عبدالخالق محجوب والضابط اللي وراه

بقلم د. حافظ عباس قاسم

02 أغسطس/آب 2019

موقع الحزب الشيوعي السوداني

تم القبض عليه صباح 27 يوليو 1971 فاخذ مباشرة الي مكاتب الامن واقتيد بعد ذلك الي مكتب القائد العام حيث هرع الي هناك قادة مايو من العسكريين . وحسب افادة الطاهر التوم ان النميري قد دفع الماء بعيدا من فم عبد الخالق عندما قدم له منصور خالد كوبا من الماء وفقا لرغبته, كما افاد منصور بان اخرا قام بنزع السيجاره التي طلبها الشهيد واشعلها منصور ووضعها في فمه لانه كان مقيدا ويقال انه خالد حسن عباس. ولان الشئ بالشئ يذكر فقد ذكرت ارملته نعمات انها كانت قد طلبت من الوزير جوزيف بحكم انه وزير ويتقابل يوميا مع نميري للسماح لها بمقابلة عبد الخالق عند اعتقاله للمرة الثالثة، وأن جوزيف قد اتاها ضاحكاً وقال بانني قد اخترت الزول الخطأ لان النميري قد قال لاخرين “مرة عبدالخالق دي ما لقت واحد غير العب ده ترسلوا لي، ما في ناس كتار غيرو”.

وفي السياق نفسه يقول الصحفي ادريس حسن ان احد اصدقائه من فرع القضاء العسكري والذي تم فصله لاحقا بسبب كتابة عريضة ينتقد فيها طريقة معاملة المعتقلين في معسكر الشجرة, انه طلب منه ان يتبعه الي مقر جعفر نميرى. وانه قد شاهد من النافذة النميرى ينهال ضربا وهو فى حالة من الهياج على أحد الضباط ويسبه بالفاظ بذيئة, وان نفس المشهد تكرر مع اخر , وان الضرب والسباب لم يتوقفا الا عندما رفع سماعة التلفون في محادثة مع القاهرة بدا بعدها سعيدا بمضمون المحادثة . وانه عندما دخل العميد أحمد عبدالحليم قال له النميري منفجرا من الضحك ان السادات داهية وخطير ، وذلك لإن السادات وبدلا من التوسط لدي النميري ليبقى على حياة عبدالخالق , لانه قد وعد الروس بذلك , قد حثه بالاسراع وأنهاء حياته، الشئ الذ اكده كل من احمد حمروش وهيكل فيما بعد وافادوا بان الروس قد التقطوا تلك المحادثة. 

لقد كان النميري في حالة سكر باين، و في المكتب الذي كان يجلس فيه النميري وخالد حسن ومعهم مريم روبين والتي كان الاعلام السوداني يتابع ما يحدث في الشجرة من خلال رسائلها لاخبار اليوم المصرية , حاولوا استفزاز الشهيد الا انه لم يستجب لهم,وكانت اجابته مثلا (ساهمت بالوعي، بتوعية الجماهير، بقدر ما املك) وذلك عندما سأله خالد عن ماذا قدم للبلد وبماذا ساهم خاصة وانه في نظرهم عاطل وبلا عمل معلوم ودخل معروف .فمن المعلوم ان عبد الخالق كان متفرغا سياسيا ويتعاطي منحة شهريه من حزبه، وان السيارة التي كان يستخدمها كانت مملوكة للحزب ولم تكن مسجلة باسمه، وانه لم يمتلك طيلة حياته عقاراً أو قطعة أرض او مزرعة، وان نصيبه في تركة العائلة من أطيان في الزومة والبركل قد تنازل عنه في حياته. وحتي منزل الجالوص الذي بناه بجوار بيت الاسرة،تم تسجيله باسم شقيقه محمد، والذي خصص مقراً للسكرتير لما آل للحزب. هذا وقد ذكرت ارملته ان حتى الهدايا التي كانت تقدم له،كان يعطيها للناس ويمنحها للاخرين وحجته إنها اهديت لسكرتير الحزب الشيوعي وليس لعبدالخالق محجوب.

عندما ارادوا الذهاب به الي قاعة المحكمة مرتديا جلبابا متسخا وغير حليق الذقن رفض الذهاب بهيئته تلك , بسبب انه لم يكن لديه الوقت الكافي للعناية بنفسه قبل ان يقبضوا عليه , لانه كان في سباق مع الزمن لتدوين بعض الاشياء للحزب والاسرة .ومع اصراره وان ذلك لسمعة السودان وشعبه رضخوا لطلبه باحضار حقيبة ملابس من منزله . فقام بالاستحمام والحلاقة والتعطر واستبدال ملابسه وحذائه ودخل قاعة المحكمة هادئا ومرفوع الراس . كانت ملابسه أنيقة للغاية وينتعل حذاء لامعا و كان بادى الحيوية والاطمئنان وعلى وجهه لمعة واشراق في قول ادريس حسن. والجدير بالذكر ان المحكمة قد نصبت في احدي ورش سلاح المدرعات باحضار بعض المناضد والكراسي , والتي كتب عنها وعن قضاتها ايريك رولو مراسل اللومند الفرنسية وقال بان الشئ الوحيد المحترم فيها هو المتهم نفسه. اما ادريس فقد علق عن موقف عبدالخالق كانسان بانه كان شجاعا بكل ما تحمل الكلمة , وثابتا كل الثبات. 

