يصادف يوم ٢٨ آذار/مارس ذكرى قيام حكومة كومونة باريس عام ١٨٧١ التي تعتبر إحدى أهم التجارب والأحداث الثورية في التاريخ، وأول ثورة اشتراكية في العصر الحديث، وأول مثال على سيطرة طبقة العمال على السلطة، التي غيرت موازين القوى في فرنسا، لكنها لم تستطع أن تدوم لفترة طويلة قبل تدميرها في مجزرة راح ضحيتها عشرات الآلاف بينهم آلاف النساء والأطفال.
جاءت الكومونة في ظروف خسارة فرنسا الحرب مع مملكة بروسيا واستسلام نابليون الثالث، بعد خوضه حرباً لم يكن مستعداً لها، وخسر فيها سريعاً، فسقطت الامبراطورية الثانية التي أسسها في ٤ أيلول/سبتمبر عام ١٨٧٠، وخضعت فرنسا لشروط مهينة تجنباً لاجتياحها.
عقب أحداث الهزيمة تمت انتخابات تشريعية أسفرت عن قيام حكومة مؤقتة قررت نزع سلاح الحرس الوطني في باريس، الذي تكون أساساً لمكافحة الحصار الألماني، فاندلعت مقاومة في باريس لحفظ سلاح الحرس الوطني، ثم تقرر إجراء انتخابات بلدية نظمتها اللجنة المركزية للحرس الوطني أسفرت عن انتخاب ٩٠ ممثلاً للعمال من مختلف المقاطعات دون ارتباطات مسبقة بينهم وبين اللجنة، وكان أكثرهم من الشباب ما شكّل انتصاراً للثوار وتكوين مجلس أغلبه من اليعقوبيين والجمهوريين، معلناً باريس بلدية (كومونة) مستقلة، وأن فرنسا عليها أن تتبع النظام الفيدرالي الذي يتكون من بلديات مستقلة وتتمتع بحكم ذاتي.
ظهرت تحديات وصعوبات في وجه الكومونة كتنظيم الحياة اليومية وتأمين المعيشة والتعامل مع الموارد وغيرها، لكنها تمكنت من تنظيم الحياة وتسييرها طوال فترة حياة الكومونة، واستعمل نظام الانتخاب وليس التعيين، وإمكانية إعفاء المسؤولين من مناصبهم بالانتخابات، كما تمت مساواة أجورهم بالعمال.
استبدلت الكومونة الجيش والشرطة كنظام أمني ودفاعي داخلي وخارجي بالجماهير نفسها، لأنها كانت من وجهة نظر اللجنة المركزية أدوات قمع الحكومة للشعب، وشهدت الكومونة في فترة حياتها انخفاض في معدل الجرائم.
قامت الحكومة الثورية بتحسين شروط العمل بشكل جذري، وإلغاء الدوام المسائي في المخابز، وإنهاء فرض غرامات على العمال في حال ارتكابهم أخطاء، وتم تأجيل الديون والإيجارات، كما تم فتح متحف اللوفر أمام الجميع، ودار الأوبرا للفقراء، وأقيمت الحفلات المجانية، ووزعت الكتب على العمال.
تم أيضاً قطع ارتباط الكنيسة الكاثوليكية بالدولة، وتجديد النظام التعليمي والمناهج، وجعله مجاني بالكامل، وتم دعم المرأة وحضورها وحقوقها، وانتشرت الأندية الثقافية النسائية، فيما انخفضت الدعارة وأسبابها.
كما تم التخلي فيها عن مفهوم القوميات، وكانت شعارات ومبادئ الكومونة مطابقة لمبادئ الطبقة العاملة في الدول الصناعية الأخرى.
إلا أن الحالة الثورية هذه لم تتمكن من الحياة لأكثر من شهرين، وتم تسليح الحرس الوطني بواسطة الجيش الألماني، كما تم تسريح والإفراج عن الجنود الفرنسيين المعتقلين لدى الألمان وجرت محاصرة باريس، وبعد شهر من القصف الجيشين الفرنسي والألماني، والدفاع المستميت من الباريسيين، سقطت الكومونة في ٢٨ أيار/مايو عام ١٨٧١، بعد مجزرة سُميت بـ “الأسبوع الدموي” قتل واعتقل فيها عشرات الآلاف وتراكمت فيها الجثث في شوارع باريس.
يقول المؤرخون إنه لولا مساعدة الألمان لكان من الصعب السيطرة على الكومونة، وأن ضعف تنظيمهم الدفاعي والعسكري ساهم في هزيمتهم.
طويت بذلك صفحة كومونة باريس، التي ألهمت الحركات الثورية في العالم، واعتبرت أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث.