تكملة جديدة لعهد من الأزمات: هل سيعيد التاريخ نفسه مع ليز تروس؟

رامز باكير

فازت ليز تروس بسباق الزعامة في حزب المحافظين، لتصبح رابع رئيس/ة وزراء بريطاني/ة لحزب المحافظين خلال ست سنوات. مما يعكس حقيقة عمق الأزمة التي سترثها ليز تروس، كارتفاع أسعار الطاقة و «التضخم»، والغضب الشعبي، وغيرها من الأزمات المتفاقمة والمتسارعة محلياً ودولياً.

اليوم الأول في رئاسة الوزراء:

كان يوم ٧ سبتمبر اليوم الأول فعلياً لتروس في منصبها، حيث قامت بإنهاد تعييناتها الوزارية، وكانت لها الفرصة الأولى لموجهة خصمها السياسي زعيم حزب العمال البريطاني «كير ستارمر» في مجلس العموم، حيث تركز السجال بينهما حول مسألة كيف ستحقق تروس وعودها والمضي قدماً في خطط تجميد فواتير الطاقة وخفض الضرائب لإنعاش الاقتصاد، وامتناعها عن فرض ضرائب «windfall taxes»١ على الأرباح الكبيرة التي حققتها عمالقة شركات الطاقة، والتي بحسب عاملون في الخزينة البريطانية قد تصل إلى ١٧٠ مليار جنيه استرليني. 

وقال ستيرمر لليز تروس عندما واجهها بمجلس العموم: 

” رئيسة الوزراء ليز تروس تعلم أن ليس لديها أي خيار آخر غير دعم قرار تجميد فواتير الطاقة، ولكن الثمن لن يكون سهلاً، ولكن السؤال الحقيقي والسياسي يبقى، من سيدفع هذا الثمن؟

هل ستقوم بترك هذه الأرباح الجسيمة على الطاولة، وتجعل الناس العاملين يدفعون الثمن لعقودٍ قادمة“.

وجاء رد ليز تروس بالمقابل قائلةً:

” أنا أتفهم أن الناس في بلادنا يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة وفواتير الطاقة، ولهذا سأقوم أنا، وبصفتي رئيسة الوزراء، باتخاذ إجراءات فورية لمساعدة الناس لتخطي هذى الشتاء، وسأقدم بياناً عن ذلك في هذا المجلس غداً. 

ولكن لا يمكننا وحسب التعامل مع أزمات اليوم وترقيعها بشريط لاصق. ما يجب فعله هو زيادة وارداتنا من الطاقة على المدى البعيد. لهذا سنقوم بالتنقيب في بحر الشمال، والذي بالمناسبة، قام هذ السيد المحترم بمعارضة هذا القرار” بالإشارة إلى كير ستارمر“. 

وسنقوم أيضاً ببناء المزيد من مفاعلات الطاقة النووية، الشيء الذي لم يقوم به حزب العمال عندما كان في السلطة.

ليز وشركات الطاقة: 

من المهم الإشارة إلى أن شركات الطاقة قد عبرت مراراً عن جنيهم لأرباح كبيرة في سنوات الأزمة الأخيرة لدرجة أنهم لا يعرفون على ماذا سينفقونها. وقال مدير عام شركة «BP»٢ أن ضرائب «windfall taxes»، حتى ولو فرضت، لن تؤثر على خططهم الاستثمارية.

مع ذلك تصر تروس على اتباع نهج سياسي ضد فرض أي ضرائب كبيرة على الشركات، كالنهج الذي اتبعه سابقاً جورج أوزبيرن٣، والذي قضت خطته بحماية أرباح شركات النفط والغاز. وقال ستارمر خلال مواجهته في مجلس العموم:

” ليس هنالك من جديد عن المحافظين التوريين (حزب المحافظون اسمه التاريخي هو حزب التوري) وفنتازيات «Trickle-down economics»٤، ليس هنالك من جديد عن رئيسة الوزراء هذه وكيف هزت برأسها بالموافقة على كل قرار أدى بنا إلى هذه الفوضى“.

 طبعاً كان رد تروس محافظاً ثاتشرياً بامتياز عن أن ستارمر لا يمكنه استيعاب أهمية خفض الضرائب لجذب الاستثمارات وزيادة فرص العمل وما إلى ذلك.

لا شك أن الانقسام الأيديولوجي باتساع بين حزبي العمال والمحافظين وأكبر مما كان عليه أيام رئاسة بوريس جونسون، نظراً إلى إنتهاج التوريين المحافظين سياسات اقتصادية أكثر يمينية، وذلك خلافاً لسياسات بوريس جونسون، الذي كان ينظر إليه من قبل المحافظين على انه أكثر ميولاً إلى إفساح المجال لتدخلات الدولة في السوق. 

أوجه الشبه بين ليز تروس والمرأة الحديدية مارغريت تاتشر(1979-1990):

كمَثل السيدة تاتشر، لطالما كانت ليز تروس من اشد المدافعين عن النزعة الفردية، ولديها شك وحساسية غريزية من أل «welfare state» أو دولة الرفاه، والنقابات العمالية. حيث وصفت العمال سابقاً بالعاطلين.

وتؤمن تروس بتحرير القطاع المالي وتقليل البيروقراطية، وجعل النظام الضريبي أكثر بساطةً. وقالت واصفةً للفايننشال تايمز في وقتٍ سابق التغيرات التي قامت بها تاتشر:” لقد فعلنا أشياءً عظيمة في الثمانينات“من حيث الغاء التأميمات للبريد والسكك الحديد والمناجم التي قام بها حزب العمال في زمن كليمنت إيتلي بالنصف الثاني من الأربعينيات بعد هزيمته لحزب المحافظين بزعامة وينستون تشرشل في انتخابات تموز 1945، ومن حيث اتجاه تاتشر إلى تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد وفق توجه الليبرالية الجديدة.

من الواضح حتى الآن أن طريقة تعامل ليز تروس مع ملف كبار شركات الطاقة كان فيه تاتشرية أكثر من مارغريت تارتشر نفسها. 

ففي عام ١٩٨١، قامت حكومة المحافظين وقتها برفع أسعار الفائدة لمستوى كبير من قبل بنك إنكلترا، والذي أدى إلى تحقيق أرباح كبيرة للمصارف، مما دفع تاتشر إلى فرض ضرائب «windfall taxes» على المصارف. وهو الشيء الذي تحاول تروس الحؤول دونه مع شركات الطاقة، بمحاولتها الامتناع عن فرض ضرائب على ال١٧٠ مليار جنيهاً من الأرباح الغير مستحقة. 

أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة على الأبواب: 

وفقاً لآخر تقارير العملاق البنكي غولدمان ساكس، يرجح وصول التضخم في المملكة المتحدة إلى ٢٢٪ في أوائل العام المقبل ٢٠٢٣، وهي مستويات لم تشهدها البلاد منذ السبعينات.

علاوةً على ارتفاع أسعار الطاقة الكبير، وانخفاض قيمة الأجور والقدرة الشرائية، قد يواجه الملايين من البريطانيين احتمال وقوعهم في الفقر. ومع تمسك ليز تروس بخيار عدم فرض الضرائب على شركات الطاقة، قد ترى الطبقة العاملة نفسها مجبرةً على الدفع إما من خلال ارتفاع أسعار الفواتير، أو مزيد من سياسات التقشف في المستقبل، أو ربما كليهما. 

علاوة على ذلك، هددت تروس بتعليق اتفاق «بروتوكول أيرلنديا الشمالية»٦ فور وصولها إلى الحكم. مما قد يؤدي إلى صدامات تجارية مع أوروبا. كل ذلك في وقت يُتوقع فيه بالفعل أن يكون أداء الاقتصاد البريطاني أسوأ من أي اقتصاد آخر في مجموعة العشرين، باستثناء روسيا. مما سيضع تروس وحكومتها أمام أكبر تحديات شهدتها البلاد. مع مواجهة أزمة قد تكون الأكبر في مئة عام. 