وبالرغم من أنه كان يعلم مصيره المعد سلفا فقد كان يتحدث فى أحرج الأوقات وكأنه يتحدث فى ندوة سياسية. وفي رأيه ان عبد الخالق كان اكثر ثباتا من الذين حاكموه وان المحكمة كانت اشبه بالمسرحية الدرامية التي تنهمر فيها الدموع. ايضا وحسب وصف اخرين من الصحافيين الاجانب الذين حضروا الجلسة الأولى من محاكمته, ان المتهم كان هو القاضي وانه قد كسب الجولة دون منازع. ايضا وعندما تقاطر الصحفيون والمراسلون الاجانب علي المتهم يصافحونه ويطرحون عليه العديد من الاسئلة , تضايق الضابط محمد ابراهيم حارسه في المحكمة، فقام بالضرب علي على المنضده لتحذيرهم من التحدث الي المتهم, ولانه قد فشل في منعهم اضطرالي اخذ المتهم الي خارج القاعة . وبالاضافة الي ذلك يمكن الاشارة ايضا الي اضطرار ممثل الاتهام لسحب شاهد الملك حامد الانصاري واعتباره شاهدا عدائيا.

وحسب تقرير جيسي لويس مراسل الواشنطن بوست ان المتهم قد اعترض علي المحكمة لان رئيسها حسب رايه خصم سياسي و ينتمي لتنظيم القوميين العرب وانه قد يؤثر علي العضوين الاخرين , ومضيفا ان المحكمة صورية وان احكامها معدة سلفا. وبعد رفض الطلب واصلت المحكمة اعمالها بتلاوة قائمة الاتهامات الموجهة الى المتهم ورده بانه غير مذنب. هذا وبعد ان تلي ممثل الاتهام مرافعته، قدم الي المحكمة ورقة مكتوبة بخط المتهم وتحتوي علي اسماء مرشحة كوزراء في حكومة العطا كمستند ادانه واثبات، واحضرحامد الانصاري كشاهد اتهام . ورد المتهم ان من الطبيعي جدا في السياسة ان يرشح اي حزب اشخاصا ويقترح اسماءا لتولي المهام الوزارية عندما يطلب منه ذلك , وان ذلك قد حدث مع سلطة مايو بعد الانقلاب وحينها لم يتهم الحزب باي تورط او تواطؤ. وقال إنه لم يعلم بالانقلاب الا بعد حدوثه، وأنهم قد تعاملوا معه بعد ذلك ليجنبوا البلاد المشاكل مثلما تعاملوا مع انقلاب مايو من قبل كأمر واقع.

ويقول الصحفي السوداني ادريس حسن ان الصدفة وحدها هي التي جعلته يحضر المحاكمة والتي كان حضورها مقصورا علي الصحافة الاجنبية ودون الصحافة السودانية وذلك لرغبة الحكومة في اظهار ان ما يحدث هو أمر عادى وفيه قانون ومحاكم ودفاع وعدالة , وذلك لتبيض وجه النظام ولمواجهة تعليقات وسائل الاعلام الاجنبية ووصفها للنظام بالهمجية والتصدي للحملة العالمية حول المحاكمات المتعسفة وتنفيذ أحكام الاعدام الجائرة . وانه كان يجلس مع الأستاذ فؤاد مطر مبعوث النهار البيروتية عندما اتت العربات الحكومية لنقل الصحفيين الاجانب الي مقر محاكمة عبد الخالق بالشجرة .وعن استجواب المتهم يقول انه وعندما أتيحت الفرصة لعبدالخالق , فقد كان منظره مهيبا ومثيرا وأشبه بفرسان الأساطير القديمة, وان حديثه وصوته كان هادئا وصافيا . وقال إنه وحزبه وبالرغم من انهم كانوا قد رفضوا انقلاب مايو قبل حدوثه الا أنهم تعاملوا معه بعد ذلك كأمر واقع ولانه تبنى أغلب شعاراتهم. وان طلب المتهم بسماع شهادة بعض أعضاء مجلس الثورة الذين ذكر أسماءهم قد رفض. 

