خواطر بصدد مراجعات لمسيرة الحراك السوري المعارض

الدكتور جون نسطة

في بداية ما أسماه برنامج حزبنا بـ “الحراك الاجتماعي المعارض الواسع” في العام ٢٠١١ جرى لقاء ثقافي في برلين ضم عدداَ كبيراَ من الجالية العربية وبأغلبية فلسطينية، وجاء الكلام، بطبيعة الحال، حول موضوع الساعة، أعني الحراك السوري ضد نظام الاستبداد.

وكانت معظم المداخلات تتضمن الكثير من الريبة والشك والتشكيك حيال ما يجري على الساحة السورية وتخوفات على القضية الفلسطينية ومصائر دعمها من قبل النظام السوري، الذي كان يدعي المقاومة والممانعة.

في هذا الجو المحموم وقفت وأخذت الكلام مخاطباً الجمع قائلاً: “أنتم جميعا تعرفون الشعب السوري الذي دافع منذ عشرات السنين عن القضايا العربية جميعها وفي الصدر منها القضية المركزية للعرب، قضية الشعب الفلسطيني، التي يعتبرها قضيته أيضاً، وقدم في سبيلها أغلى التضحيات. هذا الشعب يا إخوتي إن انتصر سيكون في طليعة القوى في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة، لأن أيضا قضيتنا واحدة فنحن في سوريا نعاني منذ حرب الـ ٦٧ من احتلال جزء غالي من وطننا هو الجولان الحبيب. فأنا لا أرى بأي شكل من الأشكال سبباً في دواعي تخوفاتكم وشكوكم، بل العكس تماماً، وأتوقع دعمكم ومناصرتكم للسوريين المعارضين الذين نزلوا للشارع في مظاهرات سلمية، حرصاً منكم على قضيتكم وقضيتنا فلسطين، الأرض المقدسة”.

بالواقع هذا الذي تكلمت به كان يعبر عن مشاعر أغلبية الشعب السوري، الذي خرج إلى الشوارع مطالباً بحقه بنيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، واستلام مقادير حاضره ومستقبله، ليتابع مسيرته التاريخية في بناء دولة القانون والديموقراطية، ومواكبة قطار الحداثة والتقدم، على طريق تحرير أراضيه بكل الوسائل المشروعة، والتضامن مع أشقائه العرب وفي الطليعة شعبنا العربي في فلسطين، كل فلسطين.

وتابعت أحداث الحراك السوري المعارض بكل عفويته وعدم وجود قيادة داخلية له، وعدم ظهور برنامج متكامل له، مع استخدام النظام كل الأساليب في القمع، وظهور معارضة أغلبها تعيش في الخارج سلمت أمور توجهاتها إلى بلدان عديدة عربية رجعية لا تؤمن بالديموقراطية ولا تناصرها، وأجنبية لاترغب للشعب السوري نيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وسعيه لتحرير أراضيه ومعاداة إسرائيل. وهذا الأمر شكل بذاته سرقة صارخة لقضية الحراك السوري المعارض من أيدي رجالاته المخلصين.

وكنتيجة لهذا الخطأ القاتل، بدأت الأمور تسير باتجاه ما كان يتخوف منه الكثيرون وما نبهت إليه شعارات هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي من مخاطر الطائفية واللجوء إلى العنف والتسليح وطلب الاستعانة بالتدخل الخارجي. وهذا الأمر شكل السرقة الثانية للحراك المعارض واختطاف مقاليده وبدء الثورة المضادة.

فبدلاً من أن تتوجه قيادات الحراك إلى مخاطبة الجماهير الشعبية العربية ومنظماتها الوطنية والقومية والتقدمية والتحررية وبعض الدول العربية، طالبة دعمها وتأييدها، بعد شرح وتوضيح أهدافها الوطنية التحررية الديمقراطية بدأت شعارات البعض تهاجم وتشتم هذه القوى، وتغازل إسرائيل حتى إن بعض أشخاصها مثل الدكتور كمال اللبواني ربما غيره كفهد المصري قاموا بزيارتها، دون أن تلقى هذه الأفعال المشينة  أية إدانة وتجريح يذكر من قبل المعارضة الخارجية في “الائتلاف الوطني” وغيره.