ويكمن تحدي كبير آخر مع تزايد موجة الإضراب وانتشارها في كل من القطاعين العام والخاص، حيث يواجه العمال في بريطانيا تخفيضات حقيقية في الأجور، وارتفاع تكاليف الوقود والطاقة. فقد نظم عمال السكك الحديدية في اتحاد عمال RMT، بقيادة «ميك لينش»٧ إضراباً عاماً. وانضم إليهم سائقو القطارات المنظمون في ASLEF. كما اتخذ ١١٥٠٠٠ موظف في شركة البريد الملكية Royal Mail إجراءات بشأن الأجور والشروط، في أكبر إضراب بريدي منذ عقود.

وعدت تروس بالتعامل مع المد المتزايد من الإضرابات التي اجتاحت مختلف القطّاعات من خلال إدخال المزيد من القوانين المناهضة للنقابات، مصرحةً بأنها” لن تسمح للنقابيين المتشددين باحتجاز بريطانيا مقابل فدية“.

يرى البعض أن مثل هذه الخطوة كمَثل اللعب بالنار، ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة، مما يؤدي إلى احتجاجات وصدامات أكبر مع العمال المنظمين.  يقول غاري سميث، الأمين العام لـ GMB، أكبر اتحاد صناعي في بريطانيا:

”إن عدد أماكن العمل والقطاعات التي تصوت للإضرابات يعكس مزاجًا عاماً من السخط والتحدي بين صفوف العمال“.

هل سيعيد التاريخ نفسه؟

تم تقديم ليز تروس خلال حملتها الانتخابية على أنها من الموالين الأوفياء لسابقها بوريس جونسون بخلاف الكثيرين كالوزير ساجد جافيد، بل وراهنت على الجانب الأقوى. كما وكان لها تاريخ حافل في تغير مواقفها، فبعد أن كانت عضوة في الحزب الديمقراطي الليبرالي، دعت لإلغاء الملَكية البريطانية. أصبحت فيما بعد من المحافظين في التسعينيات (هي من مواليد 1975)، وقالت في خطاب نجاحها بالانتخابات:” ناديت بحملتي بسياسة محافظة، وسأحكم كمحافظة“. 

كما وكانت ضد البريكست بدايةً، إلى أن انقلبت في آرائها بعد عام ٢٠١٦، لتصبح من الداعمين للتجارة الحرة ضد سياسات الاتحاد الأوروبي. 

ولكن السؤال الأهم هنا، هل ستتمسك ليز تروس هذه المرة بمواقفها ونهجها التاتشري (تحجيم دور الدولة، ضرائب أقل.إلخ) …؟

يقول كارل ماركس:” التاريخ يعيد نفسه، مرة كمأساة، وأخرى كمهزلة“، فهل ستنطبق مقولة ماركس هذه المرة على رئيسة الوزراء ليز تروس؟

هوامش

١ ضريبة المكاسب المفاجئة: هي ضريبة تفرض لمرة واحدة على قطاع بعد تحقيقه أرباحًا ضخمة من شيء لم يكونوا مسؤولين عنه.

٢ “بريتش بتروليوم”: هي شركة نفط وغاز بريطانية مقرها في لندن، إنجلترا وهي واحدة من «كبار» شركات النفط والغاز السبعة في العالم.

٣ جورج أوزبيرن، عضو في حزب المحافظين ومجلس العموم، وكان قد شغل مناصب عديدة منها سكرتير الدولة الأول ومستشار الخزانة (وزير المالية).

٤ نظرية اقتصادية تنص على أن الإعفاءات والمزايا الضريبية للشركات والأثرياء ستؤدي تلقائياً إلى وصول الثروة نزولاً إلى الطبقات الدنيا.

٥ من مقال بعنوان «؟ How similar is Liz Truss to Margaret Thatcher»، صحيفة الانديبيندنت البريطانية. 

٦ هي اتفاقية بين المملكة المتحدة وإيرلندا تنص على أن تظل جزيرة إيرلندا بأكملها في السوق الموحدة مع حدود جمركية في البحر الإيرلندي، لتحتفظ إيرلندا الشمالية عملياً بقدم في كلا النظامين، البريطاني والأوروبي.

٧ هو نقابي بريطاني وشخصية عامة. شغل منصب الأمين العام للاتحاد الوطني لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل (RMT) منذ مايو 2021.

من العدد ٦٨ من جريدة المسار