اما السؤال عن الاختلاف مع مايو فقد رد عبد الخالق الخلاف الى التعامل مع احداث ودنوباوي وضرب الجزيرة ابا والي السياسة الخارجية، وايضا الاجراءات و القرارت الاقتصادية وخاصة عملية التأميم والمصادرة والتي وصفها بالمرتجلة وغير المدروسة وانها كانت سابقة لا وانها وتجاهلت كافة ظروف البلاد. وافاض المتهم في الحديث عن أخطاء قرارات التأميم وما صاحب تنفيذها من أقاويل واشاعات حول الفساد الذى حدث فى بعض المؤسسات, ذاكرا انهم قد وضحوا موقفهم في سلسلة مقالات نشرت في جريدة اخبار الاسبوع . وان رئيس المحكمة كان يقاطعه ولأكثر من مرة كان يقول وبلهجة مصرية صارمة (هذا الكلام لا يفيدك). والمفاجأة كانت رد المتهم بنعم علي سؤال رئيس المحكمة بان كانت لدى الحزب أسلحة , مضيفا بارسال الرئيس جمال عبد الناصر لها عام 1967 عندما تعرض الحزب لهجمة شرسة من جانب القوى الرجعية أدت الى مهاجمة دوره والاعتداء علي عضويته وانتهت بحله وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية بسبب ما سمى بندوة معهد المعلمين العالي .أما في ما يتعلق بمقتل الضباط والجنود فى بيت الضيافة , فقد ذكر إن لا صلة لهم بالامر وأنها تهمة يراد بها للقضاء عليهم.

يقول ادريس انه قد لاحظ أثناء المحاكمة القلق والاضطراب الذي كان يتملك رئيس المحكمة وأعضائها، وإن بعضهم كان ينظر الى ساعة يده بين الفينة والاخرى وكأنه يتأهب لموعد اخر أهم، خاصة وان الجلسة كانت قد استغرقت أكثر من أربع ساعات .لذلك وعندما قاطعه رئيس المحكمة قائلا بلهجته المصرية الصارمة (خلص..خلص) قال له عبدالخالق (ياسيدى الرئيس أرجو أن يتسع صدر المحكمة بالنسبة لى لبضع ساعات فقط)، الشئ الذي ادي الي ان تعلو الدهشة وجوه الحاضرين , خاصة وان تلك كانت أشارة واضحة الى أنه كان يعلم سلفا بأنهم قد قرروا اعدامه. هذا وفي راي ادريس ان الأمر كان أكبر من الدهشة وأعمق من الخوف . وانها كانت لحظة صراع رهيبة بين شخصين أحدهما يريد أن يضيف لعمره حتى ولو بضعة دقائق معدودة لعل معجزة قد تحدث، وان الآخر يريد أن يخلص نفسه بسرعة من مهمة ثقيلة حتى ولو كانت حياة انسان .هذا والجدير بالذكر هنا ان رئيس المحكمة العقيد احمد محمد الحسن قد اصيب بعد فترة وجيزة من المحكمة بحالة من الهوس وتوفي بعدها بالسكتة القلبية.

فى حوالى الساعة الخامسة مساء أعلن رئيس المحكمة نهاية المحاكمة , وقال إن القرار سيرفع الى القائد العام الذى كان مرابطا في مكتب مجاور بصورة دائمة ,والذي وقع فورا علي الحكم القاضي باعدام المتهم شنقا وترحيله الي سجن كوبر لتنفيذ الحكم .هذا وفي طريقه الي مكان الاعدام بسجن كوبر كان الشهيد يردد عاش نضال الشعب السوداني وعاش نضال الحزب الشيوعي . وانه عندما اخذ لعمل الوزن المقابل لوزنه خاطب الجندي مداعبا (اسمع يا زول حبلك ده قوي، أصلي أنا تقيل). ثم هتف عاش نضال الشعب السوداني وعاش نضال الحزب الشيوعي واعتلى المشنقة رافضا وضع قناع الراس والوجه وبعد ان خلع ساعته واهداها لاصغر جندي رتبة من بين الحاضرين.
—————————————————————
في كتابه الديمقراطية في الميزان كتب المحجوب رئيس الوزراء قبل عهد 25 مايو 1969 (أقدم نميرى على ارتكاب تصرف طائش، ينم عن الجحود تجاه القوى السياسية والنقابية التي ساندت حكمه ومنحته أسباب البقاء فى بداية عهده. وأدهى ما فى الأمر أن اعدام عبدالخالق محجوب يمثل نهاية عهد التسامح والوفاق فى الحياة السياسية السودانية. لقد عرفت عبدالخالق لمايزيد عن عشرين عاماً. وقد كان انساناً عالى القامة وشجاعاً. وكانت الاخلاق والتقاليد السودانية تأتى فى طليعة مكونات فكره السياسى. وكان اسهامه ملموساً ومقدراً فى المؤالفة بين الخلفية الاسلامية فى السودان وآرائه الماركسية الثورية. وهذا ماجعلنى أصف الحزب الشيوعى السودانى على الدوام بأنه حزب سودانى خالص، لايدين بأى ولاءات لموسكو أو لأى حزب شيوعى آخر) اما الاديب الطيب صالح فقد قال (في الواقع أننى كنت معجباً بعبد الخالق كسودانى نابغة).