء ظمأه من نبع سلامه!

ليتوقف هؤلاء الذين دعوا سابقا طوال السنوات الماضية ،ويدعون الان الى مؤتمرات تحت خيمة الروابط والولاءات والعصبيات ما قبل الوطنية من دينية ومذهبية وإثنية وقومية وجهوية. هؤلاء الذين مارسوا مع الأسف مثل هذه الأدوار المشينة طوال السنوات الماضية التي انقضت على انتفاضة الشعب السوري التحررية، فكلنا ما يزال يذكر عندما عمل بعضهم قبل خمس سنوات على عقد مؤتمر مسيحي في أنطاليا التركية، ودعوة آخرين الى تنظيم مؤتمر علوي في القاهرة، ومؤتمرات أخرى طائفية وإثنية لا توفر او تدخر، بوعي او بغير وعي، اية طعنات مسمومة وحاقدة توجه الى قلب الهوية الوطنية السورية الضاربة جذورها في اعماق التاريخ والمنفتحة دون عقد على هويتها العروبية الحضارية الانسانية.

وهل يمكن ان يغرب عن البال مدى فداحة وخطورة الدور الذي اضطلع به هؤلاء وامثالهم عندما اعطوا لأنفسهم شرعية ووحدانية تمثيل ارادة الشعب السوري والنطق باسمه ، وكيف شكل بعضهم واجهة للإسلام السياسي ومشاريعه، وكيف قام بعضهم بمحاولات دائبة لعقد وتمتين عرى التحالف والكفاح المشترك مع المنظمات الإرهابية من اجل انتصار ثورتهم! حتى ان بعضهم لم يتردد ان يندب نفسه للذهاب الى مدينة الرقة ليساهم في تسوية الخلافات وتوحيد الصف بين داعش وجبهة النصرة باسم الزمالة المشركة ووحدة سلاح الجهاد!

وهل يمكن لنا ان ننسى او نتناسى ما قام به احد هؤلاء النشطاء الداعين لهذا المؤتمر، عندما خاطب باسم جماعته السياسية ، ما سمي بمؤتمر علماء المسلمين السوريين المنعقد في انقرة قبل حوالي عامين ، عندما خاطبهم بضرورة مواصلة الاضطلاع بدورهم الريادي باعتبارهم يمثلون القيادة الروحية والمرجعية الاولى للثورة السورية! ولعل احدى اخطر تلك الاثافي، والتي ربما لن تكون الاخيرة ، التي ترتكبها، هذه المجموعات قصيرة النظر وأمثالها بين الحين والآخر، هي دعوتها قبل ايّام الى ان مستقبل سورية وخلاصها من المِحنة التي تعيشها والتي باتت تهدد كيانها دولة وشعبا وحضارة، انما يتحققان كما يرى هؤلاء في إقامة دولة سورية الاتحادية على نمط الدول الاخرى مثل روسيا الاتحادية وألمانيا والهند وغيرها!

الى ماذا يهدف هؤلاء اذن من وراء مؤتمرهم هذا وهم الذين ما انفك بعضهم يؤكد منذ عامين على الأقل على ضرورة القيام بمراجعة شاملة لمسيرة الحراك الشعبي في بلادنا وتحديد العوامل والاسباب التي ادت الى النتائج الكارثية الحالية برغم التضحيات الجسام التي قدمها شعبنا في سبيل حريته وبناء دولة ديمقراطية حديثة، مراجعة شاملة تحدد بكل موضوعية دور العوامل والاسباب الخارجية والداخلية والذاتية التي اسهمت في وصول بلادنا الى الحال التي هي عليها الان، وضرورة التاكيد بصورة رئيسية على دورنا ومسؤولياتنا نحن بالذات في مسيرة التداعي والانهيارات المتتالية على كل الاصعدة ، فالحديث عن عطب الذات لا يعني بأي حال من الأحوال تبرئة النفس والاقتصار على تحميل المسؤولية للاخرين وإنما يعني اولا وقبل كل شيء الاعتراف بمسؤولياتنا نحن بالذات، وما ارتكبناه من اخطاء و خطايا في ممارساتنا ،وعلى مختلف الاصعدة ،حتى نكون جديرين باستعادة ثقة شعبنا ومؤهلين لصياغة وتبني البرنامج الوطني الصحيح المعبر عن ارادة شعبنا في الحرية والعدالة والمساواة.

والسؤال الذي يمكن ان يطرحه في هذا المجال كل مراقب منصف هو:هل ان هؤلاء قد اقلعوا الان عن اتخاذ مثل تلك المواقف الانتهازية التي واجهوا بها بيان الدول الداعمة لحقوق ومطالب الشعب السوري ونعني بذلك بيان فيينا الذي اكد على أهمية الاستجابة لطموح شعبنا المشروع في تأسيس دولة ديمقراطية علمانية، عندما انبرى بعضهم مباشرة للاعتراض على هذا البيان بقولهم ان ما يدعون اليه هو الدولة المدنية وليس الدولة العلمانية! الامر الذي ادى ببيانات الامم المتحدة ان تتراجع عن هذه الصيغة الواضحة وتستبدلها بصيغة غائمة تحتمل العديد من التفسيرات وهي : الدولة المدنية غير الطائفية ،هذه التسمية التي تحتمل العديد من التفسيرات المتعارضة مع ابسط مفاهيم علم الاجتماع السياسي. 