وهناك أصوات كانت تنصح قوى المعارضة الخارجية بالتواصل مع روسيا وإيران في البدايات، لتطمينهم بأن انتصار المعارضة لا يعني معاداتهم وعدم مراعاة مصالحهم، والوقوف مع الدول الرجعية والغربية ضدهم.

في عام ٢٠١١ كان برهان غليون في زيارتي ببيتي في ألمانية وصرح أكثر من مرة أمامي بأنه في حال الانتصار فإن أول عمل سيقوم به هو زيارة صداقة لإيران لأن إيران ليست عدوتنا على حسب ما قال في حينه.

إن القيادة الخارجية للمعارضة تخلت عن الالتصاق بشعبها وجماهيرها ومحيطها الشعبي العربي وألقت بجميع بيضها في سلة الخارج المعادي بطبيعته لأهداف الشعب السوري التي تدعي تمثيله وتتنطع لقياداته. بل راهنت، وربما لا تزال تراهن على التدخل الخارجي العسكري.

لقد بقيت هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي تقول لسنوات طويلة شبه وحيدة بالحل السياسي التفاوضي للأزمة السورية. بعد استعصاء الحل العسكري واستحالته، بدأت قوى واقعيه في “الائتلاف الوطني” تميل إلى الإعتراف بالواقع وتتقرب رويداً إلى الحوار مع هيئة التنسيق الوطنية، فكان لقاء باريس في شباط ٢٠١٥ والأهم لقاء بروكسل في تموز ٢٠١٥ بدعوة من الاتحاد الأوروبي والتوافق على الحل السياسي وإدانة الإرهاب لأول مرة في البيان المشترك بين الطرفين.

ثم جاء مؤتمر الرياض في نهاية العام ٢٠١٥ وجاء في بيانه الختامي بأن الحل السياسي هو الحل الأفضل، وبعد هذا المؤتمر بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات في جنيف وبضغط نسبي من الجانب الروسي.

إن تلكؤ المفاوضات، لا بل فشلها إلى حد بعيد، يعود من وجهة نظري إلى سبب واحد رئيسي هو عدم توفر القناعة، لدى الطرفين، بأن لا أحد منهما قد انتصر أو سينتصر على الآخر. بل أنهما يتوهمان بالنصر العتيد. وكلا الطرفان يفرضان شروطاَ على الآخر، شروط المنتصر، وهو ما يجعل من المستحيل نجاح لمفاوضات في ظل هذا الوهم المريب.

جاء قرار الرئيس الأميركي ترامب بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس من تل ابيب، واعتراف الحكومة الأميركية بالتالي بالقدس كعاصمة للدولة اليهودية، ضربة موجعة لأصدقاء أميركا وحلفائها وعملائها في المنطقة العربية وعرتهم أمام الشارع العربي الغاضب، وبينت للجماهير العربية بأن الإمبريالية الاميركية وإسرائيل هما أعداء العرب الحقيقيين، بعكس ما حاولت القوى الرجعية العربية ودولها، على مدى عدة  عقود من السنين، إقناع الناس بأن عدونا الرئيس هي الدولة الإيرانية، وبأن إسرائيل هي حليفنا. لقد انقلب السحر على الساحر.

إن الخطوة الاميركية العدوانية والمخالفة للقوانين والقرارات الدولية، يمكن وصفها بالغبية أيضاً، لأنها وحدت الشارع العربي لأول مرة منذ سنين طويلة، وأظهرت بأن الاصطفافات الحالية في العالم العربي ليست طبيعية ولا عقلانية وعلى الأغلب ليست دائمة. فهل نحن على أبواب تحالفات سياسية جديدة تعيد الأمور إلى نصابها؟