لماذا “نبع السَّلام”؟

من العدد ٣٣ لجريدة المسار

مصطفى سعد

شهدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة المقامة العام الماضي في تركيا تراجعا واضحا لحزب العدالة والتنمية، ليخسر بموجبها 68 مقعدا نيابيا، أي يخسر الأغلبية المطلقة الحاصل عليها منذ عام 2002، وبالتَّالي يفقد قدرته على تشكيل حكومة منفردة للمرَّة الرابعة على التَّوالي.

وبحسب بيانات صدرت عن المعهد الإحصائي التركي في 11 آذار 2019 أنَّ نمو الاقتصاد التركي تدهور بشكل ملموس نهاية عام 2018، فوصل إلى 2.6%، مقابل 7.4% في 2017، متأثِّرا في ذلك بانكماش حاد تعرَّض له خلال الربع الأخير من 2018.

وفي عام 2019 تعرَّض حزب العدالة والتنمية لضربتين قاسيتين، إحداهما خلاف داخلي ضمن صفوف الحزب بقيادة وزير الخارجية أحمد داؤود أوغلو والقيادي البارز على بابكان، والثانية في انتخابات البلدية حيث خسر أهم بلديات تركيا أنقرة وإسطنبول، (أردوغان الذي كان قد صرَّح خلال الحملة الانتخابية أنَّ من يفوز ببلدية اسطنبول يفوز بتركيا) بعد أن حقق الحزب ورجب طيب أردوغان انتصارات انتخابية غير مسبوقة في تركيا.

وللحد من تراجع شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية، كان لابد من البحث عن حلول أو مشاريع تتفق عليها أغلبية القوى السياسية التركية والشارع التركي.

القضية الكردية ومحاربة حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية لدى تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما من دول الناتو أكثر ما يجمع عليه الأتراك على اختلاف توجهاتهم السياسية أو انتماءاتهم الدينية والقومية (بما فيهم قسم كبير من أكراد تركيا)، وقضية اللاجئين السوريين وترحيلهم بعد اعتراضات كثيرة على وجودهم لأسباب في معظمها اقتصادية.

فجاء القرار ببدء عملية “نبع السلام” لتحقيق أهداف داخلية وخارجية صرَّح عنها أردوغان بوضوح وبشكل مباشر منها ضرب وحدات الحماية الكردية-التي هي جسد يعلوه رأس، هذا الرأس هو حزب العمل الكردستاني- وإنهاء أي تواجد عسكري كردي مسلح.

مازالت تجربة كردستان العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991 وبعد انسحاب قوات صدام حسين من الشمال ماثلة في أذهان وعقول الأتراك ولن يسمحوا لوحدات الحماية الكردية بتكرار ذلك في سوريا وإقامة حكم ذاتي، وقد قال أردوغان في اجتماع اللجنة النيابية: أن الحل الأسرع هو أن يترك الأكراد سلاحهم ويضيف أيضا -بحسب ما جاء في وكالة رويترز-“إن َّالعملية التركية ستنتهي عندما تكمل تركيا إقامة المنطقة الآمنة، وأنَّ تركيا غير مستعدَّة للتَّفاوض على ذلك “. ممَّا يعني تغيير ديمغرافي في الشمال السوري بإعادة اللاجئين السوريين ليقيموا على الشريط الحدودي، وخاصَّة في شرق الفرات وبقية المناطق ذات الغالبية الكردية، فلا تستطيع القوى الكردية المطالبة بالانفصال أو بحكم فيدرالي للبلاد.

في التاَّسع من شهر تشرين الأول دخلت القوات التركية الأراضي السورية، وقد استند تركيا في دخولها على اتفاقية أضنة غير الشرعية الموقعة مع الحكومة السورية 1998، وبموافقة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وظهر هذا جليَّا في مجلس الأمن من خلال فيتو أميركي -روسي مشترك لأول مرة منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 وإن كانت الغايات مختلفة.

ترامب يريد متابعة ما بدأ به الرئيس الأسبق باراك أوباما في انسحابه من الشرق الأوسط للتركيز على الشرق الأقصى، بالإضافة لكونه أكَّد في أكثر من مناسبة أنَّ اعتماده على القوى الكردية ودعمه لها مرتبط بمحاربة داعش فقط، وهو الذي ينتظر استحقاق انتخابي العام القادم، ويعلم أنَّ الكتلة الأكبر من الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين مع انسحاب قوَّات بلادهم من سوريا. أما بوتين فهو يرى أنَّ مصلحة بلاده في رجوع “مجلس سوريا الديمقراطية” وجناحها العسكري “قوَّات سوريا الديمقراطية” إلى دمشق، وسيطرة الحكومة السورية على المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية بشرط ألاَّ يكون تأثير العملية العسكرية التركية سلبيا على العملية السياسية لحل الأزمة السورية. وبحسب رويترز أيضا جاء على لسان المتحدث باسم الكرملين السيد ديمتري بيسكوف من خلال مؤتمر صحفي: “إنَّ موسكو تحترم في الوقت نفسه حق تركيا في الدِّفاع عن النفس.”

الموافقة الأمريكية الروسية للتَّدخُّل العسكري التركي في سوريا، لا تعني عدم وجود معارضين لها على الصعيد الإقليمي والدولي وتهديدات من تسع دول أوروبية منها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، لكن هذا لن يمنع أردوغان من مواصلة العملية، كما في السابق فقد سبق عملية “نبع السلام” عمليتين عسكريتين على الأراضي السورية، الأولى “درع الفرات” في خط جرابلس – الباب – أعزاز 24 آب 2016، والعملية العسكرية الثانية “غصن الزيتون” في عفرين 20 كانون الثاني 2018 والعمليتين بدون رضا أوروبي.

من أهم نتائج التَّدخُّلين السابقين حصول الأتراك على غطاء روسي لتواجدهم العسكري في محافظة إدلب. وبعد اتفاق أردوغان – بوتين 17 أيلول 2018 أخذ الأوَّل شريطا حدوديا يمتدُّ من جرابلس حتَّى منطقة ربيعة قرب بلدة كسب التابعة لمحافظة اللاذقية على طول الحدود السورية- التركية إن كان عبر قوات تركية رسمية أو من خلال قوات سورية محلية من الإسلاميين التابعين سياسيا لأنقرة بشكل مباشر. لكن يبقى السؤال الأهم ماذا سينتج عن العملية الثالثة؟

بداية علينا أن ندرك أنَّ المنطقة اليوم مقسَّمة لمناطق نفوذ الدول الكبرى وتوازن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لا يمكن كسره من قبل طرف ما. التركي يدرك جيدا أنَّه ليس بمقدوره القضاء على الأكراد أو الوصول بجيشه إلى دمشق مثلا، ولذلك بدأ بين منطقتين غالبية سكانهما من السوريين العرب الذين لا تجمعهم علاقة جيدة مع قوات سوريا الديمقراطية (رأس العين وتل أبيض) لكن بالتأكيد هدفه أبعد من 120 كم.

هدفه العسكري إقامة نقاط تحول دون تمدُّد “قوات سوريا الديمقراطية” وتثبيت وجوده على مدى طويل نسبيا لسببين الأول: لتكون تلك العملية هي الأخيرة من نوعها للقضاء على امتداد حزب العمال الكردستاني في سوريا بعد أن حقَّق في السنوات القليلة الماضية نجاحا في القضاء على أعداد كبيرة منه ومن قياداته في كل من تركيا وجبال قنديل في العراق.

والثاَّني أنَّ اللجنة الدستورية التي تشكَّلت وبدأت عملها أخيرا تبدو آخر مسارات الحل السياسي للأزمة السورية، ولأن قسما من المعارضة السورية يتبع بقراره لأنقرة كالمجلس الوطني والإخوان والمسلمين، فقد ترى أنقرة أنَّه بتواجدها على الأراضي السورية تملك ورقة قوة تفاوض بها وعليها في المستقبل القريب.

وإذا كانت المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر الذريعة لتدخل القوى الإمبريالية في منطقتنا، فإنَّ هذه “المسألة الشرقية” مستمَّرة في أشكال أخرى إلى يومنا هذا.

لذلك على جميع السوريين من كافة الاتجاهات السياسية والإثنيات إدانة أي تدخُّل خارجي وعدم الاستعانة بأي قوة أجنبية أو الاصطفاف خلفها والعمل لإعادة السيادة على كافة الأراضي السورية وخروج جميع الجيوش والمقاتلين الرسميين وغير الرسميين الذين استباحوا هذه البلاد لبناء وطن حر مستقل من غير أي تبعية لأي دولة. وطن تسوده قيم الديمقراطية والمواطنة والعلمانية.