فالإسلام السياسي رأى فيها انها الدولة المدنية التي لا تخضع لحكم عسكري والتي تلتزم بمبادئ واحكام الشريعة الاسلامية ، واخرون من تشكيلات المعارضة رأوا في هذه الصيغة انها الدولة المدنية التي تبنى سلطاتها ومؤسساتها وفق أسس الديمقراطية التوافقية كما في لبنان والعراق ، كما ان غيرهم وكما ذكرنا سابقا رأى في صيغة الدولة المدنية غير الطائفية فرصة متاحة كي يدعو الى تأسيس دولة فدرالية وحتى كونفدرالية!

أفليست الدولة المدنية في هذا العصر هي نفسها الدولة الديمقراطية؟ والدولة الديمقراطية حقا لا يمكن ان تكون الا دولة علمانية: لانها الدولة التي تقوم على تأمين مبدأ المواطنة المتساوية بين جميع أفرادها دون اي تمييز، وهي الدولة التي تكون سلطاتها حيادية تجاه جميع الأديان والمذاهب والعقائد الدينية والسياسية.

وبعد أليست الدعوة لمناصرة المسيحيين الان وفي هذا الوقت بالذات، ومعالجة المظلومية المدعاة لجزء من نسيج شعبنا، هو مسلك خاطئ ومدمر لانه سياتي بعكس النتائج المرجوة عند البعض ، اذ ان معالجة المشاكل والمظالم ومختلف أوجه الحرمان التي قد تكون تواجهها بعض مكونات مجتمعنا الدينية والمذهبية والقومية والثقافية والجهوية لا يمكن ان تجد حلولها الناجعة الا في إطار المشروع التحرري النهضوي العام لشعبنا، المشروع الذي لا بد ان يقدم جميع ابنائه، وعلى قدم المساواة، التضحيات المطلوبة لتحقيق اهدافه المرحلية والمستقبلية.

لذا فان الدعوات التي تتصور انها يمكن ان ترفع الظلم والعسف والحرمان عن بعض قطاعات شعبنا في ظل استمرار المِحنة الوطنية العامة، هي دعوات حق في ظاهرها، ولكن لن تكون نتائجها الا لخدمة أغراض اخرى بعيدة عن هذا الهدف المعلن . ان مبادىء المساواة في الحقوق والواجبات بين ابناء الوطن الواحد وتمتين عرى وحدتهم الوطنية،و توفير كل عوامل الاستقرار والأمن والسلم المجتمعي والحد من ظواهر الهجرة والنزوح لا يمكن ان تكون الا كلية وشاملة ولا يمكن ان تتأمن الا في ظل دولة ديمقراطية علمانية مواكبة لمسار العصر.

لقد كشفت السنوات التسع الماضية من عمر انتفاضات الشعوب العربية من اجل الحرية والعدالة والديمقراطية، مدى القصور في دور النخب والحركات الفكرية والسياسية العربية في الاضطلاع بالدور الذي كان يؤمل منها، وتجلى هذا القصور بصورة ملموسة في الوعي والممارسة في ارض الواقع، فلقد تخلفت تلك النخب عن اداء دورها القيادي الموجه للحراك الشعبي العفوي والحماسي من خلال طرح الرؤى الاستراتيجية السديدة وتبني برامج العمل الصائبة التي تحدد المهمات المرحلية على طريق تحقيق الأهداف الاساسية لتلك الانتفاضات.

ومع الأسف فلقد اتضح ان الغالبية العظمى في تلك النخب لم تدرك وتحدد طبيعة الاسباب والعوامل الرئيسية لواقع التخلف والتأخر الحضاري التاريخي الذي تعيشه جميع مجتمعاتنا العربية في ميادين الوعي والثقافة والاقتصاد والسياسة ،وفي مجال التعامل مع الماضي والتراث ،او النظرة والعلاقة مع الكل الإنساني الأشمل. 

لم يكن العقل العربي الخاص، اي عقل النخب الفكرية والسياسية ،ولا العقل العربي المجتمعي العام مؤهلاً، وحتى الان، ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين على قيادة ومواصلة معركة التحرر الشاملة في مختلف بلدان الوطن الكبير، وبناء دول حديثة في أعقاب خلاصها من السيطرة الاستعمارية المباشرة. ان هذه الحقيقة الموضوعية تحتم على اي برنامج للتحرر والتنمية والتقدم في اي من بلداننا لا يمكن ان يقوم الا على قاعدة ثورة راسخة في ميادين الوعي والثقافة والتعليم والبحث العلمي.

فلنتوقف عن ترديد الشعارات الحماسية النظرية، ولنضع جانبا المهمات الآجلة التي ليس هذا وقت مواجهتها ، ولنتسلح بمنطق عملي اخر وخطاب عقلاني اخر، ورؤية صحيحة تستشرف آفاق المستقبل القريب والبعيد ، وتحدد اولوية المشكلات التي ينبغي التصدي لوضع الحلول الناجعة لها، الرؤية التي تجسد صواب وعينا في ادراك طبيعة وحجم موازين القوى الداخلية والدولية، وتتيح لنا الفرص المناسبة من اجل تعظيم العامل الذاتي الذي هو العامل الاساس في امكانية انتصارنا في كفاحنا المتواصل لتحقيق اهداف وطموحات شعوبنا المشروعة في الحياة الحرة الكريمة.

إلى ماذا يهدف هؤلاء الذين يقومون بهذه النشاطات ومن هي الجهات التي تقف خلفهم وتوجههم؟

المقال الأصلي